كثيرون يرون في الأديب (عباس محمود العقاد) كاتباً مبدعاً، ويربطون اسمه بسلسلة (العبقريات) التي كانت مُقررة في المدارس والجامعات في السبعينات، إلا أن الرجل كان أثرى وأعمق من ذلك بكثير. إذ رغم عدم إكماله التعليم الثانوي، فقد اشتغل بالفكر وتعمّق في تفعيل العقل وتسخيره لجموح الأدب، وعالج قضايا أمته بروح جسورة، وتفانٍ مخلص، سواء عبر إصداراته أو مقالاته، أم عبر صوته في البرلمان المصري، والذي ارتفع ذات يوم عندما ترشّح أن الملك (فؤاد) يريد حلّ البرلمان، مجاهراً بقول الحق: (إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأسٍ في البلاد من أجل صيانة الدستور)!. ومثل كل المناضلين عن مواقفهم، الساعين نحو الكرامة والحرية، فقد أُدخل (العقاد) السجن بتهمة التعرض لـ (الذات) الملكية، وحُوكم بالسجن لتسعة أشهر.
وإذا كان (العقاد) قد خاض المعترك السياسي في بلاده، مصر، وحرّضَ على التحرر ورفض قبول الأمر الواقع، إلا أنه أوجد مدرسة (الديوان) التي رفدت الإنتاج الأدبي الرصين عبر النقد العلمي الموثوق، وهذا ما أدى إلى تأليفه كتاب مع (المازني) أسمياه (الديوان)، وحوى نقداً لاذعاً للشاعرين الكبيرين (أحمد شوقي) و(حافظ إبراهيم). ولـ (العقاد) إنتاج أدبي ضخم في 83 كتاباً، منها (سعد زغلول.. سيرة وتحية)، (هتلر في الميزان)، (النازية والأديان)، والعبقريات: عبقرية محمد، عبقرية أبي بكر، عبقرية عمر، عبقرية علي، عبقرية خالد، كما كتب عن عائشة الصديقة، وعمرو بن العاص وفاطمة الزهراء. ولقد تعلّم (العقاد) اللغة الإنجليزية، وساهم ذلك في تعرّفه على المدارس الإنجليزية في النقد، وهذا ما قرّبهُ من المنهج العقلاني في النقد، بكل ما فيه من حدة وصراحة ووضوح، وأثَّرَ ذلك في احتدام المعارك الأدبية بينه وبين نظراء عصره، خصوصاً (طه حسين).
وإذا كان (العقاد) جامعة تحوي كل الفنون والآداب، فإنه قد لمس الشعر أيضاً، وظهر أول إنتاج شعري له عام 1916، ولقد عبّرت أشعارهُ عن البيئة المصرية الواقعية، تماما كما هو الحال مع (نجيب محفوظ) في ثلاثيته وغيرها من الأعمال الأدبية. كما أنه لامسَ الفلسفة، التي فتحت له آفاق البحث والكتابة، فألفَ عدة كتب في هذا الاتجاه مثل : الله، الفلسفة القرآنية، إبليس.
وخلال رحلته الأدبية اعتمد (العقاد) على قلمه الصحافي، فعمل أولاً في جريدة (الدستور) ثم (الأهرام) ثم (البلاغ) و (الجهاد) ثم انتقل إلى (روز اليوسف) ليكون أحد أهم صحافييها. وخلال رحلته الأدبية لم يكن الحب بعيداً عن قلبه، فلقد أحب (مي زيادة) الأديبة المعروفة، لكنه تحوّل إلى حب (سارة) التي ملكت عليه وجدانه وأحاسيسه، ولقد أرَّخت (سارة) جزءاً من حياه (العقاد) وطقوسه مع أصدقائه، وحبه للتعليق والفكاهة، ومما قالته : أنه كانت لديه حجرة يجلس فيها أسماها (حجرة الإسعافات)، كما ذكر حسن خاطر –فبراير 2008- لأن الحجرة تحتوي على كتب ومراجع يعتبرها (العقاد) إسعافات مرجعية إذا أراد الكتابة عن موضوع معين، ولقد كتب (العقاد) رواية وحيدة أسماها (سارة) على اسم حبيبته.
ولقد اختط (العقاد) طريقاً أدبياً توثيقياً، قلما نجده في مسار الأدب العربي، وكان يمازج التاريخ بالحدث، فجاءت كتاباته على شكل بحوث رصينة، وليست إرهاصات فكرية بحته.
وكما تأثرَ (توفيق الحكيم) بمظاهر البيئة حوله، ومنها (الحمار) فإن (العقاد) أيضاً لم يكن بعيداً عن دائرة الحمير، وكتب عدة مقالات عن الحمير، منها: ذكاء الحمير، ظلم الحمير، وكان لا ينتقد الحمير قدْرَ إبدائه إعجابهُ بها.
جانب آخر من حياة (العقاد) يكاد يكون غير معروف، وهو شغفهُ بالموسيقى، إذ تذكر المصادر أنه كان يحتفظ بحوالي 1500 أسطوانة غنائية وموسيقية، وكان معجباً بصوت سيد درويش، ومحمد عبدالوهاب، وأم كلثوم. كما أنه من المتابعين لفن الباليه.
وهكذا نلاحظ أن هذا الأديب والسياسي والمفكر والفنان قد مسك كلَّ خيوط الإبداع بيده، وأثرى المكتبة العربية بنفائس الإبداع.
وفي زمن الإنترنت والتويتر والفيسبوك، والثقافة الهشة، لا نعلم لو كان (العقاد) بيننا ماذا سيعمل؟!. وكيف سيتعامل مع مخرجات الثقافة المُسطحة و (المستعجلة) والاستعراضية، التي يمارسها بعض القائمين على الشأن الثقافي في العالم العربي؟.
رحم الله (العقاد) فلقد عاش في زمن يصعب استرداده.