مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

الحكاية الشعبية: وحدة التفكير البشري

الحكاية الشعبية دليل على وحدة التفكير البشري، ودليل كذلك على عدم صحة الاتهامات التي توجه لبعض الشعوب، ومنها الشعوب العربية بدعوى قصور تفكيرها ونزوعها نحو التجريد. والثابت أن المجتمعات الإنسانية عرفت هذا النوع من الأدب، والذي يطلق عليه عادة الأدب الشعبي بمختلف أشكاله التعبيرية، ورغم التعريفات التي أعطيت لهذا النوع باعتباره كل ما أبدعه الإنسان من أشكال التعبير كانت نظماً أو نثراً بلغة يتكلم بها أفراد أمة ما سواء عرف مبدعه أو لم يعرف، فإن هذا التعريف يظل قاصراً، لأننا نجد أنفسنا أمام مجال واسع وفضفاض يتسع لأشكال كثيرة من أنماط التعبير من أمثال وألغاز وأشعار وحكايات تعبر عن إبداع طبقة من الشعب ليس لها ثقافة تؤهلها للتعامل مع الأدب النخبوي كما هو الحال في الأدب العربي الفصيح. وهذا التنوع في الأدب الشعبي يرجع فيما نعتقد إلى سببين رئيسين: رحلة الإنسان الطويلة مع هذا النوع، وحاجته إليه للتعبير عن رؤاه ونظرته للحياة والطبيعة وشكل من أشكال أسماره، وثانياً هذه المرونة التي تميز هذا النوع، حيث نجده قابلاً للتغير والإضافة والزيادة والتكيف وذلك بتغير الزمان والمكان والراوي، بمعنى أن الذاكرة الإنسانية لها القدرة على التعامل معه بحرية كبيرة ومن خلال تفاعلها مع أحداث المجتمع، ولعل من أهم أشكال هذا الأدب ما يعرف بالحكاية الشعبية، أو أحياناً الخرافة رغم الفرق بينهما ذلك أن الحكاية الشعبية ذات بنية بسيطة وتؤخذ مأخذ الحقيقة، فهي جادة بينما الحكاية الخرافية مركبة وذات طبيعة تجريدية وتجمع بين الجد والهزل.
ويشكل الراوي وسيطاً مهماً بين الخطاب (مضمون) والمخاطب (المستمع)، أما مصدر الحكاية بنوعيها أي (المؤلف) فهو غائب وحضوره ليس ضرورياً، فالمتلقي ما يهمه هو متن الحكاية وشكلها وعناصر الإثارة فيها، فهو لا يهمه حتى مدى مطابقة الحكاية للواقع. وتبرز وحدة التفكير البشري في الحكاية وغيرها في هذا التشابه الموجود بين حكايات الشعوب، فما يتغير هو البيئة والأسماء والطبيعة أما مضمون الحكاية يظل ثابتاً، ومثال ذلك ما ذكره محمد الفاسي من خلال اهتمامه بهذا الفن من أن الباحثين أحصوا لإحدى الحكايات خمسمائة رواية تتفق في جوهرها، وهي حكاية البنت اليتيمة التي تعاملها زوجة الأب بقسوة وتنام في المطبخ، ويقع اختيار الأمير على الفتاة للزواج بها، فتسمى مثلاً في المغرب عائشة رمادة، ويسميها الفرنسيون cendrillon.
والملاحظ أن التراث العربي لم يول اهتماماً كبيراً لهذا النوع من الآداب، فقد انصب الاهتمام على الشعر العربي وبعض أشكال السرد الأخرى كالخطابة.. وظل هذا النوع هامشياً حتى عند النقاد المعاصرين، ويعود السبب إلى ضعف البناء اللغوي لهذا الفن وعناصر أخرى لا تلائم الذوق العربي العام، ولعل أبرز مثال كتاب ألف ليلة وليلة والذي له شهرة واسعة في الغرب، ولا تكاد تسأل قارئاً غربياً عن كتاب عربي قرأه لا يتردد في ذكر هذا الكتاب. لماذا ؟ عندما نقل إلى اللغات الأوروبية، حاول المستشرقون التوفيق بين الأصل الشرقي والذوق الغربي العام كما فعل المستشرق الفرنسي أنتوان جالان عندما ترجم الكتاب سنة 1704م.
وتتجلى كذلك وحدة التفكير البشري في بداية الحكاية العربية الشعبية حيث تبدأ غالباً بكان يا مكان، ثم إضافة لازمة أخرى تختلف باختلاف المكان ففي العراق مثلاً يضيفون كان يا مكان الله ينصر السلطان، وفي المغرب كان يا مكان الحبق، والسوسن في حجر النبي العدنان. بل نجد أحياناً امتثالاً وحكايات في الكويت أو سوريا.. لها ما يقابلها في المغرب أو الجزائر، بل ما يقابلها حتى في الآداب الغربية، والأمثلة على ذلك كثيرة، ثم هذه النظرة للمرأة في معظم الحكايات حيث تلعب دوراً بارزاً في سيرورة الأحداث، فهي تكون هدفاً يسعى البطل للوصول إليه، أو تدفع به إلى المغامرة.. فدورها يتوزع بين الحبيبة والأم والزوجة، وأحياناً أخرى تكون كاهنة ساحرة، ومن نماذج هذا التشابه في هذه الوحدة تلك الحكايات الشعبية التي يبدأ فيها القتال بين فارسين ويستمر الصراع سجالاً، ويكتشف المنتصر أن عدوه امرأة حسناء، فيتحول العداء إلى بداية قصة حب. إن قيمة الحكاية الشعبية العربية تستمد قوتها انطلاقاً من هذا التفاوت الكبير بين اللغة العامية الشعبية واللغة الفصحى، لذلك عرف هذا النوع من الأدب ازدهاراً كبيراً بخلاف اللغات الأوروبية حيث لغة الكتابة هي قريبة من اللغة العامية لذلك كانت الإنتاجات في هذا المجال ضعيفة لديهم.
إن الحكايات الشعبية تراث سردي غني والمبدعون العرب من مسرحيين وروائيين ملزمون بالرجوع إليه من أجل كتابة نصوص لها خصوصيات مميزة، بدل التهافت نحو كتابة روائية بخصوصية غربية، فالقارئ الغربي عندما يتطلع على مثل هذه الأعمال يقول: هذه بضاعتنا ردت إلينا على تعبير الدكتور عبدالفتاح كليطو والمتأمل لبعض روايات أمريكا اللاتينية سيدرك نجاحها عالمياً رغم طابعها المحلي كروايات كابرييل غارسيا ماركيز التي يمتزج فيها الواقعي بالعجائبي. لكن من المؤسف أن نلاحظ اليوم بداية انقراض الطابع الحكائي لهذا الفن، ليصبح أسيراً بين الكتب بدل الاستماع إليه من الأفواه، وبالتالي غياب ذلك التواصل الحميمي بين أفراد الأسرة بسبب حضور التكنولوجيا الطاغي في حياتنا اليومية.


pantoprazol 60mg oforsendelse.site pantoprazol iv
ذو صلة