عرفت بلاد الشام فن النحت منذ عهود طويلة, واستمد خصوصية محلية من خلال ثقافة المنطقة وطبيعتها. إلا أن هذا الفن يواجه في الوقت الراهن -بحسب من التقيناهم من الفنانين السوريين- جوانب سلبية ألقت بظلالها على بعض الأعمال الفنية, حين فرغتها من الهدف الجمالي, فتحولت إلى أعمال مفصلة لمطالب غابت عنها روح الفن.
وفي لمحة سريعة عن تاريخ فن النحت في سوريا؛ نجد أن الحفريات الأثرية في المنطقة تشير إلى معرفة بلاد الشام لهذا الفن منذ قرون موغلة في القدم. وقد تطور هذا الفن ومر بمراحل مختلفة من النحت الآشوري إلى الآرامي إلى الحضارة الكنعانية والسومرية إلى المدافن والأوابد الأثرية التدمرية.
وقد ظل النحت، ولقرون عدة، وعاء يستوعب ملامح الحضارات المتعاقبة على المنطقة، فعدّ المرجع الرئيس في معرفة تفاصيل الوقائع الكبرى، وطبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية عبر منحوتات تعبر عن هذه الجوانب المتعددة، إلى أن جاء الإسلام الذي حرم عبادة الأوثان والنصب والمشخصات، وكان لذلك تأثير سلبي على النشاط النحتي الذي تقلص كثيراً في الأنحاء التي دخلها الدين الإسلامي. ومع مطالع القرن العشرين، وظهور مفاهيم الحداثة في الفنون بصورة عامة، راح النحت يستعيد مكانته القديمة إلى جانب الفنون التشكيلية الأخرى.
بهذا المعنى، فإن عمر فن النحت الحديث في سوريا قصير، فقد بدأ بالانتشار منذ منتصف القرن العشرين، مع الإشارة إلى إن ثمة اختلافاً في توثيق بدايات هذا الفن في سوريا، إذ يرجعها عبد العزيز علون إلى الفنان فتحي محمد ومنحوتته (الزنبقة) التي قدمها أواخر ثلاثينيات القرن العشرين, بينما يعيدها الناقد التشكيلي طارق الشريف إلى تجربة الفنان محمود جلال في الأربعينيات.
وبمعزل عن هذا التباين في توثيق البدايات، فإن معظم النقاد المهتمين يشيرون إلى أسماء رائدة لعبت دوراً في تكريس هذا الفن في الحياة الثقافية السورية بعد انقطاع دام قروناً عدة, ومنهم: محمود جلال صاحب تمثال (ابن رشد) في العام 1950, وجاك وردة الذي ظهر في الأربعينيات ومن أعماله تمثال (لهفة) 1958, وغالب سالم, وناظم الجعفري, وأدهم إسماعيل, ومحمود حماد, وألفريد بخاش, وعدنان أنجيله, وخالد جلال, وعدنان الرفاعي، وهشام المعلم, ومروان قصاب باشي صاحب منحوتة (الجوع) 1956 التي أحدثت انعطافة في تاريخ النحت السوري المعاصر, إذ كانت أول منحوتة تحمل بصمة المدرسة التعبيرية.
ويذكر عبد العزيز علون في كتابه (تاريخ النحت المعاصر في سوريا) أن «نتاج الرواد كان قليلاً, واقتصر على التماثيل النصفية والرؤوس, واستمد أصوله من المدرسة التسجيلية فقط, ولم يعرف الروّاد من الخامات غير الجبس والقوالب مما عرض أعمالهم للتلف أحياناً». ويشير بهذا الخصوص إلى أن «النحات سعيد مخلوف كان أول من أدخل الخشب والحجر إلى أعماله في العام 1963»، وهو العام الذي يعتبره النقّاد لحظة التحول الثانية في تاريخ النحت السوري المعاصر.
وتشير المصادر إلى إن أول مركز افتُتح لتعليم النحت كان مركز توفيق طارق في العام 1958, وأن أول سيدة شاركت في معارض النحت كانت جوزفين سانطو تاجر في خريف 1963, لكنها قدمت أعمالاً منفّذة بواسطة الطرق على النحاس, لحقتها في هذا الإطار هدى الأيوبي وزهيرة الرز, ثم قدمت درية حماد مجموعة من الميداليات.
