مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

مسلسل الجامعة ومحاولة الانعتاق من أزمة المكان الواحد

دراما المكان الواحد تعتمد في الأساس على خصوصية هذا المكان، فتكون الأحداث التي تتم به، وشكل العلاقات بين أشخاص مرتاديه، محصورة فيما يمكن أن يحدث داخل تلك المساحة، العمل الذي تدور أحداثه في فندق غير ذلك الذي تدور أحداثه في مستشفى، حتى لو استخدمت نفس الشخصيات في كل مرة، فإنه لا يمكن على الإطلاق تكرار الأحداث أو شكل العلاقات مرة أخرى، ومن هنا فإن مسلسل الجامعة قد ضيّق على نفسه نطاق الاحتمالات المتعددة باسم الجامعة، لو كان اسمه حياة في الجامعة لاختلف الأمر كثيراً، لاحظ مثلاً أن هناك مسلسلاً مشابهاً مقتبساً عن المسلسل الأمريكي ER كان من الممكن أن يكون اسمه غرفة الطوارئ أو المستشفى، ولكنه اختار اسم لحظات حرجة ليوسّع نطاق الاحتمالات المنتظرة من وراء مشاهدته، لم يكن الاسم وحده هو ما حصر صناع العمل أنفسهم من خلاله، وهو ما سنتناوله بالتفصيل.
هناك الكثير من الأمور التي من الممكن أن تحسب في صالح العمل، فهو كما يبدو على الشاشة حصيلة عمل منظم إلى حد كبير، المخرج هاني خليفة -مخرج الفيلم ذائع الصيت سهر الليالي- هو صاحب الرؤية الإخراجية العامة لكافة حلقات المسلسل، ثم تقاسم مع المخرج عمرو قورة إخراج الحلقات، ومع أنه يظهر من أول حلقة قام بإخراجها عمرو قورة أنه لا يتوافق فكرياً تماماً مع رؤية هاني، ويتمرد بعدد من اللقطات الإخراجية التي بدت كالنشاز في سياق العمل، ولكن مع الوقت وتتابع الحلقات تتوحد الرؤية مجدداً إلى حد كبير، مما يحسب أيضاً للعمل هو اختياره لممثلين مناسبين وموفقين وتم تسكينهم بجدارة في أدوارهم، تقريباً لا يوجد ممثل غير مقنع، ربما لو استثنينا منى هلا سيكون الأمر صحيحاً بالفعل، إدارة الممثلين موفقة خاصة وأنت تقوم بتوجيه من يقومون بالوقوف أمام الكاميرا لأول مرة، يظهر ذلك التوفيق جلياً مع الممثل أسامة جاويش على سبيل المثال، كلها أمور جيدة ولكنها لم تكن كافية لصناعة عمل ممتاز أو حتى يقوم بدور التسلية بشكل فعال، والمشكلة الحقيقية تكمن في النص الذي بُني عليه هذا العمل.
أولى الشخصيات التي تلفت الانتباه بشدة هي شخصية الطالبة اللبنانية ريما حداد، ليس لأنها لبنانية وليس لأنها جميلة، ولكن لأنها شخصية شديدة التهور والجراءة، منذ اللحظات الأولى نجدها تحمل كاميرتها وتقوم بتتبع فتاة تتعاطى المخدرات في الجامعة، حس صحفي ممتاز يجعلها تعرف الكثير في وقت قليل للغاية، وتستطيع أن تفهم شبكة العلاقات المعقدة داخل الجامعة، ومعها نفهم نحن أيضاً كمشاهدين طبيعة تلك العلاقات، وهي إحدى النقاط القليلة المضيئة في هذا السيناريو، تعمل ريما على نشر موضوعها في موقع الجامعة الإلكتروني بحماس شديد، يقوم رئيس الجامعة بإلغائه والتنويه بعدم تكرار تصرفاتها مرة أخرى، نفهم لاحقاً من خلال التوتر الغامض مع والدتها دكتورة ليلى التي تعمل بنفس الجامعة، أن ريما تمارس هوسها الصحفي على الجميع، إلى الدرجة التي جعلتها تمارسه مع أمها شخصياً، ليس فقط بكشف علاقتها مع أحد دكاترة الجامعة في لبنان، بل ونشر خبر بالتفاصيل أيضاً! نلاحظ بعد ذلك أنها تتخلى عن مقعدها في أحد الكورسات من أجل الحصول على بعض المعلومات، شخصية عاشقة للحقيقة وللعمل الصحفي كـ(ريما) نتوقع منها أن تقوم بأي شيء جنوني في بقية أحداث المسلسل، ولكنها بدلاً من ذلك، تتلقى خبر وفاة والدها رسام الكاريكتير المشهور عالمياً في حادثة اغتيال مروعة ومفاجئة، ومع توالي الأحداث يتم التشكيك في خبر الاغتيال، بل ويتم إنكاره من صديق والدها، أحداث كهذه كان لابد أن تشعل نار الفضول داخل ريما لتمارس كل ما هو ممكن لتصل إلى الحقيقة، ولكن بدلاً من ذلك، ولأن العمل تدور أحداثه في الجامعة، فإنها تنحصر إلى مجرد شخصية سلبية تتلقى الأخبار المتضاربة عن مصرع والدها دون أن تفعل شيئاً حقيقياً أكثر من مجرد البكاء حيناً والاندهاش حيناً آخر، وهكذا انطفأت أكثر الشخصيات جذباً للنظر في العمل، ولم تعد لاحقاً أكثر من مجرد فتاة مملة تغار منها فتاة أخرى تدعى ماريان على حب زميلهم إسماعيل.
