خلق الله الإنسان بعينين لا بعين واحدة ليكون قادراً على تمييز الأشكال ورؤيتها ببعدها الثالث بأفضل ما يكون، إذا أن المسافة بين العينين تساعد على رؤية الشيء من زاويتين الأمر الذي يزيد من قدرة العقل على إدراك البعد الثالث، وقد أدرك علماء البصريات ذلك فصنعوا كثيراً من أجهزة الرؤية بعدستين لا بعدسة واحدة (ستريوسكوب). وللأشكال قوة تعبيرية أدركها الإنسان مذ خُلق, وعكست مشاعره وأحاسيسه وثقافته. وحين تاهت منه الفطرة خشيها أحياناً وقدسها أخرى وأقام عندها الطقوس والاحتفالات، إلا أنه بهر بجمال بعضها فحماها، وأدرك الكمال الفيزيائي لبعض الأشكال فقلدها.
وانعكست تلك الأشكال في كل الحضارات على منتجاته الحضارية, فظهرت في شعره وفي رسمه وفي مصنوعاته، وربما صنع لها نماذج من الطين أو الأحجار بمختلف أنواعها, ويمكن تلمس ذلك في أقدم مصنوعات الإنسان, ومنها رؤوس السهام الصوانيّة, وفي أحدث منتجاته من الطائرات المقاتلة. وهما يمثلان في نظري أنموذجان للكمال النحتي المستلهم من الكائنات الحية كالطيور والأسماك والمعرفة بحركية الهواء. ولم يكن العرب بدعاً من الناس فقبل الإسلام ظهرت رموز نحتية طبيعية في شعرهم, ومن ذلك قول امرئ القيس:
فيالك من ليل كأن نجومه
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
كأن الثريا علِّقَتْ في مصامها
بأمراس كِتّان إلى صمِّ جَنْدَلِ
ويذبل جبل جرانيتي بعالية نجد يلفت الأنظار بشكله وارتفاعه.
كما طاف العرب بجمالهم تبركاً حول العَبْلة وهي تلال المرو، وعبد بعضهم صخرة مثل ذي الخلصة. واستلهموا معاني وصوراً تشبيهية لبعض المظاهر, مثل قول الشاعر مشبهاً خشوم جبل العارض (طويق) بقوم جردوا أسيافهم للحرب:
وأَقبَلَتِ اليَمَامَةُ واشْمَخَرّت
كأسيافٍ بأيدي مُصْلِتِينا
وقد ولعت الشعوب على اختلافها بتصوير الكائنات الحية, وعلى رأسها الإنسان, فعكست إعجاباً بتصميمها المذهل, وتصويراً لحالات إنسانية. ولم يخل الأمر من تقديس أحياناً وارتباط بالسحرِ والشعوذة والأساطير, فصنعوا تعاويذ منحوتة تحفظ المتاحف كثيراً منها. وصورت بعض الشعوب كاليونان آلهتها في منحوتات جسدت جمال الجسم البشري، وخلّدت بعض الأديان رجال دينها بمنحوتات عبدوها أحياناً من دون الله بعد أن طال عليهم الأمد. ولإظهار العظمة والسعي للخلود حرص القواد والساسة ورجال الدين على تخليد ذكرهم وما يمثلونه من قوة وثقافة بصروح عمرانية تظهر ما وصلوا إليه من فن ومن قوة بعضها أدى وظائف محددة كالمعابد والقبور وبعضها لا يعدو أن يكون نصباً تذكارية.
ولنهي ديني اتجه الفنان المسلم إلى الأشكال الطبيعية, واستلهم منها الزخارف والأشكال, وبرع في تكرار أشكالها الهندسية لتصبح ميزة لفن المسلمين. على أن هناك من شذ منهم تأثراً بثقافات أخرى مع ما بقي من بعض ثقافات الشعوب التي دخلت في الإسلام؛ فصنعوا تماثيل, وصوروا تصاوير. ويبقى الاتجاه العام واضحاً بنبذها لدى المسلمين.
وإن كان المعنى اللغوي لكلمة نحت يفيد التشكيل بالإزالة من كتلة؛ فإن المصطلح أصبح أكثر اتساعاً ليشمل طرقاً عدة لتشكيل مجسم منها السبك والتركيب والإضافة, جنباً إلى جنب مع التقنية التاريخية القديمة التي عرفها الإنسان منذ العصر الحجري وهي الإزالة من الكتلة. وأطلق النحات لنفسه العنان في اختيار المادة وساعده في ذلك تطور التقنيات الصناعية.
وبالعودة إلى أصل الفن فإننا نجد أن النحات مثل غيره من الأدباء يمتح من ثقافته ومشاعره, وقد يرى في الأشياء من حوله ما لا يراه غيره, فهو لا يختلف عن الشاعر ولا الرسام، كما أن نتاج عمله يأخذ ذات الاتجاهات؛ إلا أن المنحوتة لها قدرة عالية على إثارة المشاعر والتأمل العميق باختلاف نظرة المتلقي لها. وإذا كانت اللوحة تمثل زاوية رؤية حددها الفنان فإن لرؤية المنحوتة زوايا رؤية يختارها المتلقي بحرية, وإن اقترح النحات زاوية رؤية معينة. إن المصنوعات الإنسانية على مر التاريخ تحمل قيماً فنية بصرف النظر عن وظيفتها, فإن كانت اليد تعمل فالعقل الظاهر والباطن يعمل؛ فالصانع لا يقف عند حد الوظيفة في كثير من الأحيان, وقد تأصل هذا في مصنوعات العصر الحديث, مما يدل على امتزاج الفن بحياة الإنسان, وهو ما يجعلنا نقف مبهورين أمام عاديّات صنعها الإنسان يوماً ما لأداء وظيفة معينة ثم أخذت مكانها اللائق في المتاحف. لقد أدرك مارسيل دوتشامب (Marcel Duchamp) هذا فوقف محتجاً على حصر الفن في زاوية ضيقة, فأصبحت نافورته أحد أكثر الأعمال تأثيراً في العصر الحديث, على رأي خمس مئة خبير فني!. هذا الفنان يُعتبر في الغرب علامة فارقة في الفن الحديث، وريادته تأتي من جرأته على عرض فكره المناقض للسائد في عصره عندما ترسخت أصول وقواعد لدى الوسط الفني في أوروبا الذي لم يتقبل (ثورته) في عام 1917 م إلا بعد تفجيرها بعقود، لقد تجرأ على توقيع (مبولة) باسم المصنع الذي ينتجها وقدمها للعرض فتم رفضها ولكنه أصاب ما أراد أن يقوله باختصار صادم حيث قدر البعض الفعل لا العمل ليحرك المياه الراكدة ويشعل حرباً انتهت بانتصاره على السائد الذي اعترف به بعد عقود، كان يريد القول إن الفن اختيار وأن الرؤية هي الفن وليس بالضرورة إنتاج عمل وفق قواعد مرسومة.