ويجتهد الناقد التشكيلي طارق الشريف من خلال كتابه (الفن التشكيلي في سوريا) في توثيق تجارب النحاتين السوريين منذ الستينيات, ويذكر منهم عبد السلام قطرميز, نشأت رعدون، وديع رحمة، فايز نهري، وأحمد الأحمد. ويرى أنه بدخول عقد الثمانينيات بدأ النحاتون بالبحث عن الهوية الفنية المستقلة, مما أدى إلى ظهور ثلاثة اتجاهات نحتية, أولها: (الشكلية) التي أكدت أهمية التشكيل في العمل النحتي, ومن ممثلي هذا الاتجاه عبد الرحمن مؤقت, وقد عمل على الحجر والرخام, وأكدت تجربته أهمية التشكيل والتناغم بين الكتلة والفراغ في العمل النحتي, وقد بدأ بالأعمال الواقعية, ثم لجأ إلى التحوير ووصل إلى التجريد. وفي السياق ذاته يذكر الشريف الأخوين لطفي وبطرس الرمحين، وقد قدما النحت على الخشب, ونزار علوش الذي ركز في منحوتاته على جماليات التشكيل, لكنه ابتعد عن الواقع واقترب من السوريالية.
ثاني الاتجاهات النحتية كانت (الإنسانية) التي أكدت أن الشكل الإنساني هو المنطلق, ومن ممثليها: عاصم باشا ومحمود شاهين وماهر بارودي ومصطفى علي. وثالثها هذه الاتجاهات (التراثية) التي استلهمت الموروث النحتي والأساطير, ومن أقطابها: أكثم عبد الحميد, محمد بعجانو، مظهر برشين، وجميل قاشا.
ومن هذه البدايات الواعدة، راح فن النحت يعثر على مكانته ويتطور ولاسيما خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وكان لإنشاء قسم النحت في كلية الفنون الجميلة بدمشق دور مهم في هذا الحضور النحتي. كما أن مشروع إقامة ملتقيات دورية للنحت وتأمين الأمكنة المناسبة والخامات الضرورية، وهو ما تبنته بعض الجهات الرسمية منذ العام 1997 بهدف تجميل الشوارع والساحات العامة؛ قد أسهم إلى حد كبير في تشجيع النحاتين السوريين وتنشيط نتاجهم وإبرازه.
يشير النحات السوري عيسى ديب إلى أهمية الملتقيات النحتية في تطوير فن النحت سواء عبر التفاعل مع تجارب نحتية مهمة في العالم، أو نشر ثقافة بصرية عبر وضع تلك المنحوتات في فضاءات عامة. لكن تلك الملتقيات -بحسب ديب- «لم تحقق هذه الأهداف دائماً، وذلك نظراً للذهنية التي تتحكم بهذه الملتقيات، والتي تتحكم بالشأن الثقافي بصورة عامة، فالمؤسسات الثقافية لم تهتم بفن النحت كي يتطور بالدرجة نفسها التي تطور فيها فن التصوير مثلاً، وهو يرجع هذا الإهمال إلى ذهنية الأشخاص الذين تسلموا مواقع مهمة، دون إن يفقهوا كثيراً في جوانب العملية الفنية».
ويوضح ديب في حديث لـ(المجلة العربية) أن «فن النحت تحول إلى نوع من التعهدات أو المقاولات، ولئن ساهمت التماثيل التي صنعت للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد في ازدهار هذا الفن، لكن تلك التماثيل لم تكن تهتم بالجوانب الفنية والتعابير الجمالية، وما أثر سلباً أيضاً هو أن النحت تحول إلى عملية تجارية مفرغة من المحتوى الإبداعي، ولعل تمثال صلاح الدين الأيوبي الذي ينهض بالقرب من قلعة دمشق، والذي نفذه عبد الله السيد، يشير إلى مثل هذا المنحى، وثمة أمثلة كثيرة في هذا المجال».
وحول تجربته الشخصية، يقول ديب إنه نشأ في قرية تنورين الواقعة بين مدينتي حمص وطرطوس، وهي ذات طبيعة خلابة حيث الأشجار والجبال والأنهار وكائنات الطبيعة. «كنت أرقب هذا الجمال الكوني الساحر، وتشكلت في داخلي رغبة لتجسيد هذا المشهديات البصرية الفاتنة، فانتسبتُ إلى كلية الفنون الجميلة بدمشق قسم النحت، ورحت أترجم تلك المناظر على شكل منحوتات أضفي عليها جانباً من مشاعري وأحاسيسي».
ويرى ديب أن «النحات لابد أن يكون ملماً بطبيعة المواد التي يستخدمها من خشب وبرونز وحجر وخلائط كيميائية حتى يستطيع تطويعها وفقاً لما يدور في مخيلته وتفكيره». مبيناً أن عليه كذلك أن «يتمتع بثقافة واسعة في الأدب والتاريخ والأسطورة وعلم الجمال والهندسة؛ لأن مجرد نحت الشيء كما هو ليس نحتاً، بل ينبغي تقديم أفكار تخلق لدى المتفرج أسئلة، وأن يكون دائم البحث عن الجديد، تواقاً إلى الاكتشاف والمغامرة، شريطة أن يحافظ على هويته، وأن تكون له بصمته الخاصة في عالم النحت».