ماريان هي طالبة مصرية مسيحية غارقة حتى أذنيها في محبة زميلها المسلم إسماعيل، تقوم باختراع شخصية افتراضية باسم سالي حتى تتمكن من عقد صداقة مع إسماعيل عبر الإنترنت، عناصر قصص الحب في أي دراما منذ الإغريق وحتى الآن تفترض وجود مانع يمنع الحبيبين من أن تتحقق قصة حبهما، وإلا فإنه لن يكون هناك دراما بين شخصيتين لا مشاكل بينهما، حسناً هذا العائق الديني الذي اختاره صناع العمل يفترض جدلاً أنه لولا اختلاف الدين لتحققت قصة الحب، ولكن في الحقيقة الأمر لا يبدو كذلك لأن إسماعيل أولاً غير منجذب إلى ماريان، وثانياً لأنه غارق في حب ريما دون أن يمنعه اختلاف الدين في ذلك، إذن من هي ماريان وما الذي تفعله في هذا المسلسل على وجه التحديد؟ نحن فعلياً لا نعرف عنها أي شيء أكثر من المذكور سلفاً، لا توجد لديها مشاكل دراسية، ولا مشاكل حياتية، فقط مشكلة واحدة ضبابية وغير شيقة، ولولا ملامح عايدة الكاشف الهادئة وتمثيلها ما كان لأحد أن يلتفت إليها من الأصل.
على الناحية المقابلة نجد وجه العملة الأخرى سمر البنان الطالبة السعودية المبهورة بشخصية الدكتور المصري في مادة الأدب والروائي أحمد زكريا، بل إنها توجه دفة دراستها من البيزنس إلى الأدب لأنها تعشق الكتابة من ناحية، ولأن من سيقوم بتدريسها هو أحمد زكريا من ناحية أخرى، سمر هي فتاة تقليدية تمر بمرحلة مراهقة اعتيادية، تضع تصوراتها الشخصية عن الحب المستمدة من واقع كتابات زكريا على زكريا الإنسان، فهي لم تعرف بعد أن هناك اختلافاً كاملاً بين الرواية والروائي، هي تتعامل مع الأمور والحياة بمخزونها الخاص وليس من واقع التجارب الحياتية وهو الأمر المنطقي في سياقه، ولكن ماذا بالإضافة إلى ذلك؟ تقريباً لا شيء، تدور معها الأحداث في دائرة مغلقة شبيهة بتلك الدائرة الخاصة بماريان دون جديد، ولأنه لابد من أن لا تتحقق هذه العلاقة درامياً، يقحم السيناريو بعداً شريراً وساذجاً شديد التوقع والاستهلاك في شخصية زكريا، وهو أن يقوم بسرقة الرواية الأولى للطالبة سمر المراهقة التي لم تتمكن من الكتابة بعد والتي لا يوجد أي تجربة حقيقية داخل كتاباتها، يسرق عملها بكل بساطة بدون سبب مفهوم ضارباً بسمعته عرض الحائط كما يضرب السيناريو المنطق الدرامي بعرض الحائط أيضاً
هناك شخصية أخرى جذابة ولافتة للنظر بعد ريما وهي الطالبة المتمردة ملك الخطيب، تبدأ الأحداث معها بالكشف عن رغبتها في أن تكون أول رئيسة جمهورية لمصر، كما تتمرد على الدكتورة ليلى التي كلفتها بعمل بحث مع زميلها حسين، ترفض عمل البحث مع زميل لم تختره، تقوم بعمل العديد من الاحتجاجات على طريقة التدريس، تقوم برفع شكوى، تتظاهر أثناء إقامة مباراة، وبعد كل ذلك تقرر أن تدخل انتخابات شرسة لتصبح رئيسة اتحاد الطلبة للجامعة، في منافسة شبه مستحيلة ومليئة بالألاعيب السياسية القذرة من مساومات وسرقة أفكار البرنامج الانتخابي وغيرها، بداية أخرى مبهرة ومشجعة مثل بداية ريما، ولكنها تنتهي بأن تتحول هي الأخرى إلى فتاة بليدة ومملة كل ما يشغلها هو قصة حبها مع زميلها مدمن المخدرات يوسف، وفي الحقيقة تأسيس انجذابها العاطفي ناحية يوسف هو الأضعف على الإطلاق في السيناريو، مقارنة بكل العلاقات الأخرى، ولأنها مؤسسة بطريقة هزيلة، فإن اختيارات الشخصية طوال الوقت تصبح غير مفهومة، هي تريد الارتباط به ولكنها تخشى من أن يعود إلى المخدرات، لا هي غارقة في حبه، ولا هي تتعامل مع العلاقة بشكل ناضج وعقلاني يليق بفتاة تريد أن تتولى شؤون الدولة يوماً ما، وعلى الرغم من أن المسلسل مكون من 15 حلقة فقط بعكس السائد، إلا أن جميع الشخصيات تفقد بريقها وألقها بعد الحلقة الأولى، وكأن المسلسل مستمر فقط كي يصل إلى عدد حلقات معين ولا أكثر من ذلك.
