يعد المسرح البولندي من أعرق المسارح الأوروبية، له رواد عظام، حملوا مشاعل التجديد، بتقديم رؤى وأنماط وأشكال مسرحية غير مألوفة في الأوساط المسرحية العالمية، أمثال (يوزيف شانيا) الذي أسس ما عرف بمسرح (أستوديو) الذي احتل مكانة كبيرة في الخريطة المسرحية البولندية والعالمية، ويعد من أهم المراكز المسرحية التجريبية، وأيضاً المسرحي البولندي الكبير (بيجي جروتوفسكي)، صاحب ما أطلق عليه مسرح المعمل، الذي يعد نوعاً جديداً للفن المسرحي، يعتمد على إقامة حوار متبادل مباشر بين الجمهور وخشبة المسرح، وكذلك في أعمال (تادروش كانتور) صاحب الفرقة المسرحية كريكورت (2)، التي امتازت بالعروض المسرحية، التي حملت سمات الحداثة والمعاصرة، ولن نستطرد هنا في الحديث عن أعلام المسرح البولندي، ولكن نخص في هذه السطور، نوعاً مسرحياً بولندياً جديداً، سعى لإحياء جانب ثقافي لدى المواطن البولندي، بتقديم ثقافة حقيقية تهدف إلى التعليم الاجتماعي، والارتقاء بالإنسان البولندي، بعد فترة طويلة من العزلة والانقطاع عن عالم الثقافة الجادة.
وترجع البدايات الأولى، لهذا المسرح إلى عام 1975م، حيث اتفق كل من (يوانا فوجنيتشكو، وفاندا أجيمبلو، وييجي دانييبلليفيتش) على تأسيس ما عرف بمسرح القهوة في وارسو عاصمة بولندا، تحت إشراف الهيئة الثقافية للنشر، حيث لا حظوا أن القرى البولندية قد أحيطت بأسوار الجهل، والأمية في منتصف السبعينات، وأن شباب هذه القرى لم يعودوا قادرين على التعامل مع المشاكل الملحة، والنقاش الجاد والبناء، كما تلاشت عادة ممارسة القراءة، وانزوت هوايات مثل الطرب والغناء والتمثيل من القرى البولندية، وأصيبت الظواهر الثقافية بالشلل والموت، وأمام هذه الأوضاع الثقافية المتردية، أخذ الجميع يبحثون عن تصور جديد يعيدون من خلاله النشاط الإبداعي والثقافي لسابق عهده، بتقديم عروض ورؤى إبداعية وفكرية جديدة، تساعد في استثارة المخيلة الإبداعية، وتوقظ في نفس الوقت التراث الثقافي للقرية البولندية، وبعد تشاور وتردد طويل بين أصحاب هذه الفكرة، حول تسمية هذا النوع من المسرح، أطلق عليه أصحابه مسميات عديدة منها، (أيها الإنسانيون ابدأوا) وتارة أخرى أدب الكلمة الحية، وفي تارة تالية (نوادي الشباب الإنسانيين) أو في حضرة المتواجدين دوماً، ولكن التسمية التي استقر عليها المؤسسون في النهاية هي (مسرح عند احتساء القهوة) أو باختصار مسرح القهوة، ويكمن الهدف الأساسي وراء تأسيس هذا النوع من المسرح حسبما يذكر بيجي دانييبلليفيتش، (الأب الروحي لهذا المسرح) أن يعلم الجماهير اللقاء المتواصل داخل النوادي، القراءة صوتاً أمام الجماهير، بتفهم واضح وبأداء يعتمد على النطق السليم والتفسير المناسب، والقراءة سماعاً، أي تصغي جيداً لتفهم ما يقوله الآخرون، والقراءة كلاماً، أي يكون بمقدورك التعبير عن ما تفكر فيه، وتشعر به، والقراءة نقاشاً، أي أن يكون بمقدورك إقناع الآخرين ببراهينك، وكذلك الاقتناع ببراهين الآخرين، ومن هذا التوجه، انطلق مسرح القهوة لخدمة الجماهير البولندية، بتقديم المتعة الثقافية والفنية، بتحقيق التأثير الفعال في أكبر عدد من الناس، يعيشون في قرية واحدة، أو في قرى متجاورة، فهو مسرح موجه في المقام الأول لأشخاص يشتركون في صنعه، بتقديم نصوص في البداية، دون إخراج مسرحي مسبق لها، أو أداء تمثيلي معد، ثم حدث تطور في هذا النوع من المسرح بعد ذلك بالقيام بعمل مونتاج، فني جذاب، معد بشكل جيد، يجمع بين أعمال نثرية مختارة، ومقالات يومية، وقصائد شعرية، وقصص وحكايات للأطفال، وأحياناً أخرى للكتب المدرسية والأدبية، حيث يتم تقسيم النص المختار، إلى أدوار تدخل خلالها المادة الأدبية، في إطار العرض المسرحي، وفقاً لاختيار المادة في عروض متعددة، حسب طبيعة المادة المقدمة، منها عروض خاصة، تقترب من شكل (الروبرتاج) الصحفي اليومي، أو عروض درامية أو شعرية على شكل مسرح الكباريه بمختلف أنواعه.
وأهم ما يميز مسرح القهوة في بولندا، أن جميع من يشاهدونه، سواءً كانوا جمهرة من المسنين، أو جماعة من الشباب، هم ممن لم تسمح لهم جرأتهم المتخفية، في أن تدفع بذواتهم الفنية للتعبير عما يجيش داخل أنفسهم في شجاعة، عما يريدون قوله وأصالة للآخرين، فضلاً أن هذا المسرح يشركهم فعلياً في العرض المسرحي، دون أن يكونوا مهيئين لذلك العرض الفني المعد للتمثيل المسرحي، فيصبحون قادرين على التخلص من خوفهم الفني بعد قيامهم بتنفيذ عدة برامج من هذا النوع، كما يمكن لهذا المسرح أيضاً، أن يكون ممثلاً وبنجاح كبير داخل الأندية الريفية، وفي المدارس والأماكن العامة، بل وأيضاً داخل محيط الأسرة، أو جماعة الأصدقاء، فلا حاجة فيه لخشبة مسرح، أو إضاءة مركبة، بل ولا حتى لأزياء مسرحية، بل الأمر يتوقف في المقام الأول في نجاح هذا المسرح، على رغبة المشاركين في التجربة، بقراءة نصوص مختارة، أو سيناريو تتسلسل فيه المقاطع المنتقاة لنصوص متباينة، بوصف محتواها وتفاصيلها الفنية للمشاركين في تجسيدها، بعد اكتساب خبرة في هذا الميدان، ويمكن القيام بتنفيذ تلك البرامج جماهيرياً، بعد بروفة واحدة، أما تلك البرامج المتسمة بتعقيد التركيب، فهي تحتاج إلى إعداد أطول، مع القيام ببروفات متعددة، ومسرح القهوة، أو مسرح حول المائدة، كما يطلق عليه أحياناً، لا يخدم فقط الهواة، أو أولئك الأشخاص، الذين يضعون أولى خطواتهم على طريق النشاط الفني والإبداعي، بل يخدم أيضاً الممثلين المحترفين، حيث انتشر هذا المسرح انتشاراً واسعاً، في شتى أنحاء بولندا، وتعددت وتنوعت فرقه المسرحية، حتى وصل عددها إلى أكثر من سبعمائة فرقة وجماعة مسرحية، حيث أصبحت هذه الفرق، وتلك الجماعات سواءً وهي في طور البداية، أو في طور النضج الفني فرقاً مسرحية محترفة، بفضل هذا النوع من التجريب.