يذكر صاحب العبقريات عباس محمود العقاد في كتابه (أنا) رأياً للكاتب الأمريكي (وندل هولمز), يقول فيه إن الإنسان كل إنسان بلا استثناء إنما هو ثلاثة أشخاص في صورة واحدة.
الإنسان كما خلقه الله.. والإنسان كما يراه الناس.. والإنسان كما يرى هو نفسه..
وفي البيت المنسوب للإمام علي (رضي الله عنه):
أتحسب أنك جرم صغير
وفيك أنطوى العالم الأكبر
قد تبدو هذه الصورة معقدة لتعريف الأنا والوصول إلى فك شفراتها (بالجمع), مما قد يحسبه البعض (فلسفة) وترفاً فكرياً قائماً على التنظير المجرد البعيد عن التجربة والواقع المعاش، وإلا كيف يجهل الإنسان العاقل ذاته وتعريف (أناه) مستشهداً بقول بعيد عن كل هذا التنظير وبسلاسة لسان العرب بما قل ودل (المرء مخبوء تحت طي لسانه), وهو قول أيضاً منسوب للإمام علي - كرم الله وجهه، والقول صريح ودال بأن (الأنا) أي ذات المرء مخبوءة تحت لسانه ومفتاح شفرتها (مفرد) اللسان.
ولكن ماذا نقول لو كان هذا الشخص ينطبق عليه قول من يعطيك من طرف اللسان حلاوة... وفعله نقيض لحلاوة لسانه.
ومع هذا وفي نفس الوقت وفي رأي آخر يقول قد تنطبق هذه المقولة على الشخص الثاني كما عرفه وندل هولمز (الإنسان كما يراه الناس), ولكن صاحب العبقريات أي العقاد وكوننا استشهدنا بما نقله عن الكاتب الأمريكي وندل هولمز يرى بذلك أي صورة الأنا في عيون الآخرين حينما يطبقها على نفسه بعيدة كل البعد عن (أناه), بل نجده يقسم بما يقسم به كل شريف بأن عباس العقاد هذا لم يلتقيه ولا يعرفه ولم يعش معه في حياته أبداً, ونقيض ذلك هو الأقرب إلى الصواب! على حد قوله طبعاً وهذا الكلام صحيح مليون...! مليار...! بالمائة...! لأن الناس متى اتفقوا على شيء حتى يتفقوا بالحكم على شخص مئة بالمئة, فهولمز هنا يقدم مقاربة نسبية جداً عن (الأنا) محاولة لملامسة الصواب شأنه شأن جميع من كتبوا عن الأنا البشرية، ورسموا مقاربة تتلمس بعض مفاتيح الأنا وهي محاولة للوصول لصورة المثال في معرفة الذات، وإلا الحقيقة قد تبدو بعيدة كل البعد عن ذلك. وفي ظني حينما يذكر -وندل هولمز- ثلاثة أشخاص في نفس واحدة هو يؤكد هذه الحقيقة في الوصول لمعرفة (الأنا) الحقيقة المعقدة التي يشوبها الكثير من المجاز والدوران حول الذات وملامستها بدرجة نسبية قد تجد من يناقضها نقضاً تماماً، وإلا كيف يكون الشخص الواحد ثلاثة أشخاص أو أكثر في (أنا واحدة) فـ(أنا) ضمير مفرد وثلاثة أشخاص جمع وضميره (نحن), هذا أذا تحدثنا عنها لغوياً كون اللغة مفتاح للمعنى ومعبر عن دلالته، فأنت حينما تقول (أنا) قطعاً لا تعني ضمير الجمع (نحن). إضافة إلى أن الشخص المتلون بأقنعة عديدة سواء كانت ثلاثة أو أكثر على حد قول صاحبنا وندل هولمز (إذا استثنينا الإنسان كما خلقه الله، كون ذلك علمه عند الله سبحانه)؛ قد يحكم عليه بأنه ذو وجهين أي في العرف العام منافق وهو الشيء الذي لا تستسيغه النفس السوية.
أظن أن القارئ العزيز قد يجد في ذلك حيرة وعودة إلى الفلسفة العقيمة, ودوران في حلقة مفرغة, وأن صاحبنا وندل هولمز لم يقصد من رأيه هذا كل هذا التحليل من كاتب هذا المقال الذي جعل من ذواتنا لغز وطلاسم وشفرات, وأننا نعرف أيها الكاتب المتفلسف بأن القول في هذا الموضوع نسبي، فابحث في موضوع آخر تكون فيه المفيد والمستفيد، فنحن أعلم بذواتنا.
نعم أيها القارئ العزيز (فنحن أعلم بذواتنا) هي الأقرب إلى الصواب أي الإنسان كما يرى نفسه، وبعبارة سلسة وسهلة وقريبة من الجميع قد تبسط كل هذه الفلسفة التي قد يمجها القارئ نقول (كل إناء بما فيه ينضح).
وهنا أرجو ألا يفهم القارئ من المثال السابق المعنى السلبي له، لأنني هنا أصدقه قولاً بأني بحثت وأنا أكتب هذا المقال عن مثال يكون أكثر قبولاً لدى القارئ ولم يسعفني بحثي المتواضع، رغم أني لا أرى في هذا المثال شتيمة أو نقيصة قد يلمسها القارئ لا سمح الله. وتعليقي المتواضع في خاتمة هذا الحديث أن الإنسان كيف يضع نفسه ويقولبها في قالب يرى ذاته فيه تكون صورته وتعريفه, أي في قول آخر الإنسان مبدأ متى التزم بمبادئه وتقيد بها تكون صورته، مع قولنا هنا بالمجازية، الأقرب للصواب.