مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

العقاد وأنا

لم أكن أتوقع الخلوص من فِتْنَةِ العقاد التي استحوذت عليَّ في زمن كنت فيه ضعيف الجناب. 
 عرفت العقاد رحمه الله في مطلع شبابي, وأحسست أنني أمام عملاق يملك الجاذبية والإثارة -في آن-. على الرغم من حملات التشويه التي أَثَّرت على سمعته إثر المعارك الضارية التي خاضها مع (الرافعي) وبخاصة أن الرافعي -رحمه الله- عدل بها عن الطريق السوي, وبالغ في الإسفاف. وبالذات في كتابه (على السَّفُّود) وهو الكتاب الذي أتيحت لي قراءته في وقت مبكر من حياتي الأدبية. حتى لقد تصورت أن هذه هي السمة الطبيعية للنقد, ومن ثم أصبت بشيء من هذا الدخن, حين خُضْتُ معترك النقد. ومع كل المثبطات يظل العقاد عملاقاً يَمْتد أثره وحضورهُ مع الزمن. لأنه يمثل رؤية متميزة, ويتوفر على ثقافة واسعة ومعمقة, ويمتلك لغة حِجَاجِية, وموقفاً أخلاقياً, يتسم بالأنفة, والاعتزاز, وقوة العارضة.
 تكرس العقاد في ذاكرتي كواحد من عمالقة الفكر والأدب العربي, وسعيت جهدي للحصول على ما قال, وما قيل عنه, حتى تجاوز حقله في مكتبتي ما لغيره من الأنداد. باستثناء (طه حسين). وعلى الرغم من حضوره الفاعل, وتأثيره في المشهد الفكري, إلا أنه ظل مظلوماً بسبب الحملة الجائرة التي قادها الموالون للرافعي مع أن العقاد محسوب على الفكر الإسلامي, ودراساته تتسم بالعمق والشمول والتوازن, الأمر الذي حفزني على محاولة دفع الظلم عنه, عبر محاضرة عن توازن فكره, وخلوه من دخن الفلسفة المادية الحديثة. 
الشيء المثير أن العقاد بكل ما هو عليه من رزانة, وذكاء, وثقافة إسلامية شمولية لا ينظر إليه من هذه الزاوية.
 وليس مهماً أن يكون في الذاكرة الجمعية كما هو, أو يكون غير ذلك, ولكن المهم ألا يَحْجُبَ هذا التصور الجائر تلك الثروة التي نحن أحوج ما نكون إليها في أعقاب الحملات المتواصلة على الفكر الإسلامي.
 ميزة الفكر عند العقاد أنه متضلع من التراث, والمعاصرة, ومتوفر على كل التيارات الفكرية في الشرق والغرب, وتصدياته للمذاهب الفكرية التي بادرت أزمة السياسة و(أدلجتها) أشاعت ذكره في الأوساط العالمية. 
الذين يقرؤون العقاد متشظياً من خلال كتبه الموهمة بعناوينها المتباينة يفقدون شطراً كبيراً من وحدته الفكرية. العقاد صدى لمرحلته الفكرية والسياسة, وتواصله الأعمق مع الثقافة الأوروبية وفلسفتها شَكَّلَ عنده تياراً قل أن يتصوره المُخِفُّون من القراء. لقد تصدى لمفكري القرن العشرين, وسبر أغوارهم, وحدد منطلقاتهم, وتوسل بالموروث الفكري العربي, لتفكيك الأنساق المعرفية الغربية. فعندما نقرأ كتبه (عقائد المفكرين, في القرن العشرين) و(الإنسان في القرآن) نجده في الأول يمهد الطريق إلى الفكر الأوروبي من خلال تثوير عقائد مفكريه, وفي الثاني ينسف نظريات يهودية حول نشأة الإنسان, وشهواته وغرائزه, ولا يجد أقوى من القرآن الكريم للانطلاق منه وبه, لإجهاض نظريات مادية بحتة, تسلب الإنسان عواطفه, وتُنَحِّي الجانب الروحي عنده. فبعض المتسطحين من تجار الشنطة المعرفية, يندلون بوادر الدلالات نَدْل الثعالب, ويظنون العقاد جماعاً, أو مُبْتسِراً. أو مؤرخاً لبعض الظواهر الفلسفية. والحق أنه خصم عنيد لدود لأساطين الفلسفات المادية, والنزعات العنصرية.
 لقد تصدى لـ(الماركسية) و(النازية) والفاشية, وسائر القوميات والعرقيات (المؤدلجة) والمتعنصرة, واستطاع بثقافته الموسوعية تَعْرِية إلحادياتها, وعنصرياتها ودعاياتها المضللة, حتى لقد دُبِّر لاغتياله, هذا فضلاً من دفاعه عن حقائق الإسلام, وتَصَدِّيه لأباطيل خصومه.
 لم أشأ في هذه العجالة التعريج على عالمه الإبداعي المتمثل بِرواية واحدة, وأحد عشر ديواناً من الشعر, وعدد من كتب النقد والتنظير, ذلك أن عالم العقاد متعدد المشارب, والاتجاهات والتنوعات المعرفية والأدبية والإبداعية.
كما لم أشر إلى عبقرياته التي تقبلتها المشاهد المعرفية بقبول حسن, وهي وإن تصدى لها البعضُ, وفند بعض هِناتها, تشكل رؤية فلسفية إسلامية بإزاء الفلسفة الماركسية, التي تعول على العبقرية الجماعية, وتذيب الفرد في الجماعة. لقد ضرب أروع الأمثال بالعباقرة الإسلاميين ليؤكد الرؤية الإسلامية للفرد, ويجهض الرؤية الماركسية الجمعية. وقد لا نمضي مع العقاد في كل ما يذهب إليه, ولكننا مضطرون للاحتفاء به والاحترام له, والإشادة بجهوده المتنوعة والأصيلة, ونرى أنه أهل لأن يتصدى الخصوم لحضارة إسلامية ويتوسل بها لإجهاض انحرافات الفلاسفة الماديين.
 لقد كان بوسعي حضور الملتقى الذي عقد في (أسوان) مسقط رأس العقاد بمناسبة مرور خمسين عاماً على وفاته مع الزميل الدكتور (محمد الربيع), إذ كنت يومها في مصر لحضور بعض الفعاليات, غير أنني حصلت على بعض أوراق المؤتمر, وقد تكون لي مشاركة أوفى من هذه المشاركة.
ذو صلة