مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

العقاد (فات الميري) وتمرغ بالمجد

«ليس هناك كتاب أقرؤه ولا أستفيد منه شيئاً جديداً، فحتى الكتاب التافه أستفيد من قراءته أني تعلمت شيئاً جديداً هو ما هي التفاهة؟ وكيف يكتب التافهون؟ وفيم يفكرون؟»
عباس محمود العقاد
 يتداخل اسم العقاد في ذهني مع ثلاث قضايا تشغلني كلما ذكر اسمه تحديداً، الأولى هي (تآكل القمم) والثانية (المثقف وعبودية الوظيفة) والثالثة (القراءة بين التخصص والتنوع).
تآكل القمم 
أعني بالقمم، أولئك المبدعين البارزين في مجالات عدة دون دفع رسمي ممنهج أو سير مختلقة، قمم مثل العقاد الذي نكتب عنه اليوم، بالكاد حصل على الشهادة الابتدائية وعمل على تثقيف نفسه بنفسه حتى تأهل لعضوية مجمع اللغة العربية، وتنقل في الوظائف الحكومية مثلما النحلة حتى كان أول من كسر (قداسة) الوظيفة الحكومية ليتحرر من عبوديتها كما كان يراها، عمل بالصحافة كمؤسس وكاتب وعمل بالسياسة كوفدي وعضو في البرلمان ودخل في مساجلات أدبية مع كبار الأدباء في زمانه.
قضيتي في تآكل القمم الملهمة تتلخص في سؤال يفرض نفسه هو: إذا كانت الأزمات والتحديات والمصائب تصنع العظماء والمنقذين، فأين عظماء هذا العصر والأهوال تحيط بنا وتخرج من بين أيدينا؟ إن أمتنا العربية اليوم ليست كما كانت في زمن العقاد, بل لو قارنا ذاك الزمان وزماننا على مستوى التعليم على الأقل لمالت الكفة صوبنا ولكنها تخلو من العقاد وأجيال القمم التي عاصرته ولحقت به وليس في مصر وحدها، فهل بتنا أمة عاجزة عن إنتاج أمثال العقاد والمازني وطه حسين وغيرهم كثير.
المثقف وعبودية الوظيفة 
من يا ترى يفعلها في عز ازدهار المثل المصري الشهير (إذا فاتك الميري اتمرغ بترابه)؟ دلالة على علو شأن الوظيفة الحكومية ومميزاتها التي تضمن الاستقرار المعيشي والمكانة الاجتماعية للعاملين تحت لوائها؟ لقد فعلها العقاد فيما يشبه الثورة وهو يرجح لنفسه أنه المصري الأول الذي يفعلها، وهو صاحب رأي ثقيل في الوظيفة الحكومة حيث يصف الموظف بأنه (رقيق القرن العشرين، العقاد), فات الميري واختط لحياته طريقاً لا يمر سوى فوق خطوط المجد والعلياء.
ما فعله العقاد في حينها، أثار عندي قضية لا زالت مشتعلة وهي هل ترك الوظيفة خاصة أو عامة فقط تضمن للمثقف ممارسة دوره الناقد في المجتمع؟ هل كل الوظائف قيود وأغلال؟ هل من وظيفة أو طريقة تؤمن للمثقف مسافة كافية بين العيش بشكل لائق والنقد بمعيار كاف؟ العقاد أشعل السؤال ورحل عن دنيانا. والفرص المتاحة له أو التي صنعها لنفسه في زمانه كأن أصبح نائباً في البرلمان قد لا تبدو متوافرة لكل ثائر مثله.
القراءة بين التخصص والتنوع
ساعدني العقاد قبل أكثر من عشر سنوات في الإجابة عن بعض الأسئلة المهمة التي وجدتها في لقائه التلفزيوني اليتيم –كما أعتقد– من بينها: ماذا نقرأ؟ وهل يجب أن نتخصص في القراءة طالما أننا ملتزمون بتخصص معين؟ هذا الموضوع يشغلني شخصياً نظراً لأني كاتب صحافي ولدي خيارات ورغبات عديدة في القراءة.
 في ذلك اللقاء تحدث العقاد عن آخر الكتب التي اطلع عليها وكان عن (الحشرات)، أديب وشاعر ويقرأ عن الحشرات، لقد اعتبرت ما سبق منهج في القراءة دون أن أتجاوز شكي بأن العقاد ظل مسكوناً حتى نهاية حياته برغبة التعويض عما فاته مرغماً من نصيبه في التعليم.
والحقيقة ليس هناك خلاف على أهمية تنوع القراءات للمثقف بشكل عام, ولكن على المتخصص أن يركز جهده في تخصصه ولا يشتت جهده في مكامن بحث أخرى, فيهمل تخصصه ويتوه في المكان الجديد، وحتى اليوم كلما فتحت كتاباً جديداً في مواضيعه تذكرت كتاب العقاد عن (الحشرات).
في الختام تبقى للعقاد جوانب مهامة في حياته تستحق البحث والتحليل كمعاركه الأدبية وعمله في الصحافة (الدستور، المؤيد، الأهالي، الأهرام.. إلخ) ودوره كسياسي وبرلماني عاصر مصر في أهم مراحل تحولها من الملكية إلى الجمهورية، كما تبقى للعقاد صورة تتخفى خلف شخصيته الطاغية كأديب وشاعر, وهي أنه من أشهر العزاب في زمانه ربما كانت تلك (الميزة) هي التي أفسحت له الطريق للمزيد من القراءة والكتابة فلا هموم أو سموم ولا تحقيقات أو تدقيقات.

ذو صلة