إن الركون إلى استخدام مفهوم الثورة دون تمحيص سيقود إلى التباسه دلالياً مع معاني من قبيل الانتفاضة، التغيير، الانقلاب.. وهي مفاهيم قد تشترك مع مفهوم الثورة في سماته الأساسية، لكنها ستختلف عنه في بعض السمات الأخرى، فالثورة كما يتفق على تعريفها علماء الاجتماع هي: (عبارة عن تغيير شامل وجذري في توزيع مصادر القوة وعمليات الإنتاج في المجتمع)، وهي بتعريف الكاتب سليم نصر الرقعي: ظاهرة اجتماعية وسياسية، وهي انتفاضة الشعب والفطرة والضمير ضد الظلم الذي تجاوز كل حدود تحمل الطاقة البشرية، كما تعرف أيضا بكونها (التغيير المفاجئ السريع بعيد الأثر في الكيان الاجتماعي لتحطيم استمرار الأحوال القائمة في المجتمع وذلك بإعادة تنظيم وبناء النظام الاجتماعي بناءً جذرياً)، هو التغيير الذي يحدثه الشعب من خلال أدواته (كالقوات المسلحة) أو من خلال شخصيات تاريخية لتحقيق طموحاته، لتغيير نظام الحكم العاجز عن تلبية هذه الطموحات ولتنفيذ برنامج من المنجزات الثورية غير الاعتيادية، وهناك تعاريف عديدة أخرى لا يسع المقام لذكرها، إلا أن الملاحظ من خلال هذه التعاريف أنها تحيط بالمفهوم من جوانبه الاجتماعية والنفسية والسياسية، وتتفق على حتمية قيام الثورة في ظل وجود الظلم والاستبداد.
لقد توقف التاريخ شاهداً على مجموعة من الثورات الكبرى التي ساهمت بشكل كبير في رسم مستقبل الأوطان التي قامت داخلها على جميع المستويات، كما امتد تأثيرها لبلدان العالم من خلال تصدير مبادئ هذه الثورات، وجعلها محط أنظار الأمم وإعجابها، ومن المعلوم أن بواعث الثورات الكبرى كانت مختلفة لكنها حتما لم تخرج عن المقولة الشهيرة لعميد الأدب الفرنسي (فكتور هوغو): (إذا حدث وأعقت مجرى الدم في شريان فستكون النتيجة أن يصاب الإنسان بالمرض، وإذا أعقت مجرى الماء في نهر فالنتيجة هي الفيضان، وإذا أعقت الطريق أمام المستقبل فالنتيجة هي الثورة)، فالثورة إذن نتيجة حتمية ومنطقية حينما يشتد الظلم والاستبداد.
الثورة بين الأدب والفن
إن الحديث عن الثورة يتبعه دائماً الحديث عن علاقتها بالأدب والفن، على اعتبار مدى مساهمتهما في المضي قدماً بالثورة، وتدوين أحداثها في بطون الأوراق والكتب، ونقل وقائعها وتوثيقها بالصورة، وهنا يوضع المثقفون والفنانون على اختلاف اشتغالاتههم الفنية، موضع مساءلة، من حيث وقوفهم بجانب الثورة أو ضدها، ومن حيث وقوفهم مع الحاكم ضد المحكوم، فتتصاعد الأصوات بضرورة تزعم المثقفين والأدباء والكتاب صفوف الثائرين، ويصل الأمر إلى اتهامهم في بعض الأحيان بالتقصير ومساندة الأنظمة الحاكمة، لأن العملين الأدبي والفني يتحركان عضوياً، حيث ينقلان عن الواقع ويطورانه، ومن هنا أمكننا الحديث عن أدب الثورة وسينما الثورة.
