والقلعة حصن منيع يشيَّد في موقع يصعب الوصول إليه، وغالباً ما يكون على قمة جبل أو حدود بحر، وكانت تبنى القلاع عادة بغرض الحماية من الأعداء، ولتتحصن بها حامية المدينة في حال تعرضها لهجوم ما، وتحتوي القلعة على سكن للجند ومستودع للأسلحة وبيت للمال ومركز للحكومة المحلية، وكثيراً ما كانت تنشأ القرى حول القلاع.
العمارة الحربية والدفاعية
وتعتبر القلاع من أهم المنشآت الدفاعية التي ظهرت في العصر الأيوبي، الذي ازدهرت فيه العمارة الحربية والدفاعية، ولا سيما القلاع والأبراج والأسوار، وانتشرت في الكثير من المدن العربية والإسلامية، وقد اهتم بها الحكام والسلاطين، وتسابقوا في تشييدها وعمارتها حتى غدت من المعالم الأثرية البارزة للحضارة الإسلامية في عصور القوة، والتي لا تزال قائمة حتى اليوم في بعض المدن الإسلامية لتشهد على ما وصلت إليه العمارة الدفاعية الإسلامية خلال العصور السابقة من تقدم وشموخ وازدهار.
وكان اختيار مكان القلعة يتم بشكل دقيق بحيث تحتل أعلى موقع في المدينة، ويكون باستطاعة حاميها من الجنود صد الغارات المحتملة والدفاع عن المدينة ضد أي اعتداء خارجي، كما كانت هذه القلاع تستخدم مقراً للحكم، حيث يسكنها الحكام من الملوك والسلاطين والأمراء، ومعهم عائلاتهم وجنودهم.
وتعتبر سوريا بمدنها التاريخية مثل دمشق وحلب وحماة واللاذقية، من الدول التي تضم عدداً كبيراً من القلاع التاريخية، مثل قلعة دمشق وقلعة حلب وقلعة بصرى وقلعة صلاح الدين في اللاذيقية، وقلعة الحصن التي تعتبر أجمل قلاع العصور الوسطى، وقلعة المرقب التي تقوم على رابية ضخمة تشرف على بانياس والطريق الساحلي، وقلعة الرحبة التي تقع على مرتفع صخري، وقلعة الربض المنيعة التي تقوم على رأس جبل عظيم الارتفاع بالقرب من بلدة عجلون، وهي القلعة التي اتخذها صلاح الدين قاعدة له في حملته العسكرية الباهرة لطرد الغزاة الصليبين، وقلعة جعبر التي تتربع فوق لسان صخري على الضفة اليسرى من نهر الفرات، وقلعة شيزر التي صمدت أمام البيزنطيين ثم أمام الصليبيين، وقلعة سمعان البيزنطية التي أنشئِت في مطلع القرن الخامس الميلادي.
قلعة دمشق العتيقة
وإذا توقفنا عند أهم القلاع السورية التي مازالت قائمة إلى اليوم، نجد قلعة دمشق، التي تعد من أهم الآثار الإسلامية في المدينة، وتتميز بقوتها وشموخها وروعة عمارتها، وتعد من التحصينات الدفاعية المهمة في المدن الإسلامية، ومن أهمّ معالم العمارة العسكرية في سوريا.
فمنذ بداية عمارتها في العصر الأيوبي، كانت حصناً عسكرياً مهماً، ومقراً للسلاطين، فقد شهدت إقامة عديد من الملوك والأمراء والولاة فيها، واتخاذهم إياها مقراً ومسكناً، مثل السلطان نور الدين محمود الزنكي، وصلاح الدين الأيوبي، والملك الظاهر بيبرس، ولعبت دوراً سياسياً وعسكرياً مهماً في دعم منعة الحكم وسياسة البلاد، حيث استفاد منها الولاة المسلمون في الدفاع عن دمشق والشام ضد الصليبيين والتتار.. وفيها كانت تمارس شؤون الحكم، فكانت مدينة محصنة، فيها القصور والحمامات والمساجد، وفيها دفن عدد كبير من الملوك والسلاطين.
وهي من الآثار التي خضعت للترميم الشامل في السنوات الأخيرة، وعلى مدى 22 عاماً، وذلك لإحياء دورها الحضاري، كمنارة ثقافية في قلب العاصمة السورية، والتوثيق التاريخي والمعماري للقلعة، ودراسة المحيط الاقتصادي والسكاني والسياحي والاجتماعي لها، بهدف تأهيل هذه المنطقة التي تشكل إرثاً حضارياً غنياً.
