لازم فن النحت مختلف الحضارات الإنسانية, وتفنن الإنسان على مر العصور في محاكاة الطبيعة, فشكّل من مواد مختلفة منحوتات تلبي بدايةً حاجاته الأساسية, ثم لاحقاً أشبع رغباته الجمالية, مظهراً قدراته في واحد من أرقى الفنون التي عرفتها الإنسانية.
وعلى اعتبار فن النحت من بين الفنون الجميلة التي مرت على امتداد التاريخ بتغيرات واسعة تستحق الوقوف معها, ومحاولة استقراء أماكن وجودها والاهتمام بها على امتداد الخارطة العربية؛ استضافت (المجلة العربية) نخبة من الكتاب المهتمين للحديث عن هذا الفن.
تحدث بداية الفنان أحمد بن عبدالله البار حول فن الفخار والخزف, مبيناً اهتمام الحضارات المختلفة منذ أقدم العصور بهذا الفن بقوله: يهتم منقبو الآثار والباحثون عن حياة الشعوب بالفخار؛ إذ إنه حرفة وصناعة مارسها الإنسان منذ قديم الزمان في بقاع الأرض التي عاش فيها, ومارس صنع احتياجاته. من هنا نتبين أن تاريخ الفخار حافل بما يستوجب دراسات واسعة النطاق, والفخار خلال تلك الرحلة الطويلة سجل طبائع وتقاليد البشر المتباينة ومعتقداتهم في الحياة الدنيوية والأخروية.
وبالنسبة للفنون الإسلامية يقول البار إن الفخار والخزف من أهم الحرف الفنية التي مارسها الفنان المسلم, منذ أن توطدت أركان الإسلام في البلاد المختلفة؛ حيث أن هذا الفن حقق فكرة الحضارة الإسلامية في جوانب متعددة. فروح الإسلام السمحة لا تتماشى واستخدام خامات غالية الثمن مثل الذهب والفضة؛ ولذلك أقبل الفنانون المسلمون والعرب منهم خاصة على فن الخزف إقبالاً عظيماً، واستطاعوا أن ينتجوا خزفاً على مستوى عالٍ من حيث القيمة الفنية، ولم يكتفوا بذلك بل وصلوا إلى أن يكون إنتاجهم الخزفي يصلح من حيث الفخامة والجمال لأن يكون بديلاً لأواني الذهب والفضة باستعمالهم تقنية تسمى بالبريق المعدني التي تعتبر صفة انفرد بها الخزف الإسلامي.
ونشير باختصار إلى مراحل تطور فن الخزف في مختلف البلاد العربية في إطار ما هو معروف من وحدة الحضارة العربية في مختلف الأقاليم، بحيث يبدو الإنتاج في البلاد العربية كافة له مسحة الحضارة العربية مع اختلافات بسيطة بالنسبة للأقاليم أو البلاد التي أنتجته.
وقد شمل إنتاج الخزف جوانب متعددة أمام احتياجات الناس اليومية، سواء أكانت هذه الاحتياجات عامة أم خاصة، فقد صنع الفنان المسلم بلاطات الخزف على أشكال مختلفة لكسوة الجدران، وكذلك بعض المحاريب والفناجين والأقداح والكؤوس والصحون والسلاطين والأكواب والقوارير والأباريق والأزيار والمسارج.
أما عن كيفية التعامل معه هذا الفن فتختلف من فنان لآخر, وذالك حسب الخبرة التي اكتسبها الفنان في هذا المجال, فهناك طرق عديدة لعمل الخزف. حيث أن الطينة تمر بمرحلتين في الغالب، المرحلة الأولى تسمى حرق البسكوت, وهي في دخولها للمرة الأولى في فرن خاص لقطعة الطينة, وتكون في درجة حرارة من 500 إلى 600 تقريباً. بعدها تدخل القطعة في المرحلة الثانية, وتسمى مرحلة القليز, وتكون في درجة حرارة من 900 إلى 1000 أو 1100, وذالك حسب القليز والأكاسيد المستخدمة في ذالك. وهناك ألوان مختلفة وعديدة للقليز, فمنها الشفاف والمطفي والمتشقق والمتفجر واللميع وأكاسيد الحديد والكروم والبرونز والفضي وغيرها.. وطريقة تلوينها إما بالفرشاة أو تغطيس كامل القطعة في إناء أو رشها مباشرة، وهنا يعتمد على رغبة الفنان في تلوين القطعة. ومن الأفضل أن تلون القطعة بعد حرقها في المرحلة الأولى (مرحلة البسكوت).