السينما والثورة
كان الفن السابع ولا يزال نافذة ننظر من خلالها لأحداث التاريخ الكبرى، ووثيقة اجتماعية مهمة، تساهم في رسم قوانين حركة وديناميكية المجتمع، فالسينما ظلت تعتمد على الإنسان الذي ظل يحاول بناء علاقات خاصة مع قضاياه الذاتية والمجتمعية من خلال الصورة السينمائية كوسيط لخلق علاقات مباشرة مع الجمهور، ولم تكن الآلة إلا وسيلة لخلق ونقل الأفكار، فهي لا تنعزل عن إرادة الشعوب وآمالها. والمتتبع للمنجز الأدبي في مختلف بقاع العالم -بغض النظر عن اللغة التي ينطق بها- سيلاحظ دون كبير عناء ذلك الكم الوفير الذي اتخذ من الثورة موضوعاً له؛ تلون بلونها، وتحدث بلغتها. وكحال الأدب فالسينما ما فتئت تقدم أعمالاً خالدة عن الثورة ورموزها وبواعث قيامها، ولنا أمثلة عديدة في السينما العالمية؛ أعمال خالدة قدمت للجمهور تحفاً سينمائية تذكِّره بأعظم إنجازات الإنسان، فاحتفظت بها الذاكرة السينمائية، كروائع لن يطالها النسيان، لكن الحديث عن الثورة في السينما (أي الأفلام التي اتخذت من الثورة موضوعاً) قد يطرح بعض الإشكالات التصنيفية التي تمس بالأساس مواضيع الأفلام من حيث تناولها للثورة، وأحداثها، ومن حيث مدى ارتباطها بوقائع التاريخ، وابتعادها عنها، وعلى هذا الاعتبار فنحن نميز بين الأفلام التي اتخذت الثورة موضوعاً صريحاً لها، كتناول إحدى الثورات العالمية المعروفة تحديداً، وأفلام أخرى تناولت الثورة بطريقة تخيلية.
1 - الثورات التاريخية
يمكننا أن نتناول تحت هذا العنوان الأول تلك الأعمال السينمائية التي تناولت الثورات الكبرى؛ كالثورة الفرنسية والإنجليزية والروسية.. الخ، فهناك نصيب جيد من الإنتاجات السينمائية التي تابعت بالتوثيق أو بالدراما هذه الثورات المهمة في التاريخ البشري، ويمدنا المؤرخ الفرنسي (روجيه ايكار) في كتابه (الثورة الفرنسية في السينما) بجرد دقيق للأفلام التي تناولت الثورة الفرنسية: فقد أنتج أكثر من 90 فيلماً في فرنسا ونحو 18 فيلماً في أميركا و 20 فيلماً في إنجلترا و 27 فيلماً في إيطاليا ونحو 10 أفلام في ألمانيا، إضافة إلى ثلاثة أفلام في الدنمارك. وكلها تناولت موضوع الثورة الفرنسية، ولعل هذه الأرقام تدل بما لا يدع مجالاً للشك حرص السينما على التقاط أحداث هذه الثورة التي تعد من أبرز الصفحات الحاسمة في التاريخ البشري، ونجد من أبرز الأفلام التي عالجت الثورة الفرنسية فيلم (دانتون) عام 1983 من إخراج البولندي (اندريه فايدا) عن آخر فترة من حياة جورج دانتون وهو أحد أهم قادة الثورة الفرنسية، ولعب دوره الممثل الفرنسي (جيرار ديبارديو)، والفيلم يحلل كيف حاك روبسبيير منظِّر الثورة الفرنسية مؤامرة ضد دانتون وكيف خان روبسبيير المبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية، والفيلم في عمقه كذلك هو رسالة أراد من خلالها فايدا أن يدعو شعب بولندا إلى نبذ العنف والالتزام بالحوار كطريقة لحل الأزمات الوطنية، من خلال تركيزه على إدانة سياسة العنف الدموي التي انتهجتها لجنة السلامة العامة بقيادة روبسبيير، ضد من صنفوا كأعداء للثورة.
وقبل الثورة الفرنسية تاريخيا هناك فيلم (سبارتاكوس) الذي يعد من روائع الأفلام الكلاسيكية في بداية الستينيات، من بطولة (كيرك دوغلاس)، ويقوم سبارتاكوس بقيادة شعب مختلط من العبيد في ثورة كبيرة ضد روما وقوانينها المستبدة. وهذا الفيلم يعد من أول الأعمال السينمائية التي تناولت موضوع الثورة، وشكل إلهاما لأعمال أخرى جاءت بعده.
وهناك أفلام عديدة تناولت الثورة الروسية سواء كموضوع رئيس، أو بالإشارة إليه ضمن أحداث أخرى، ويمكننا اعتبار فيلم (مقتل تروتسكي) للمخرج الأمريكي (جوزيف لوزي) على سبيل الذكر لا الحصر، نموذجاً يعبر عن هذه الثورة، ويحكي هذا العمل الضخم عن قصة اغتيال المفكر الروسي (تروتسكي)، الذي اختلف مع ستالين وترك الاتحاد السوفيتي عام 1929 متوجهاً إلى المكسيك، فأرسل (ستالين) من يقتله هناك.