حصن روماني
وهذه القلعة في الأصل كانت حصناً رومانياً بني في القرن الثالث الميلادي، ليكون مركزاً لفرقة الفرسان الرومانية المتمركزة في دمشق، ومقراً للقيادة العسكرية وسداً منيعاً في مواجهة التمردات الداخلية، وهي تقع في الزاوية الشمالية الغربية من سور دمشق، بين باب الفرج من الشرق وباب النصر من الجنوب الذي يشغله حالياً مدخل سوق الحميدية.
وعندما جاء السلاجقة اعتمدوا عليها كحصن دفاعي خارجي، بسبب تهدم سور دمشق، وبدأ بناء القلعة بعد عام واحد من دخولهم دمشق، وأضافوا بعض المنشآت إليها، لتكون قصراً حصيناً لهم وأحاطوها بالأسوار والأبراج والخنادق، وأقاموا داخلها الدور والحمامات والمساجد والمدارس.
وفي عهد الدولة النورية (الزنكية)، التي حكمت العراق والشام في السنوات الأولى من القرن الثاني عشر الميلادي (549 هجرية/1154 ميلادية)، أقام نور الدين محمود في دمشق، وجعل قلعتها مقره, وكان يُصرّف من داخلها شؤون الحرب والسياسة، ويسيّر منها الجيوش لملاقاة الصليبيين، فأصبحت دمشق للمرة الأولى منذ نهاية العصر الأموي عاصمة للدولة العربية الإسلامية، وقد جدد نور الدين القلعة ودعمها بالأبراج وبخندق محمي بســور، كما انشأ فيها دوراً ومساجد وحمامات ومدارس، وتوفي فيها رحمه الله سنة 1174 م (569هـ)، ثم نقل جثمانه إلى قبره في دمشق القديمة.
العمارة الأيوبية للقلعة
وحين دخل السلطان صلاح الدين الأيوبي مدينة دمشق عام 570هـ/1174 م، قام بتحصين القلعة، وجدد البرج الشمالي لها عام 1188م، وجعلها مقراً لإقامته، وقد توفي ودفن فيها، قبل أن يُنقل قبره إلى جنوب غربي القلعة، في تربته المعروفة في المدرسة العزيزية بدمشق.
ثم جاء التجديد الكامل للقلعة وإعادة عمارتها على يد الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب شقيق السلطان صلاح الدين وخليفته، ففي عهده كانت القلعة قد وهنت وتهدمت بسبب الزلازل والحروب، فأزالها وأعاد بناءها من جديد سنة 1206م، لأنها لم تعد قادرة على مواجهة الجيوش الصليبية التي كان يعد نفسه لمواجهتها، ولهذا جاءت القلعة الجديدة آية في فن العمارة والتحصين العسكري.
واستمرت عملية البناء 15 عاماً، وشارك فيها الأمراء الأيوبيون، الذين اختص كل منهم بجانب من سور القلعة، أو برج من أبراجها، وكذلك سكان دمشق، وقد جاءت القلعة الأيوبية متطورة تطوراً كبيراً بالنسبة للقلعة القديمة، سواء من حيث القوة والمنعة أو ضخامة الأبراج أو المساحة لكنها حافظت على الشكل المستطيل.
مدينة ملكية عسكرية
وقد تجاوز العادل في بنائه حدود القلعة القديمة، فتقدمت أسوارها من جميع الجهات، ودعمت أبوابها، وأصبحت في عهده مدينة ملكية وعسكرية، حيث أضيف إليها قصر مؤلف من طابقين وعدد من القاعات الصغيرة , ومنشآت للسكن والحكم ومكاتب إدارية ومعمل للأسلحة، وبيت المال، وسجن الدولة، وأسواق، وحمامات ومسجد. وبقيت بعض المنشآت كما كانت في السابق. ولذا فإن القلعة التي نراها اليوم بروعتها وقوتها وفخامتها، إنما هي قلعة أيوبية.
وقد لعبت القلعة دوراً مهماً في الدفاع عن دمشق، وخاصة عند غزو التتار لها عام 1258م، ولكنها سقطت تحت ضربات المنجنيق العنيفة، التي أتت على البرج الغربي الجنوبي.
عمارة الظاهر بيبرس
وبعد النّكبات التي تعرّضت لها على يد التّتار، وتخريبهم لأجزاء عديدة منها، جَدّد المماليك القلعة في عهد الظاهر بيبرس، فقد كان كثير التردد والإقامة فيها لقيادة معاركه ضد الصليبيين والتتار، وعندما توفي عرض جثمانه فيها قبل أن ينقل إلى المدرسة الظاهرية.