وفيما يتعلق بطرق عمل الخزف فهناك طريقة تعتمد على القالب المعمول من الجبس، حيث أن الجبس والطينة تنفصلان عن بعضهما البعض حين تنشف الطينة. وطريقة القالب لابد أن تذاب الطينة لتصبح سائلة جداً, وفي كثافة معقولة ليست بثقيلة وليست بخفيفة.
والطريقة الثانية طريقة عمل المجسم الحر, وذالك بفرد الطينة بواسطة الفرادة الخشب وإقامة المجسم, وتلحيمه تماماً لكي لا يتعرض للتشقق أثناء جفاف القطعة أو أثناء حرق القطعة. وهناك طريقة ثالثة, وهي عمل معلقات من الخزف عن طريق شرائح أو عن طريق الرسم مباشرة على القطعة المفرودة. كذلك يمكن أن نقوم بالحذف والإضافة بمعنى أن نعمل وحدات زخرفيه وتراثية وإسلامية في نفس المجسم أو نفس الملعقة, بالتشكيل والرسم بأدوات الطينة, ويفضل أن تكون من الخشب. وهنا من المهم أن نقوم بهذا حينما تتماسك الطينة شيئاً فشيئاً. حيث أننا من الصعب أن نقوم بالتشكيل والرسم والحذف والإضافة من الطينة وهي في حالة تماسك, كما لا يمكننا ذلك أيضاً حينما تجف الطينة تماماً. وهناك طريقة أخرى أيضاً وهي التشكيل بالحبال, والتشكيل بواسطة الضغط.
وعمل الطينة والمجسمات الخزفية بكافة أنواعها عمل ممتع جداً يكسب الفنان مهارة عالية في الأداء والتكوين والجراءة في التلوين. ولابد أن يتعامل معها الفنان بإحساس عالٍ حتى ينتج ويبدع.
ويختم البار: أتمنى أن تكون هناك معارض خاصة للخزف, وأن يكون الاهتمام به أكثر وأكثر, وذلك بإقامة الندوات وورش العمل والمعارض وتبادل الخبرات في هذا المجل مما يثري الرؤية البصرية للفنان والمتلقي.
ويقول الفنان خالد الصوينع من عنيزة: فن النحت هو أحد الفنون التشكيلية التي تحتاج إلى موهبة وثقافة عالية وصبر كبير. وهو من الفنون الميكانيكية إذ يعتمد بدرجة كبيره على الجهد العضلي. وعندما تمر كلمة النحت في الفن التشكيلي يظن البعض أنها قطعة من خامة الرخام أو الحجر يتم تشكيلها حسب رغبة الفنان من خلال حجمها وتأثرها بالغرض الوظيفي. لكن الحقيقة هناك خامات عديدة ومختلفة من صلب إلى مرن مثل الرخام والصلب والحديد والنحاس والمعادن وكذلك الطين والخشب والجبص والشمع, كما توجد أنواع مختلفة من أعمال النحت, منها ذات الأشكال المجسمة, وتتكون من إبعاد ثلاثية يتم فيها تشكيل العمل ليعطي انطباعاً واقعياً يمكن مشاهدته من جميع الاتجاهات.
أما النوع الآخر من النحت فهو النحت البارز الذي غالباً يتم تشكيله على الأسطح ذات الملمس الناعم والملمس الخشن. وتختلف جميع هذه الخامات من ناحية التعامل معها وتطويعها للوصول إلى الشكل المطلوب. فمثلاً عند استخدام الرخام أو الحجر لعمل فني فإنه يصعب التعامل معه وتطويعه وتشكيله على المطلوب لصلابته, بالإضافة إلى المدة الطويلة المستغرقة في إنتاج العمل الفني. ولكن تتميز هذه الخامة في بقائها مده طويلة من الزمن بخلاف مادة الخشب التي يسهل التعامل معها وتطويعها للوصول إلى أشكال مرغوبة لكنّ بقاءها يقل عن مادة الرخام والحجر.
ورغم الصعوبة في فن النحت وصعوبة التعامل مع خاماته الصلبة إلا أنه يأتي بعد التصوير في الروعة والجمال؛ لأن المصور لديه العديد من الألوان التي يكونها بنفسه, فهو أبلغ وأسهل للوصول إلى ما يريده الفنان, وكذلك سهولة معرفة العمل التصويري لدى المتلقي, بالإضافة إلى تجسيد العناصر من خلال الظل والنور التي يحددها المصور بنفسه؛ بخلاف النحت الذي هو خالٍ من الألوان وجمالها, والأضواء المسلطة على المنحوتة قد تخدم العمل وقد تضره.
