مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

ذم الرداءة

الكاتب.. إننا نكتب ولا ندري ما المراد بالكاتب؟. هل الكاتب هو من ينشر كتباً فيتلقفها القراء عن طيب خاطر أو مرغمين.. أقول هذا الكلام لأنني صادفت كتاباً يرغمونك على شراء كتبهم، وهي في الحقيقة لا تساوي حبة خردل، بل إنها لا تساوي بصلة كما نقول ساعة الغضب. يطلع عليها القراء عن طيب خاطر إذا توفرت فيها قواعد الكتابة الصحيحة.. لا أعني بالقواعد ضوابط الكتابة الصارمة، بل المراد هو أن تتوفر على الأقل بعض ما يربطك بالقصة إذا قرأت القصة أو يربطك بالشعر إذا قرأت الشعر. أحياناً أفكر في حمل سكين والبحث عن هذا الكاتب وتوهم أنه قصة أو شعر لقتله. على الأقل سيقول القراء النموذجيون: هناك قارئ قتل ذلك الكاتب لأنه أساء إلى الكتابة. الكاتب في نظري يشبه إلى حد ما بطل رواية (العطر).. آه، أنتم الآن تتذكرون الورد والريحان والأريج والرائحة المثيرة للبدن كله.. الأمر يتعلق بقاتل يقتل النساء لصنع الرحيق الأسمى للحياة، الرحيق المقدس للإنسان. الكاتب يصنع الرحيق الأسمى من واقعه وبيئته وحياته حتى يخلب لب القراء، لا أن يجبرهم على دخول مارستانات الأمراض العقلية والنفسية. تقرأ بعض الأشعار فتقول في نفسك: أي شعر هذا؟ لماذا يكتبون هذه المفرقعات؟ هل يريدون قول شيء غريب نحن في حاجة إليه لننعم بالهدوء والسكينة؟ إذاً نحن مغفلون لا نفقه شيئاً في الأدب.
هذا العدد الهائل من الكتاب والشعراء الذين ملأوا الدنيا صخباً وعويلاً، هل هو دليل أزمة نفسية؟ بمعنى هل صارت الكتابة ترفيهاً عن النفس التي تعاني آلام هذا الواقع الكئيب؟ إذا كان الأمر كذلك فقل على علم النفس السلام. استطاع الكاتب أن يضمن لنفسه وعشيرته العيش بمنأى عن الأدوية والأطباء.
لا أجد جواباً شافياً لمن اختار الشعر وهو يجهل العروض والموسيقى والأوزان، ولمن اختار القصة وهو لا يمتعنا بسرده. القصة فكرة ومتعة، بل الأدهى هو أن يعثر الكاتب على طبال أو زمار يحلل بنية الماء أو النار.. أعرف ناقداً يثير ضحك حتى من يكتب عنهم، يتشابه نقده لهذا أو ذاك، لأنه صنع نظاماً واحداً يصلح لأي كان. تراه يدرس الجملة السردية أو التناص وهلم جرا من المصطلحات التي تحتاج إلى قرون لفهمها فهماً صحيحاً، وهو لا يعود إلى مراجع مشهود لها بالمصداقية، بل إنه يحشرها حشراً في كل كتابة. فهل يستوي شعر نزار قباني وشعر مظفر النواب؟
نحتاج إلى كاتب يخلص للكتابة لا أن يجعل منها وسيلة لربط علاقات مشبوهة مع سلطة ما يعتقد أنها توفر له الأمان، ونحن نعرف أن الكاتب ينبغي له أن يظل دوماً في صف المعارض الذي ينتقد ويفضح ويسخر.. أما كيف نستطيع أن نخلص إلى هذا الصف، فهذا ما يثير جنوني حقاً أيها السادة..
أيها السادة.. الكاتب كالساحر، يستل شيئاً من الفراغ، ولكن عليه أن يخفيه مرة أخرى.
***
الناقد.. أريد أن أفهم لم يقوم بعض النقاد بكتابة مقدمات لشعر هو شبيه بشعر الماعز، أو لقصص هي شبيهة بمقص حلاق درب الفقراء، أو روايات هي أشبه بمسلسلات الكيلوغرام.
قد يقول قارئ إنني أتحامل على هذه المقدمات. كلا، أنا أريد أن أفهم، لم يتورط هؤلاء النقاد في هذه الكتابة التي تمسخ مسارهم النقدي كله؟!. لا يعقل أن يستنبط الناقد أفكاراً ومعاني لا توجد أصلاً في هذه الكتابات التي لا تتجاوز حدود الخواطر. لو درست في نطاق الخاطرة ما أثار هذا سخرية كثير من القراء، ولكن أن يتباهى بها الأديب على أساس أنها صادرة عن الناقد الفلاني أو الناقد المفلق فذلك يستدعي فهم الظاهرة.
أن تفهم الظاهرة مسألة سهلة، إنما الإشكال يتمثل في أنها صارت عادة اعتاد عليها هؤلاء الجهابذة وهؤلاء الكتاب.. لا نمنع أحداً من دخول ميدان الكتابة، ولكن قليلاً من الصبر والتحكم في القواعد والفن، أما أن يطلب منك شراء قصائده أو قصصه فقد تعدى حدود نفسه، لن أقرأ الرداءة ولو منحني مليار درهم..
أعرف شاعراً متمكناً كتب مقدمة لقاص لا يزال يصول ويجول في المهرجانات حتى إنه صار يتقلد مهمة تسجيل الأسماء المشاركة مع أن قصصه تفوح منها رائحة الرداءة، رأى فيها ما لم يره الشيطان نفسه.. درس السرد والشخصيات ولم ينتبه إلى أنه كان يقحمها فلا تمثل أي دور في مسار تطور الأحداث.. كانت مجرد خواطر قصصية والسلام، ولكن صاحبنا أعمل ذهنه حتى كاد يسجل سبقها التاريخي في أن نجيب محفوظ يسرق من كاتبنا. ونحن كنا نتندر فيما بيننا. الآن صار له صوت اقتحم الحياة الأدبية اقتحاماً، وهل يكون الكاتب الحق الفذ من هذه الطينة؟
بوكوفسكي كان على حق لما قال إن الفرق بين الكاتب الجيد والرديء هو الحظ.
حقاً هو الحظ. وقال أيضاً ما معناه إن الله خلق كثيراً من الشعراء ولكن لم يبزغ منهم إلا قليل من الشعر. رفقاً بنا أيها النقاد، فعلى الأقل إذا عزمتم على كتابة المقدمات فكونوا شجعاناً. قولوا لهم قولاً كريماً واصرفوهم بلباقة على أساس أن يفهموا أن للإبداع أصولاً.. أما أن تغرسوا فيهم الأدبية فيتكالبوا علينا من كل صوب وحدب فهذه هي الطامة الكبرى، وأنتم مذنبون.

ذو صلة