واهتم الأمراء المماليك الذين تلوه بالقلعة، حيث جُدِّدَت أجزاء كثيرة منها، لا سيما أبراجها وأبوابها، ونُقِشَت الزخارف والكتابات. وجعل السلاطين المماليك حاكماً خاصاً للقلعة يرتبط بالسلطان مباشرةً، واستمرت في عهدهم الإصلاحات بها، لأهميتها العسكرية والسياسية، ولاقت عناية كبيرة , إذ أصبحت قلعة السلطان ورمز سلطته في حضوره وغيابه، ولعبت دورها العسكري في تصديها للغزو الخارجي، وكان لها كيانها الخاص.
وفي العصر العثماني أصبحت القلعة مقراً للإنكشارية والدالية ويرأسها آغا القلعة ومهمته استقبال وتوديع الوالي، وشهدت القلعة إهمالاً من قِبَل العثمانييّن، واستعملت سجناً ومعتقلاً، وكانت مجالاً للفتن والاختلافات، ثم أصبحت مقراً للحامية العسكرية. وفي سنة 1831م قامت ثورة في دمشق، وأحرق الثوار مركز الوالي العثماني، فالتجأ إلى قلعة دمشق، فحاصرها الثائرون وأهالي المدينة مدة 40 يوماً وقاموا بتدمير برج الزاوية الجنوبية الغربية فاستسلم.
وفي العصر الحديث، تعرضت القلعة للعديد من الكوارث، كهدم بعض أجزائها نتيجة الزلازل أو العمليات الحربية، فقد قصفت القوات الفرنسية القلعة إبان العدوان على دمشق سنة 1945م، فتهدم جزءاً منها، بالإضافة إلى تهدم دور كثيرة في منطقة العصرونية والأحياء المجاورة للقلعة.
وفي فترة الانتداب الفرنسي تحولت إلى سجن للثوار، وبعد الاستقلال استخدمت كسجن مدني، إلى أن تم بناء السجن المركزي في ضواحي دمشق في ثمانينات القرن الماضي، وإخلاء القلعة لبدء مشروع ترميمها عام 1984م.
قلعة صلاح الدين
ونشاهد قلعة أخرى من أشهر قلاع سوريا، وهي التي تنسب إلى البطل صلاح الدين الأيوبي، وتقع على بعد 35 كم شرقي اللاذقية، وترتفع 410م عن سطح البحر، وكانت قبل تحريرها من قبل صلاح الدين واحدة من أهم قلاع الصليبيين في سوريا، ومن أكثر حصون الغزو الصليبي مناعة، وكانت توصف دائماً بأنها القلعة التي لا تقهر، فهندستها من أروع الهندسيات العسكرية وأشدها فعالية.
وهذه القلعة يعود تاريخها إلى ما قبل الدولة الأيوبية وأُعيد بناؤها سنة 513هـ - 1119م، واحتلها الصليبيون في القرن الخامس الهجري، حتى حررها الفاتح صلاح الدين الأيوبي. سنة 1188م.
وهي قائمة على ذروة جبلٍ قرب الحفّة، وعلى نتوء صخري شاهق ذي منحدرات عمودية وتحميها خنادق طبيعية عميقة جداً ووعرة، وترتفع جدرانها عالية فوق ملتقى جدولي ماء.
ورغم هذه المناعة الهائلة فقد تمكن البطل صلاح الدين الأيوبي من انتزاع القلعة خلال يوم واحد، وكان الاستيلاء عليها نموذجاً نادراً للعبقرية والاستبسال.
وحتى عام 1965م لم يكن الوصول إلى القلعة ممكناً إلا مشياً على الأقدام، أما اليوم فلها جسر وطريق عبور، وأصبح للزوار طريق جيدة توصلهم إليها بسهولة بعد إيقاف سياراتهم في قاع الخندق العجيب. وقد خضعت هذه القلعة لترميم شامل قامت به مؤسسة الآغا خان.
قلعة حلب
ومن أهم القلاع التاريخية التي تضمها سوريا: قلعة حلب، التي تعد من أقدم الآثار الإسلامية والقلاع الحربية في العالم الإسلامي، ومن أجمل وأكبر التحصينات العسكرية الإسلامية القائمة حتى اليوم، فقد كانت وما تزال صرحاً معمارياً مهماً، وبناء عسكرياً متميزاً، يعطي ملامح قوة البناء العسكري الإسلامي، رغم النكبات التي تعرّضت لها من غارات وزلازل وحرائق.
