مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

جهود المستشرقين

اختلف المؤرخون العرب والأجانب في تاريخ نشأة الاستشراق، فمنهم من قال: إنه بدأ في العاشر الميلادي، ومنهم من قال: بل في القرن الثالث عشر الميلادي، ومنهم من قال: إن حركة الاستشراق نشأت في العصور الإسلامية الوسطى عندما كان العرب يمثلون الصدارة في أوروبا حين بددوا دياجير الظلام التي كانت تستولي على أوروبا –حينذاك- وتأثرت شعوبهم بالعرب وأقبلت على ورود منابعهم المتدفقة. غير أن الاستشراق بالمعنى العلمي الكامل لم يبدأ إلا في منتصف القرن التاسع عشر.
وعلى الرغم من أن بعض الموجات الاستشراقية كان هدفها الهجوم على العقل العربي، وعلى القومية العربية، واللغة العربية، والعقيدة الإسلامية، والتراث، إلا أن آثار الاستشراق لم تكن كلها سلبية، فقد كان هؤلاء الأجانب أصحاب فضل في الكشف عن التراث، وفي الصون، والتقويم، والفهرسة، والتصنيف، والترجمة، والتحقيق العلمي، وفي إنشاء دوائر المعارف، وفي جمع المخطوطات من كل مكان في العالم.
ولا يمكن أن ننكر دور المستشرقين في تحقيق المخطوطات، حيث لعب الاستشراق دوراً مؤثراً لا يمكن إغفاله أو إنكاره في إحياء التراث العربي، إذ وضع علماؤه القواعد الأساسية للسير عليها في نشر المخطوطات وتحقيقها معتمدين على المبادئ التي توصل إليها علماء الآداب الكلاسيكية في أواسط القرن التاسع عشر.
في الوقت الذي يظهر فيه تأثير المستشرقين جلياً حين وضعوا منهجية كاملة لتحقيق المخطوطات، وذلك عندما ألف المستشرق الألماني برجشتراسر في هذا الفن من خلال محاضراته التي ألقاها على طلبة الماجستير في كلية الآداب – جامعة القاهرة (عامي 1931 – 1932م) ثم جاء المستشرقان الفرنسيان بلاشير وسوفاجين فأصدرا كتابهما بالفرنسية بعنوان: (قواعد نشر النصوص العربية، وترجمتها)، ثم أصدر العلامة عبدالسلام هارون كتابه بعنوان: (تحقيق النصوص ونشرها)، وهو أول كتاب عربي يتناول هذا الفن الذي تأسس على أيدي المستشرقين.
وهذا لا ينفي تألق العلماء العرب القدامى في وضع قواعد وأسس التحقيق، كما كان للعلماء العرب مؤلفات تتصل بالمنهج العلمي عند التأليف والتحقيق، من بين ذلك:
1 - مقدمة ابن الصلاح (ت 643هـ).
2 - تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم: لابن جماعة (ت733هـ).
3 - التعريف بآداب التأليف: السيوطي (ت 911هـ).
كل هذا وغيره، يدل على أن أسلافنا الأفذاذ كان عندهم مناهج عند التأليف والتحقيق تكاد تقترب من مناهج المحدثين، إلا أنه مع هذا كله ومع بداية الاشتغال بالتحقيق في العصر الحديث لم يكن ثمة منهج معلوم يمكن أن يلتزم به المحققون، وإنما كان لكل منهم طريقته ومنهجه، على أنه قدا ستمدت بعض هذه الطرق من مناهج العلماء المسلمين في توثيق النصوص وبخاصة النصوص الشرعية، كما استمد بعضها الآخر من مناهج المستشرقين في نشر التراث القديم، ومع مرور السنين بدأت الخبرات تتراكم وبدأ التفكير في تقنين هذه العملية ووضع الضوابط التي تحكمها.
وعلى أية حال، فقد اعتنى المستشرقون باللغة العربية، وحرصوا على دراسة كل ما يتصل بها من قريب أو بعيد، فبحثوا في فقهها، وأصولها، ولهجاتها، ونحوها، وصرفها، وأصواتها، ومعاجمها، وأطوارها، ومادتها، وفلسفتها، وعلاقاتها باللغات الأخرى – خاصة السامية – ومميزاتها، وعناصرها، وتاريخها، ونقوشها.
وكان ثمرة ذلك: العديد من المؤلفات القيمة، منها: أصول نقد النصوص ونشر الكتب: لبرجشتراسر، والعربية.. دراسات في اللغة واللهجات والأساليب: ليوهان فك، واللغة: لفندريس، وتاريخ الأدب العربي: لكارل بروكلمان، وتخطيط للمعجم التاريخي المنشود للغة العربية: لفيشر.. الخ.
ونظراً لمكانة أمثال هؤلاء المستشرقين ودورهم المهم والمتميز في إثراء الدراسات اللغوية، فقد صدر مرسوم في 6 من أكتوبر 1933م، بتعيين خمسة من المستشرقين كأعضاء عاملين في مجمع الخالدين، (مجمع اللغة العربية بالقاهرة)، وهم: (أوجست فيشر من ألمانيا، وهاملتون جب من إنجلترا، ولويس ماسينون من فرنسا، وكارلو ألفونسو نيلنو من إيطاليا، وفنسنك من هولندا).
حتى وصل الأمر أن خصص مجمع الخالدين للمستعرب الألماني (فيشر) مكتباً خاصاً به، - استجابة لمطلبه- حين أراد عمل معجم تاريخي للغة العربية، بل وأمده بكافة وسائل العون المختلفة، وبعد عمل متصل في الجمع والتنسيق طوال أربع سنوات، تمهيداً للطبع والنشر، بدأت الحرب العالمية الثانية فأوقفت كل شيء، وباعدت بين (فيشر) ومصر، وحالت دونه والإشراف على معجمه. وما أن وضعت الحرب أوزارها، حتى قعد به المرض على أن يعود إلينا، وفقدناه عام 1949م قبل أن يخرج معجمه إلى النور!.
أقول: ومع هذا كله، فإن الدراسات الاستشراقية للغتنا الخالدة أضحت جزءاً لا يتجزأ من الدراسات العربية، ولا أحد يستطيع أن ينكر ذلك، وما ننكره (هو الأخذ بالمقولات الأوروبية في مجال اللغة باعتبارها مسلمات).
بل وننحو باللائمة على من يعتقدون أن التقدم والعملية الحقيقية لا يتحققان إلا بالإعراض عن التراث وإهماله، ثم القفز وراء الأوروبيين ومحاكاتهم محاكاة القردة.
بل يجب علينا أن نأخذ من تراث الأمة وحضارتها العريقة عناصر أساسية نبني عليها المستقبل، مع استعمال المناهج الحديثة وتوظيف الفكر في إقامة هذا البناء وستكون ثمرة ذلك ولاشك مجتمعاً مزدهراً ينافس المجتمعات المتقدمة ويسابقها.

ذو صلة