كان شارداً وهو يتحدث باسترسال دون أن يقطع حديثه لالتقاط أنفاسه حتى!.. بدا وكأنه يحادث نفسه بصوت مرتفع.. تابع حديثه لها وهو يحرك ملعقته بداخل قهوته الباردة والتي افتقدت نكهتها من شدة الدوار:
- أتظنين أنني حي أرزق؟!.. أنا جسد بلا روح.. وروح بلا جسد!! أشعر بالغربة في كل مكان.. مغترب في أرضي التي لم تطأ قدمي خارج حدودها ولا لمرة.. مغترب في موطني الذي ولد في أحشائه جدي!!.. مغترب في عملي.. بل في عالمي.. مغترب حتى في جسدي!!.. هل سمعتِ من قبل عن مثل هذه الغربة.. غربة الجسد!!.. لطالما حلمت بذلك البياض يكتسي خلاياي الداكنة.. كبرت وتضاءل معي ذلك الحلم الكاذب الذي أبكاني مرات ومرات.. لطالما بحثت عن إجابة لتلك الأسئلة الساخرة التي تحاصرني.. كنت أبحث عن أي إجابة تنقذني.. بل كنت أبحث عن تلك الإجابة التائهة لأجلي أنا لا لأجلهم.. لأريح عقلي من خلق مثل هذه الأسئلة..!
قطع حديثه لوهلة صوت النادل قائلاً:
- أهناك أي خدمة أقدمها لكم..؟
ردت الفتاة بعجلة:
- نعم أرجوك أريد مزيداً من شرائح الجبن لإفطاري..
- حاضر سيدتي.. وأنت سيدي أهناك مشكلة في الحلوى؟!.. أراك لم تتذوق منها أي قطعة!!
- أوه.. لا لا أبداً.. لا مشكلة.. أشكرك؟
أومأ النادل برأسه احتراماً منه وغادر المكان يلبي طلبها.. نظرت الفتاة نحوه ثانية بعد أن تنهدت قائلة:
- اهدأ أرجوك.. لا أعلم ما الذي يجب علي قوله لك؟!
رد بابتسامة ساخرة:
- أتعلمين.. كل حديثي السابق لم يصف ما أشعر به بعد!!
قاطعته بحزن:
- كفى أرجوك.. إنك لا تقدر نفسك بالقدر الذي تستحقه فعلاً!
عاد النادل بسرعة ليقاطعهم مرة أخرى بصوت الطبق الصغير الذي وضعه أمامها مرفقاً معه ابتسامة صغيرة ليغادر من جديد.. أكملت حديثها قائلة:
- كيف أثبت لك بأن الخلل منهم ليس منك.. لقد عجزت عن إقناعك بمدى روعتك وجمالك.. مدى الراحة التي تنشرها حولك.. بينما هم ينشرون التعاسة من حولهم فقط.. ليتخلل الحزن إلى قلبك بعدها.. كيف أجعلك تعي بأن المشكلة بعقولهم.. بجهلهم.. بغبائهم.. بسذاجتهم!!.. وأنت مازلت تلتفت إلى مثل هذه التفاهات.. كفى أرجوك!!
أومأ برأسه لها باستسلام بعد أن أسند ذقنه الصغيرة على قبضة كفه، ليرفع بعد ذلك كفه الأخرى ملتقطاً من طبقه قطعة شكولا مزينة واضعاً إياها بجوار شرائح جبنتها المقضومة.. قال لها:
- أشعر تماماً بأنني كقطعة الشكولا هذه.. وحيداً ببشرتي السمراء حول هذا البياض..!
ضحكت بصوت مرتفع قائلة بتعجب:
- ومن الأبله الذي سيتجاهل قطعة الشكولاتة اللذيذة في طبق الجبن هذا!!.. لا أحد.. لا أحد!!
تابعت ضحكاتها وهو يحاول إيقافها بصوت أكثر قوة وارتفاعاً:
- بلى بلى.. هناك من سيتجاهلها حتماً..!
أردفت بسرعة:
- من.. من..؟!
أجابها بسعادة بعد عثوره على إجابة سريعة لها:
- مرضى السكري!
ابتسم بانتصار وكأنه قد نسي محور الحديث الأساسي.. قالت له بصوت هادئ يناقض صوت ضحكاتها منذ لحظة بعد أن اتسعت عينيها وابتسامتها:
- نعم.. أحسنت.. المرضى فقط هم من سيتجاهلها..أحسنت أخيراً..!
اختفت ابتسامته المنتصرة وحل محلها ابتسامتها الذكية بأسنانها الملطخة بالشكولا.. لتختم تلذذها قائلة:
- أنت فعلاً تسعدني كقطعة الشكولاتة هذه..!
مد منديله النظيف لها.. لتمسح آثار الحلوى المنتشرة حول ملامحها.. مبعداً نظره عنها حابساً ابتسامته بخجل..!