وقد ظلت هذه القلعة منارة تاريخية ترصد ملامح التطور الكبير الذي بلغته بلاد الشام في فن الحرب والتحصين والبناء، وهي تتوسط اليوم مدينة حلب، وتقوم على شكل جبل هرمي، فرش سفحه بالبلاط، ولها سور كبير يحيط بها، زود بعدد من الأبراج المتقاربة تكثيفاً وتمكيناً لعملية الدفاع، حتى بلغ عددها 44 برجاً، وزودت بعناصر الدفاع الأخرى مثل فتحات السهام.
مقر للرحالة والشعراء
وقد تغنى الشعراء والرحالة بهذه القلعة، واصفين جمالها ومتعتها، وفيها عاش المتنبي وأبو فراس الحمداني، الشاعران العظيمان، كما عاش فيها الموسيقي والفيلسوف أبو نصر الفارابي وأبن نباته الواعظ وابن جني النحوي وابن خالويه اللغوي.
وتبدو القلعة اليوم شامخة شموخ التاريخ الإسلامي، تدل عظمتها على عظمة دورها السياسي والفكري والديني، فهي رمز مدينة حلب، وعنوان قوتها، فقد ارتبط تاريخها بتاريخ هذه المدينة العريقة عبر العصور، من حيث الازدهار والرقي، أو السقوط والانكسار، وبقيت تمثل ملامح شموخ العمارة وقوة البناء العسكري الإسلامي في الحضارة الإسلامية، وتأخذ أهمية معمارية كبيرة باعتبارها صرحاً هندسياً إسلامياً رائعاً من طراز فريد، يوازي قيمتها العسكرية البارزة.
فهي مفتاح مدينة حلب، ومَن مَلَكَها استطاع السيطرة على حلب كلها، إذ تقوم وسط المدينة القديمة على مرتفعٍ بارزٍ، وتشرف على أرجاء المدينة كلّها، ولذلك حرص السلاطين والولاة والملوك عبر العصور المختلفة على الاهتمام بها وتحصينها وترميمها والإقامة فيها، باعتبارها خط الدفاع الأول عن المدينة، وسقوط هذه القلعة في أيدي الغزاة معناه سقوط حلب كلها وسهولة السيطرة عليها، وهذا ما عبر عنه (عماد الدين زنكي) بقوله: (لو سقطت حلب بيد الفرنجة لما بقي من بلاد الشام شيء في أيدينا).
مفتاح مدينة حلب
ولذلك وجدنا الغزاة الذي قدموا من الشرق والغرب لغزو حلب، كانوا يبدؤون بقلعتها، فإذا ما سقطت في أيديهم سيطروا على سائر المدينة، فالغزو المغولي بقيادة هولاكو وصل إلى حلب سنة1260م، وهاجم القلعة وهَدَم كثيراً من معالمها، وكذلك جاء تيمور لنك سنة 1400م، فهدم القلعة، حتى سقطت حلب كلها في يده.. بل إن الفتح الإسلامي لحلب، لم يتحقق على يد خالد بن الوليد، إلا بعد ما استطاعت قوة من الجيش الإسلامي التسلل إلى القلعة، والسيطرة عليها، وإخضاع من فيها من الرومان.
وقد أنشئِت هذه القلعة الحصينة في القرن التاسع أو الثامن قبل الميلاد، حيث يعود تاريخ تشييدها إلى عهد أحد قواد الإسكندر المقدوني، والذي اختار ذلك التل الشامخ في حلب، ليكون معسكراً لجنوده، وأنشأ فوقه هذه القلعة، ولما احتل الرومان هذه البلاد أضافوا إلى القلعة منشآت لا تزال آثارها بادية للعيان، وكذلك جاء البيزنطيون من بعدهم فتركوا بصماتهم فيها، في حين كان الفرس يعملون فيها الخراب والدمار، حين تعصف بها جيوشهم متغلبة على الجيوش البيزنطية، ثم يعود البيزنطيون إليها ليرمموا ما هدمه الفرس، ويضيفوا إليها تحصينات وتعزيزات أخرى.
