ونحن نعيش حيواتنا، ومن خلال علاقتنا الذاتية والموضوعية مع الآخر، تصادفنا لحظات لا يمكن الانفكاك منها أو التنكر لها.. نقرأ فيها الأشياء محسوسها ومجردها.. نتقرى الأماكن: مقيمها, حيها, وميتها, أطلالها وخيامها, ملاعب صباها, ميادين شبابها, أو تعرجات أرض شيوخها وعجازها.. نغوص دهاليز النفوس.. مقيدها ومنطلقها, هائمها ضائعها ومنضبطها.. نسبر مستويات قدراتنا والآخرين, ضعفنا وضعفهم, قوتنا وقواهم.. نقرأ سبل حيواتهم, نسعى معهم لتحقيق آمالهم وفهم رؤاهم الحياتية ونعمل بجد للوصول إلى مبتغاهم, نتحسس آلامهم, نبلسمها ما أمكن, نفرح لشفاء جروحهم ورأب صدع نفوسهم المنكسرة. من منا لم يصب (بمنكسرات) أو خلا صدره من الانكسارات؟ الجواب: لا أحد. هذه حقيقة وتساؤل مشروع يحسب لنا, وفي الوقت نفسه يرسم من نتعرض -كقراء- لهم ولإبداعهم المكتوب والمقروء أو المرئي مصاغاً باللون والفرشاة، كصورة عن حياتهم اللاشعورية القابعة في قاع النفس أو الشعورية المدركة عقلياً أو التي يأمل أن يعيشها في قادم الأيام. نعم وحين نقرأ هذا الآخر أو الـ(هؤلاء). والـ(هم) والـ(هن).. وحتى الـ(نحن). ينكشفون لنا, يتعرون ذهنياً وكما ولدتهم أمهاتهم. يبدون أنقياء كماء المطر لم يتلوث بطين الأرض, خيرين بريئين كالأطفال لم يتلبسهم الشيطان, لطفاء كفراش ملون, نظيفين لم يعكر صفو مشربهم كدر الأيام أو يبرزون غير ذلك. نقرأ الجميع مفردة مفردة, سطراً سطراً, صورة صورة, آهة آهة, حباً حباً, نغمة نغمة, قلقاً قلقاً, أملاً أملاً.. نقرأ الكل, مابين الكلمات العابرة لصفحاتها أو المستقرة في قيعانها أو حتى السابحة على متوازيات خطوطها التي تأبى أن تلتقي إلا في نقطة آخر السطر. ونحن حين نقرأ الآخر جسداً وحركة, روحاً وعاطفة, ألماً وأملاً, فإنما نسبر - بمسبار الصدق- (الحيوات) المعاشة في الحلم والواقع, أو المتصورة في الرؤية أو المدركة في الرؤيا, في الذكرى كمحصلة والتذكر كعملية عقلية.. لا يعنينا سوى إبراز مابين السطور بصدق لا انفكاك منه ولو حاولنا غير ذلك، وذاك سيبرز جلياً مادامت أدوات القراءة مكتملة, والسبر حادة, والتنقيب واقعية موضوعية. سيكون لزاماً علينا أن نبرز كل ما هو جميل في هذا الآخر, أكان في النص ومروياته أم في ما وراء مفرداته ومآلاته, رؤيته ورؤاه, هذا لزام علينا, وعلى الآخر لزام أقوى وأشد ألا وهو قبول كل الفضاءات التي تنداح من النص وكل العطر الذي سيعطر الأجواء, وكل القلق الجميل الذي سيولده غمام النص وقد أضحى من حق القارئ بعد أن ولد من رحم الكاتب ولفظته المطبعة, ورقص على رفوف المكتبات, واستقر في وجدانات المتلقين.