ويطالب ديب بضرورة «نشر الثقافة البصرية في المجتمع؛ لأن النحت مثله مثل أي عمل فني أو أدبي يحتاج إلى متلقٍ، لذلك ينبغي الارتقاء بذائقته البصرية حتى يعرف قيمة الأعمال النحتية التي يراها، ويستطيع فك ألغازها».
من جانبه، يبدي النحات السوري صالح نمر عدم رضاه عن واقع النحت (المتردي)، وسبب ذلك في رأيه هو «الفراغ الثقافي الذي ساد في السنوات الأخيرة، والذي نتج عن الخلط بين الإبداع والفعل المنبثق عن وجدان الإنسان وقيمه الجمالية والأخلاقية، وبين الادِّعاء الذي يفتقر إلى الفكر والتقنية معاً».
ويضيف نمر في حديثه لـ(المجلة العربية): «إن القائمين على رأس الهرم التشكيلي السوري كرسوا هذا المناخ»، معتبراً أن «الملتقيات النحتية التي نشطت في العقد الأخير اعتمدت أسلوب الانتقاء المزاجي والانتفاعي، وتقلصت النزاهة لدى لجان التحكيم بسبب انتماءاتهم الفكرية ومناهجهم النقدية ما دفع النحات إلى الاستسهال والابتذال».
ويعترف نمر أن عدداً محدوداً من النحاتين السوريين «تغلبوا على هذا الواقع، واستطاعوا إن يتجاوزوا المحلية، ويمكن أن نذكر هنا، مثلاً: سعيد مخلوف، وأكثم عبد الحميد، وعبد السلام قطرميز، وعبد الله السيد، وربيع الأخرس، ومصطفى علي، ومعروف شقير.. وسواهم».
ويلاحظ نمر أن «غياب الاهتمام الرسمي بالنحت خلق نمط تفكير انتهازياً وصولياً، إذ قَبِلَ النحات الدخول في مساومات ومهاترات أثرت سلباً على نتاجه النحتي»، لافتاً إلى أن «ما عزز هذا الواقع هو غياب النقد الموضوعي حيث برزت على السطح شخصيات وصالات تقوم على تمييع الثقافة البصرية عبر التركيز على تجارب هامشية، وإهمال تجارب مهمة تستحق الثناء».
وحول تجربته الشخصية، يقول نمر إن معرضه الفردي الأول سنة 2003 شكل بالنسبة له محطة حاسمة رغم مشاركته في معارض جماعية عدة ونيله جائزة معرض الشباب سنة 2002 . ويضيف أن هذه الجائزة جاءت نتيجة بحث عميق في الميثولوجيا القديمة ورموزها، وكان ذلك موضوع المعرض.
ويضيف نمر أن تجربته «نابعة من هذا الفضاء الحضاري»، إذ وظّف الكثير من الرموز في أعماله مثل (الثور، السمكة، الهلال...) كدلالات إيحائية، فضلاً عن حضور المرأة وتشكيلها ضمن وحدة عضوية من خلال العمل على خامات متعددة: خشب، رخام، برونز..
ويشرح نمر أنه حاول في أعماله النحتية المزاوجة بين الزمان والمكان والدلالة الرمزية لماهية العمل مستخدماً (التعبيرية الملحمية) من خلال حركة الجسد الإنساني وانفعالاته، فهو يبدأ من «التقاط اللحظة مروراً بالمعنى وصولاً إلى المنجز». مشيراً إلى أنه اشتغل على «تطوير أدواته عبر التعمق في دراسة الخواص الكيميائية والفيزيائية للخامات، ومدى قابليتها للنحت وقدرتها على نقل انفعالات الفنان وهواجسه وتخيلاته». ويبين نمر: «الخشب، مثلاً، يتحمل الفراغات الكبيرة والكتل الطائرة, ويمكن تعليقه على جدار، أما الحجر فيوحي بالثبات والاستقرار والرصانة، في حين أن البرونز مادة تتعرض لعمليات القولبة، ومرحلة الصب تؤثر كثيراً على رؤى الفنان وأحاسيس العمل».
ويرى نمر أن النحت فن يستلزم «ذاكرة بصرية غنية، ومعرفة بالموروث الشعبي والحضاري». ويضيف بأنه يسعى إلى التبسيط في العمل عبر إيجاد تناغم بين السطوح والمساحات والإيحاءات والإشارات والكتل والفراغات، محافظاً على بوصلة الحضور الإنساني. وهو يؤمن بمقولة الفيلسوف الفرنسي جان كوكتو الذي يقول «الفن ليس طريقة معقدة لقول أشياء بسيطة، بل طريقة بسيطة لقول أشياء معقدة».