وتؤكد المصادر التاريخية، أنها أقيمت على أنقاض قلاع متتابعة قديمة، فلقد كانت الرابية، المرتفع الأكثر أمناً لإقامة المقر الحكومي المحصّن لمدينة حلب عبر تاريخها الطويل، فكانت هذه القلعة مجمعا للآكروبول في العهد اليوناني، ثم تحولت إلى قلعة حصينة في العهد البيزنطي، فقد أظهرت التنقيبات الأثرية في القلعة، وجود آثارٍ تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وأثار بيزنطية ورومانية، كما وجدت في حفريات القلعة آثار الآراميين التي تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وهي محفوظة في متحف حلب ومتحف القلعة، ممّا يثبت قدم هذا المكان.
قاعدة لحرب الصليبيين
وفي ظل الإسلام شهدت القلعة ازدهاراً كبيراً عبر العصور، وخاصة في العصر الأيوبي، حيث ضم السلطان صلاح الدين الأيوبي قلعة حلب إلى الدولة العربية الموحدة، وجعلها قاعدة لضرب الفرنجة وولّى ابنه (الظاهر غازي) حاكماً عليها، فوسع مملكته، ووطّد حكمه، وانصرف كلياً إلى تحصين القلاع وبنائها في جميع المنطقة الشمالية.
وفي العهد المملوكي، جدّد عمارة القلعة الأشرف خليل بن قلاون، ثم جدّد بعض أجزائها السلطان الملك الناصر بن برقوق. وكانت آخر الترميمات المملوكية قد حدثت أيام السلطان قانصوة الغوري آخر السلاطين المماليك، وهي الترميمات التي أبقت على مظاهر القلعة الجميلة حتى اليوم.
ولذلك فإن تخطيط القلعة وبناؤها الحالي عربي إسلامي أصيل، وتعود معظم منشآتها الحالية إلى العهد الأيوبي، ويحيط بها خندق واسع يبلغ عرضه نحو 26 متراً وعمقه قرابة 9 أمتار، وكان يملأ بالماء وقت تعرض المدينة للحصار ليكون حاجزاً مائياً يمنع المهاجمين من اقتحام القلعة أو يعرقل زحفهم إليها.
ويتم الدخول إلى القلعة عن طريق مدخل أمامي ذي برج بشرفات دفاعية، وكان هناك في السابق، قبل عهد الظاهر غازي، درج خشبي متحرك يربط بين المدخل الأمامي والخندق، وهو قابل للرفع في حالات الحرب، ثم تحول إلى درج حجري ثابت.
قلعة بصرى
ومن القلاع التاريخية المهمة في سوريا أيضاً، قلعة بصرى، التي تقع في جنوب مدينة دمشق على الطّريق نحو الأردن، وهي في الأصل مسرح روماني، مازال بحالته السليمة إلى اليوم، وقد تم استخدامه كقلعةٍ وكمقر إقامة للحكام والولاة السّوريين، بعد تزويد المبنى من الخارج بنظامٍ معماريٍ دفاعيٍ يتكوّن من أحد عشر برجاً حصيناً استُخدِمَت في إنشائها مواد جُلِبَت من مباني المنطقة القديمة.
كذلك فإن المسرح من الداخل قد غُطّيَ جميعه تقريباً بمبانٍ ذات ثلاث طبقاتٍ أنشِئَت في تجويفه. وبالرّغم من أن هذه المنشآت قد أزيلت منذ عام 1956م خلال برنامجٍ طويلٍ للترميم لإعادة المسرح إلى حالته الأصلية، إلاّ أن القلعة تبقى واحدة من أفضل أمثلة العمارة العسكرية في العصور الإسلامية.
ويعود استخدامه كقلعة إلى عام 1076م، عندما تم تدعيم البرجين المزوّدين بسلالم الواقعَين على جانبيّ المنصة لحماية القلعة من المُهاجمين. أمّا البرج الغربي الذي يُعَدّ أفضل الأبراج تماسكاً فقد أضيفت عليه طبقة تتكوّن من غرفة واحدة. وفي هذه الحقبة نفسها تمّ أيضاً إغلاق جميع منافذ المسرح المؤدية إلى الخارج.
وفي بداية الحكم الأيوبي في دمشق، بدأت المرحلة الثانية من بناء هذه القلعة، حيث تمّ على مدى عقدين من الزمان بناء سلسلة من الأبراج مستطيلة الشكل عددها ثمانية تلتفّ حول المسرح، وفي المساحات التي تقع بين هذه الأبراج، أُنشِئَت غرف وممرات داخلية وتجهيزات دفاعية أخرى، قام ببناء معظمها حاكم دمشق الأيوبي الملك العادل أبو بكر أخو صلاح الدين والذي تولى السلطنة من بعده.