وإذا قلنا إن النحات يبذل جهداً بدنياً كبيراً, من خلال أدواته المستخدمة في عمله الفني, بما فيها إزعاج أصوات الدريلات والصاروخ ذو الأقراص المعدنية المختلفة وخطورتها على جسمه؛ فأننا نقول أيضاً إن المصور يبذل جهداً فكرياً وتدريبات عقلية مستمرة للوصول إلى نتائج أفضل. وذلك من خلال التخطيط وكذلك التكوينات اللونية عبر فرشاته. ولكن يتميز بعدم وجود خطورة مثل النحت.
ومن جانب آخر فإن أغلب المنحوتات تكون ثقيلة, لذلك يصعب نقلها من مكان لآخر بخلاف اللوحات التي تتميز بخفة وزنها وسهولة نقلها من مكان لآخر.
والنحات أثناء عمله يكون حذراً جداً من خلال أخذ المقاييس بدقه ومعرفة الكتل المطلوب إزالتها. لأن أي خطأ يقع فيه لا يمكن تصحيحه ومعالجته بعد إزالة الزيادات غير المطلوبة لذلك يصعب إرجاعها. أما فن التصوير فإن المصور يستطيع تعديل أخطائه عدة مرات وبسهولة.
أما الفنان نهار مرزوق فيبدأ مبيناً الأصل اللغوي لكلمة النحت, ويقول إنها من المسائل التي تناولها علماء اللغة العربية قديماً, إذ نجد فقه اللغة يفرد باباً خاصاً بها, وبعضهم أشار إليها عرضاً في موطن أو مواطن من كتابه. ومما قيل في ظاهرة النحت قديماً -على سبيل الإيجاز- للتعريف فيها:
النَّحْتُ: النَّشْرُ والقَشْر. والنَّحْتُ نَحْتُ النَّجَّارِ الخَشَبَ نَحَت الخشبةَ ونحوَها يَنْحِتُها ويَنْحَتُها نَحْتاً فانْتَحَتَتْ, والنُّحاتة ما نُحِتَ من الخَشَب ونَحَتَ الجبلَ يَنْحِتُه قَطَعَه, وفي التنزيل (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين), (الحجر:82). ونَحَتَ السَّفَرُ البعيرَ والإِنسانَ نَقَصه. والحافرُ النَّحِيتُ الذي ذَهَبَتْ حُروفه.
وقيد بعضهم النحت في الشيء الذي فيه صلابة وقوة كالحجر والخشب ونحو ذلك.
أما الطين فهو يشمل الحذف الإضافة, من هذا يتبين أن في النحت معنى الاختصار والاختزال والتسوية والتشذيب.
إن بين قطعة كقبضة اليد من الطين, وقطعة أخرى؛ خلق شكل يخاطب الروح
ويداعبها فعلاً, فاللون وإيماءة الطينة وتشكيلها شاعرية, ولها إيماءة وإيحاء بلغة صامتة تهمس للقلوب في رقراق عذوبة تناجي المتذوق لتأسره وتسحره، ولن يجد أمامه سوى الخط والمساحة وخربشات الروح في النسيج الفني الأصيل, لتنسج الإبداع بالطينة عندها يرتسم البهاء والفرح والحزن والجمال والوجوم في شفافية روح الفنان وإطلالته ورمزيته. فألق أنامله يشع بألق الحياة
فيأتي هذا العطاء بالسحر حيناً والدلالة البصرية للروح الخلاقة حيناً آخر.
نريد التوسع في استخدام الفنان للخزف كعمل إبداعي خلاق, وهو من أهم حاجات فنوننا الإسلامية المعاصرة التي كان لنا فيها السبق والريادة, فلا يجب علينا الآن وقد توافرت لنا كل مقومات المعاصرة بالتخلي عنها للآخر،
وإنه لا سبيل بدون ذلك إلى أغنائها بما تحتاج إليه من الأطروحات العلمية المتنوعة الجديدة للخزف لنواكب ما وصل له الخزافون حول العالم. ومما لاشك فيه أن أدوات الخزف وأساليب استخدامه كلها في ارتباط وثيق بالفنان الذي يتملك قدرات خاصة في صياغتها, ولا يمكن أن نفكر في طرف دون الآخر. فكل المثقفين بيدهم أن تحيا هذه الخامة من جديد بحياة فنانيها واستخدامهم لها، بحيث لا يمكن أن نتخيل تطور الخزف ورقيه إلا بتطور فنانيه وعودتهم له والتعبير والتشكيل به في شتى ساحات الثقافة والإبداع، ولا تزدهر هذه الخامة إلا بازدهار مؤثرات تنبع من مقدرات فنانيها واستخدامهم لها في مجالات شتى ونواحٍ مختلفة من المساحات المخصصة للتعبير بها وعنها, وكذلك وجود مقتنين يساهمون في اقتنائها والحرص على جمعها وتشجيعها. وعظمتها في وقت ما تنبع من اهتمام بالغ من الفنانين والفنانات أنفسهم. على هذا الأساس، إذا أردنا أن يسترجع الخزف مكانته التي يستحقها؛ فلا بد من الاهتمام بتحسين الوعي الفني من قبل أربابها, خاصة في الجامعات ومعاهد الفنون المهتمة بها, بوضع برامج تعليمية جديدة تشمل نواحيها المختلفة والعناية البالغة بالمكتشفات والمخترعات الحديثة والأجهزة التي تستخدم لتعطي المهتمين بها مقدرة على الارتقاء إلى درجة الإبداع في هذا المجال. لقد اشتهر الفنانون المسلمون قديماً بالخزف وتلوينه بقليزات خاصة حتى أوجدوا ألوانا ذات بريق معدني, وهذه مراحل توصلوا لها بقدراتهم الفنية البسيطة في ذلك العصر, كذلك في فنون النقش والرسم على الأواني والفازات والبلاط والكثير من الإبداع كان حليفهم عندما ابتعدو عن تقليد الإغريق والرومان ليضعوا منهجهم الذي انتهجوه بالبعد عن استخدام المعادن النفيسة وإبداعهم بالتلوين بالألوان ذات البريق المعدني.