ومن أفلام الثورة التي تحتفظ بها الذاكرة السينمائية نجد فيلم (الأرض والحرية) للمخرج البريطاني (كين لوتش) الذي يعد من محبي صنع أفلام مستوحاة من الثورات، ويحكي الفيلم عن عاطل إنجليزي ينتمي للحركة الشيوعية، يذهب لإسبانيا وينضم إلى القوى اليسارية التي تضم مجموعة من المتطوعين والمتطوعات من جنسيات مختلفة، بالإضافة إلى الجمهوريين الإسبان، لمحاربة فرانكو ومؤيديه بعد استيلائه على الحكم في ثلاثينيات القرن الماضي. وأهم ما في الفيلم هو الحوار الذي كشف عن الحاجة إلى الثورة وآمال الناس البسطاء ومعاناتهم، كما نجد في هذا الفيلم إسقاطاً لكل القضايا التي تقابل الثوار مهما اختلف الزمان والمكان.
ويأخذنا فيلم (مايكل كولينز) من إخراج (نيل جوردان) وبطولة (ليام نيسون) و(جوليا روبرتس) إلى تحرير أيرلندا وحياة الزعيم الأيرلندي الثائر (مايكل كولينز)، وكيف حاول كولينز تحرير أيرلندا عام 1920 من خلال قتل العملاء السريين البريطانيين وبعدها ترضخ بريطانيا وتوافق على المفاوضات معه، وبعد عودته إلى موطنه بعد أن حصل على وعد بإقامة أيرلندا الحرة، يتحول الصراع داخلياً لرغبة أعوانه بإقامة جمهورية أيرلندا وليس الاستقلال عن بريطانيا فقط.
ونجد الثورة الأمريكية حاضرة بقوة سينمائياً، فهناك فيلم (ثورة) (لهيبو هيدسون) وبطولة (آل باتشينو) الذي يجسد دور رجل يشترك في الثورة بمحض المصادفة وتنمو لديه الأحاسيس الوطنية وتكبر، وعن نفس الحدث نجد فيلم (الوطني) (لرونالد ايميريش) وبطولة (ميل جيبسون) ويحكي عن الثورة الأمريكية ضد الاستعمار البريطاني وكيف يتحول إلى بطل عندما يشارك في قيادة الثورة، ويأتي هذا العمل الرائع ليؤكد دور الطبقات الاجتماعية المنهوكة في قيام الثورة ونجاحها.
ويعد فيلم (القلب الشجاع) من أبرز الأعمال السينمائية التي تعرضت للثورة الاسكتلندية وهو من روائع الممثل والمخرج الكبير (ميل جيبسون) المعروف بوقوفه في صف القضايا العادلة، ويدور هذا العمل عن حياة ونضال بطل قومي اسكتلندي هو (وليام والاس) الذي عاش في القرون الوسطى وحارب حتى الموت من أجل تحرير بلاده من ظلم واستعباد الإنجليز، لقد تميز هذا العمل عن غيره بالإتقان سواء تعلق الأمر بأداء الممثلين أو روعة السيناريو وباقي الجوانب التقنية الأخرى.
ويجسد فيلم (حياة غيفارا الثورية) أحد أهم الأعمال السينمائية، وهو من بطولة الممثل (بنيسيو دل تورو) وتحكي قصته عن حياة المناضل الثوري (شي جيفارا) الذي لم يسع لانتصارات شخصية بل لتحرير الناس من الظلم، وقد استمد هذا العمل نجاحه من نقطتين: أولاهما وأهمهما، تلك الشعبية الكبيرة التي تحظى بها شخصية (شي جيفارا) والثانية تتمثل في حمل الفيلم مقومات النجاح من حيث حرصه على نقل حياة هذا المناضل.
أفلام الثورة بين الفني والإقناعي
هكذا نلاحظ أن الصورة نوع من التأريخ للسيرورة الإنسانية، والتاريخ الاجتماعي للشعوب يسجل من خلالها، وأبرز لحظاته تبقى خالدة بها، وهذا ما يؤكده الكاتب المغربي محمد اشويكة بقوله: (فميكانيزمات الهوية الاجتماعية قد أصبحت تتحدد بشكل متسرع: وكل علامة أو أي عنصر يدخل في تشكيل الصورة، يحمل معه قوة مؤلمة وحقيقية للحقيقة الراهنة). فالتوثيق صار مصاحباً للصورة، ولهذا سنجد أن كل الأعمال التي تناولت هذه الثورات، قد صاحبها جدل كبير على مستوى التلقي، من حيث وفائها لهذه الأحداث التاريخية المهمة، ولم يسلم أحد هذه الأعمال من النقد اللاذع، لأن الوفاء لأحداث التاريخ يبقى هدفاً صعب التحقق، فالسينمائي ليس مؤرخاً، بل حتى الحدث التاريخي يتسم بالاختلاف على مستوى نقله من مؤرخ لآخر، كما أن السينمائيين انطلقوا من أحداث هذه الثورات لكنهم سرعان ما اعتمدوا على الخيال بالاستفادة من أحداث هذه الثورات وشخصياتها، ولا يمكننا الجزم بعدم وجود الهدف المادي وراء صناعة هذه الأفلام، ويلخص لنا روجيه إيكار مدى صدق هذه الأعمال في نقل الثورة الفرنسية بتصديره لكتابه (الثورة الفرنسية في السينما) كل شيء محتمل، وكل شيء يمكن أن يكون من صنع الخيال في الثورة الفرنسية وهذا الحكم يمكن تعميمه على كل الأعمال التي تناولت الثورات العالمية الأخرى.