ونظراً لأنّ قلعة بصرى كانت مقراً لهذا الأمير الأيوبيّ، فقد تواصلت النشاطات المعمارية فيها، حيث بُدِئ العمل في إنشاء الجامع عام 1223م فوق منصة المسرح، وتلا ذلك إنشاء خزّان مياه مُقبّى في تجويف المسرح كانت تصل مياهه بواسطة أنابيب تمتد من بركة الحاج الواقعة بالقرب من المسرح، والتي أعيد استخدامها في هذه الحقبة عينها. وكان يتمّ توصيل المياه اللازمة من هذا الخزان إلى الحمّام الفاخر الواقع في الجانب الشرقي من المسرح.
قلعة الحصن
ومن القلاع المشهورة في سوريا: قلعة الحصن التي تقع في مدينة حمص، وتعد من أروع ما ابتدعته فنون العمارة العسكرية، وهي تحتلّ موقعاً استراتيجياً مُهماً فوق جبل ارتفاعه 750 متراً عن سطح البحر وعلى بعد60 كلم غرب مدينة حمص في منتصف الطريق بين حمص وطرابلس. وتبلغ المسافة الفاصلة بين القلعة والبحر زهاء 35 كلم تقريباً من خطّ النظر.
وتمتدّ القلعة مع خندقها على مسافة 240 متراً من الشمال إلى الجنوب و170 متراً من الشرق إلى الغرب. وتُقدّر مساحتها بثلاثة هكتاراتٍ، وتتكوّن من حصنَين داخليّ وخارجيّ، بينهما خندق وحولهما خندق يُشرف عليها جميعاً قصر تحميه أبراج. وتتّسع القلعة لحاميةٍ تعدادها يبلغ ثلاثة آلاف محارب مع عتادهم وخيولهم ومؤنهم.
ويعتبر الحصن الداخلي قلعة قائمة بذاتها فوق قاعدة صخرية مرتفعة، ولهذا الحصن ثلاثة أبواب مفتوحة على الخندق يمتاز بأبراجه العالية ذات الطّبقات المتعدّدة وأسواره السّميكة المدعومة من الخارج بالجدران المائلة التي تقاوم الزّلازل والمهاجمين.
أمّا الحصن الخارجي فهو السور الخارجي ويتألف من عدة طبقات فيها القاعات والإسطبلات والمستودعات وغرف الحرس ومُزوّد بثلاثة عشر برجاً بعضها دائري وبعضها مربع ومستطيل، وهو أيضاً محاط بخندق ومدعوم بالجدران المائلة.
وهذه القلعة لم تبنَ دفعة واحدة ولم يكن لها طابع واحد، حيث جرى توسيعها مرات عديدة وتناولتها الأيدي بالترميم والتحصين، وأخذت أسماء متعددة عُرِفَت بها. فهي (حصن السفح) تارة، و(حصن الأكراد) تارة أخرى، ومرّة (حصن الفرسان) وأخيراً (قلعة الحصن).
وتعد القلعة من أعظم قلاع العالم وأشهرها من حيث منشآتها الدّفاعية ومواد بنائها وهندستها الفريدة التي تحمل مزيجاً من حضارات الشرق والغرب، في تناسقٍ يُبرِز بوجه خاص كل المبادلات المهمّة في الأسلوب بين الفن في الغرب والمشرق العربي، وخاصة في الأزمنة المتأخرة من الحضارة السورية في العهد الروماني وأوائل العصور الوسطى.
وتأسيس هذا الحصن يعود إلى العهود اليونانية وما بعدها، حيث يذكر بعض المؤرّخين بأن اليونانيين بنوا معقلاً عسكرياً في المنطقة الوسطى بين مدينتهم طرابلس وحمص وسماه اليونانيون (بيرغس) أي الحصن أو المعقل. وفى الفترة السورية بالعهد البيزنطي، نشأت بقرب البرج قرية مسيحية أصبحت مركزاً أسقفياً يتبع مطرانية حمص اسمها أسقفية الحصن، وذُكِرَت في التاريخ الكنائسي في عهد إمبراطور القسطنطينية (لاون الحكيم) سنة 883م.
وفي أيام الدولة السلجوقية قام شبل الدولة نصر، وهو ابن صالح بن مرداس رأس الدولة المرداسية بحلب، بوضع حامية كردية من أكراد الموصل في حصن السفح، وذلك سنة 1031م. وأصبح الحصن يُعرَف عند المؤرخين العرب بـ(حصن الأكراد).