في غمرة النظرة السوداوية من الكثيرين يصر الفنان المبدع على نهج طريق معاكس والتصدي للسوداوية باستخراج الجمال من لب الحزن, من أجل انتشال الروح ومساعدتها للنظر للحياة بمنظار بمبي والحفاظ على توهجها. لا تتنازل قط عن صياغاتك الجميلة لأفكارك ومشاعرك, أنت تستطيع بقدراتك ووعيك وفكرك أن تجسّر الهوة بين الجمال المحض للعمل ومضمونه التعبيري.
إن اهتمام الفنان باللون واهتمامه بالكتلة هما قيمتان أساسيتان متكاملتان في أعماله التي يجب عليه الحرص عليها. ولنسخّر معرفتنا بفني الرسم والنحت للارتقاء بفن الخزف إلى خارج حدود التقليد, حين نضفي عليه مسحة تعبيرية لها طابع حداثي يشمل رسالة ثقافية معاصرة.
يستطيع الفنان أو الفنانة أن يجعل من أشكاله الخزفية وسيطاً بين فني الرسم والنحت, ويبرع بتقديم نماذج مثيرة للدهشة بكمال صنعتها, وقدرتها على بث مضامين تعبيرية نابعة من رؤية ذاتية.
وسيتحول إلى السطح الخزفي الذي يستغله الفنان بالرسم عليه بضربات لونية متداخلة بإتقان, حرة ومختزلة, قادرة على أن تثير فينا الإحساس العالي بالجمال, بقدر ما تؤثر فينا. فالذهبي مثلاً يشير إلى صلة خفية بين صنعة موروثة كان يتبعها الخزّافون المسلمون, وحداثة ذات طابع شرقي.
أما الفنان فيصل صالح النعمان فيقول عن تجربته في النحت كانت بدايتي من الصغر, من خلال العبث بالطين والرمل والصلصال الصناعي.. وكان ذلك العبث هو شغفي الذي توقف من سن العاشرة حتى عاد بعد ما بلغت سن الثامن والثلاثين, وكانت مع الأخشاب, فبداية بالخشب السويدي, وهو من الأخشاب السهلة الجميلة, ومن ثم تعاملت مع الأثل والكين والمشمش والليمون والزيتون, وقد قدمت أعمالاً من الأخشاب في مهرجان الزيتون الأول والثاني, وصممت للمهرجان الدروع المقدمة في الافتتاح لصاحب السمو أمير الجوف وضيوفه. وبعد أن شاركت في معارض ومهرجانات انتقلت إلى الحجر وهي الانطلاقة الحقيقية لي مع النحت, وكنت أبحث عن خامة لما في نفسي؛ لأني في مرحلة التوقف عن النحت كانت الخامة لدي هي الكلمة, وبعد أن وصلت إلى التعبير بخامة صامته انتهت علاقتي بالشعر نوعاً ما. وأصبحت الصورة الشعرية بصرية وليست سمعية. ويضيف: الشعر والنحت هما الأداتان الآن في التعامل مع النحت, علماً بأنه لم يعلمني أحد لا في شعري ولا نحتي فقد تعلمت من أخطائي الصواب.
ويتابع: بدأت أشارك خارج المنطقة وأتعرف على النحاتين بالمملكة. وكانت الورش التي نجتمع بها منهلاً للجميع مضيف ومستضيف, وطورت نفسي بنفسي, وشاركت في الكثير من المعارض على مستوى المملكة حتى وجدت لاسمي مكاناً مع كبار الفنانين.