2 - أفلام تعالج الثورة تخيليا
المقصود هنا تلك الأفلام التي عالجت الثورة دون الاستناد إلى وقائع تاريخية، وهذه النوعية من الأفلام قد تشترك مع أفلام المجموعة الأولى في دائرتها التصنيفية الكبرى، لكنها تختلف من حيث كونها لا تمتلك إرثاً تاريخياً، فهي لا تهتم بالتوثيق بقدر ما تهتم بخدمة قصة الفيلم، ويدخل في هذا الإطار مجموعة ضخمة من الأفلام باختلاف المواضيع، ويمكننا أن نشير في هذا الصدد إلى مجموعة من الأفلام كفيلم الساموراي الأخير الذي عالج نضال الساموراي، من أجل الاحتفاظ بهويتهم، وانضمام الجنرال الجرين الذي أدى دوره (توم كروز) إلى صف الساموراي بعد اقتناعه بعدالة قضيتهم. كما يشكل فيلم (نادي القتال) نموذجاً متميزاً لهذه النوعية من الأفلام وهو من إخراج (ديفيد فينشر) وبطولة (براد بيت) حيث يعالج قصة مجموعة من الشباب يؤسسون نادياً للقتال ويتمردون على مجموعة من التوابث والقوانين المتعلقة بالرأسمالية، ويتميز هذا المخرج باختيارات جمالية عميقة.
أما فيلم (أفاتار) للمخرج (جيمس كامرون) فهو فيلم فنتازيا ويمكننا أن نصنفه بقليل من التجاوز ضمن تلك الأفلام التي تدعو إلى الثورة والمقاومة من أجل الوطن، وتعد مخلوقات النافي في هذا العمل ترميزاً للهنود الحمر ومعاناتهم أثناء احتلال الأوروبيين لموطنهم.
وعلى الرغم من الجانب الفرجوي الذي يميز هذا النمط من الأفلام فهي تبقى ذات تأثير كبير على المتلقي، تثير عواطفه وتشحنها، وتلفت انتباهه بطريقة غير مباشرة إلى أحداث مهمة، ففيلم أفاتار مثلاً هو من الأعمال الداعية إلى المقاومة والدفاع عن الوطن والثورة ضد كل سلطة تحرمنا من الحرية، وكل من شاهد هذا العمل سيفهم هذه الرسالة بسهولة، وفيلم (الساموراي الأخير) هو انتقاد لسلب المجتمعات هوياتها، وانتقاد لتدخل أمريكا في سياسات البلدان، والدعوة إلى الثورة على كل ذلك. وهذه الطريقة في التعبير مطروقة منذ القدم، وهي تعرف بالإسقاط التاريخي، حيث يتوارى المؤلف خلف أحداث أو شخصيات معينة ليكتب عن مواضيع سياسية محرمة لأسباب رقابية، أو فنية أو فكرية، وهذا النهج حاضر بقوة في السينما وتحديداً في داخل الأفلام التي تعالج قضايا مثل الثورة أو قضايا سياسية محرمة، فتبقى هذه الأعمال في منأى عن كل نقد، فهي لا ترتبط بالواقع في شيء، وهذا كاف لكسر سهام النقد الموجهة إليها، وهي تتميز بالوظيفة الإغرائية من حيث مداعبتها لأذواق الجمهور المتعطش للانعتاق، والمنتصر للقضايا العادلة.
لم يكن للسينما أن تتجاهل هذه الأحداث المضيئة في تاريخ الإنسانية، لأن الفن كان دائماً مرآة للمجتمع، فكم هي الثورات والأحداث التي مر عليها الزمن لكننا نظل نتذكرها انطلاقاً من أعمال سينمائية، ومن هنا تأتي راهنية الأفلام التي تتعرض لأحداث التاريخ والثورة، أنها تأتي من مسألة قد تهمنا نحن، ألا وهي استحضار تاريخنا، والأهم من ذلك تذكيرها الدائم لنا بمعاني الحرية.