الشخصية الذكورية الأكثر لفتاً للانتباه من بين جميع الطلبة هو إسماعيل، هو طالب ذكي دراسياً وشهير باسم ماوس، متفوق في مجال الكومبيوتر والاتصالات، يأتي من خلفية محافظة دينياً، صحيح أن طريقة حياته وملابس والدته لا تدل أنه من بيئة متشددة، ولكنها ليست متحررة في ذات الوقت، وعلى الرغم من ذكائه العقلي الواضح وذكائه الاجتماعي الذي لا بأس به، إلا أن ذكاءه العاطفي صفر تقريباً، فهو لا يعرف ما الذي يريده، من التي يحبها ومن التي لا يحبها وإن كان يحبها بالفعل أم لا، هل يريد أن يسافر للخارج للدراسة أم لا، هل عدم ذهابه نتيجة لرفض أمه أم محبته لريما، هو شخص منفصل تماماً عن نفسه، وذك ليس لخلل ما في السيناريو، ولكن شخصيته مؤسسة بهذا الشكل منذ البداية، وربما تكون هذه هي الشخصية الوحيدة التي لم تتبلد مع تواصل الحلقات لأنها بليدة منذ البداية، كلمة من فتاة تحركه إلى الرقص وشرب الخمر، وكلمة من زميله تمنعه من كل شيء ويعود إلى الصلاة، كلمة من فتاة تدفعه إلى اختراق سيرفر الجامعة الرئيس، وكلمة من زميله تعيده إلى الصواب، وهكذا نحن أمام شخصية لا تعرف أي شيء، إن كان ذلك مقصوداً بالفعل من كتاب السيناريو فهي أفضل الشخصيات في تصميمها، بالإضافة إلى ذلك فهو أيضاً شخصية محورية تتلاقي جميع شخصيات العمل عندها.
الطالبان ياسر البنان ويوسف حسين اللذان يعيشان معاً في شقة واحدة بعيداً عن سكن الطلاب بالجامعة، هما شخصيتان نمطيتان إلى أبعد الحدود، وهما أيضاً وجهان لعملة واحدة، فالأول مدمن كرة قدم إلى درجة كريهة ومزعجة، والآخر مدمن مخدرات تقليدي، شخصيتان مدللتان للغاية وكل شخصية تجد أن الأخرى أفضل منها حالاً، والواقع أنه لا فارق تقريباً بين حياتهما، فقط الأول لديه شغف ما والآخر لا يعرف ما يريد، المشكلة الدرامية هنا أن من لديه هدف شخصية سطحية تبدو كطفل مزعج يريد اقتناء لعبة ما حتى الممثل الذي أدى الشخصية طبقة صوته واحدة لا تتغير طوال العمل، أما الضائع فهو شخصية ممنطقة ومفهومة على تقليديتها، تمر بمراحل الإدمان كلها بشكل صحيح، ودون أن تشعر بالفعل بذلك، وما يحسب للبناء الدرامي أنه لم يقدم شيئاً مأساوياً مزعجاً في هذا السياق.
شخصية ندى التي يختم بها المسلسل أحداثه، هي الشخصية الوحيدة تقريباً التي لها مؤشر درامي خاص، تبدأ كطالبة مستهترة مدمنة مخدرات، تقوم بدس المخدرات لريما انتقاماً على ما فعلته الأخيرة بها، تنفصل من علاقة غير متكافئة مع ياسر لتدخل علاقة أكثر عدم تكافؤ مع مصطفى، ثم فجأة تتعرض لحادثة وتصاب فيها إصابة شديدة ومن ثم يتغير مؤشرها الدرامي من الاستهتار إلى التدين، ترتدي الحجاب وتؤدي الفروض، ومن ثم يتغير المؤشر ليعود إلى حالته الأولى فتاة مستهترة كما بدأت، وفي الواقع وعلى الرغم من أنها شخصية ثانوية تقريباً، إلا أنها أفضل الشخصيات الأنثوية درامياً في السيناريو، فهي لم تتحول إلى الالتزام التقليدي الساذج وتوقفت عنده، ولكنها كأي شخصية طبيعية تعيش في استهتار مرت بانتكاسة ومن ثم عادت إلى حياتها الأولى، ولو أنه هناك توفيق في الحلقة الأخيرة، فإنه لا يوجد توفيق أكثر من أن تنتهي بندى وقد خلعت الحجاب وتدخل إلى الجامعة من جديد في مشهد ممتاز.
ذو صلة