عندما نشرت صحيفة واشنطن بوست سنة 2008 مقالة للكاتب ويل هايجود يدور موضوعها حول (يوجين ألين) كبير خدم البيت الأبيض الذي توفي عن عمر 90 سنة؛ لم يكن أحد يتوقع أن تصير هذه المادة الصحفية قصة لعمل سينمائي ناجح يشاكل ما حققه فيلم كبير الخدم (The batler). ففكرة الكاتب ويل هايجود كانت منذ البداية فكرة جميلة؛ فأن تلتفت إلى الشخصيات التي تمر في الظل هو أمر إنساني لا نشاهده كل يوم.
بمزيج فني مبهر يختار المخرج (لي دانيلز) أن تبدأ أولى مشاهد فيلمه، موسيقى تصويرية، تناسب فضاء كالبيت الأبيض، وعبارة مارتن لوثر كينج: (الظلام لا يمكن أن يطرد الظلام، فقط النور يستطيع فعل ذلك)، ثم تنتقل الكاميرا إلى ملامح الممثل سيسل جاينز/فوريست ويتكر، الذي ينتظر مقابلة الرئيس الأمريكي (باراك أوباما)، لكنه قبل ذلك سيفتح ذاكرته أمامنا لنتعرف على أحد أروع القصص التي عاناها السود في أمريكا. تنطلق الحكاية فنتعرف على قصة (سيسل جاينز) الذي كان يعيش في مزرعة للقطن برفقة أبويه، وككل الأسياد البيض فقد كان صاحب هذه المزرعة يتفنن في استغلال عبيده، ومن مظاهر ذلك، أخذه لأم سيسل أمام أعين الكل إلى كوخ لاستغلالها جنسياً، وسط صراخ الطفل وصمت الأب الذي كان يعلم جيداً، أن الكلام يساوي الموت، وهو ما حصل بعد أول كلمة نطقها، سيموت والد سيسل أمامه، وستتغير حياة سيسل منذ تلك اللحظة بحيث سينهي علاقته مع جني القطن وسيتعلم فنون العمل داخل المنزل، وبعد مدة أتقن فيها عمله سيقرر المغادرة للبحث عن حياة أفضل، فيضطره الجوع لكسر زجاج مطعم أحد الفنادق من أجل سرقة قطعة حلوى، ولولا لطف وكرم كبير الخدم في الفندق، لكان مصير سيسل مغايراً تماماً، سيطلب سيسل العمل هناك، وسيتعلم على يد هذا المشرف الطيب بالإضافة إلى فنون التقديم، أشياء أخرى تتعلق بأسرار العمل لدى العائلات الراقية، وسيدفع به إلى العمل في واشنطن، ليكوّن أسرة وبيتاً هناك، وهو أقصى ما يمكن أن يطمح إليه أسود في ذلك الوقت، كان سيسل يعيش برفقة زوجته (غلوريا/ أوبرا وينفري) وابنيه، وعن طريق إحدى المكالمات الهاتفية التي سيرد عليها سيسل بخوف بالغ، ستتم دعوته إلى البيت الأبيض للعمل فيه، قبل أن يصبح كبير خدمه، ويقضي هناك أزيد من ثلاثين سنة 1957-1986 ليعاصر فيها ثمانية رؤساء للولايات المتحدة.
القصة ستقدم نافذتين الأولى لحياة سيسل في البيت الأبيض، والثانية حياته مع أسرته، فقد جعله عمله مقرباً من حياة كل الرؤساء وأسرار ودواليب السياسة، ولكنه كان يطبق دائماً نصيحة سمعها في الماضي: لا يجب أن يشعر أحد بوجودك. أما حياته في منزله فقد شهدت خلافات مع ابنه لويس الذي التحق بالجامعة وتركها لينضم إلى مشروع لوثر كينج المناهض لسياسة التمييز العنصري. سيسل سيختار الوقوف ضد مواقف ابنه لأنه سيختار الوفاء لمهنته، وسيطرد ابنه من البيت، ليستمر هذا الفراق لسنوات، قبل أن يلتحق الأب بابنه إلى ساحة النضال، ويعتذر له هناك ويسانده في مواقفه السياسية.
إن أول ما يلفت الانتباه في هذا العمل هو غناه الكبير من حيث كم الأحداث التي قدمها، فحياة سيسل داخل البيت الأبيض جعلته يعاصر ثمانية رؤساء للولايات المتحدة، وما صاحب كل هذه المدة من اضطرابات داخلية وخارجية، كاغتيال الرئيس جون كينيدي الذي حاول وضع حد لسياسية التمييز العنصري، وهناك أحداث كثيرة أخرى كقانون التصويت، واغتيال مارتن لوثر كينج، واعتقال نيلسون مانديلا بجنوب أفريقيا. والمهم في هذه الأحداث أن العمل قدمها بطريقة انسيابية فريدة، لم تجعل المشاهد يحس بازدحامها بالنظر إلى مدة الفيلم، ولم يبدُ الفيلم كمحاضرات في التاريخ ودروسه، بل كان نافذة مفتوحة أمامنا لاسترجاع أهم الأحداث التي ميزت نضال السود من أجل حقوقهم المدنية.
وقد ظهرت جودة العمل بظهور الممثل فوريست ويتكر في بداية الفيلم، الذي كان عاملاً من عوامل النجاح هنا، لأن الفيلم فيلم سيرة، فهذا الممثل استطاع التعامل مع مختلف المواقف التي فرضتها عليه القصة سواء في بيته أو في عمله، أما أوبرا وينفري فقدمت خدمتين إلى هذا العمل، فمن ناحية أولى كانت مصدر تسويق مهم للفيلم بفضل شعبيتها الطاغية، بالإضافة إلى أدائها الذي نجحت في إتقانه رغم تشعب مداخله، فهي المرأة التي تعاني من غياب زوجها طويلاً في عمله، وهي أيضاً المرأة المدمنة على الكحول، والتي تربي أيضاً أبناءها وترعاهم، وتقاوم إغراءات جارها الذي يحاول استغلال غياب زوجها، وجانب الأداء في الفيلم كان باعتماد المخرج على ممثلين جيدين سواء في الأدوار الرئيسة، أو الثانوية.
والملاحظ أن المخرج لي دانيلز لم يحاول مجاراة أفلام التمييز العنصري التي سبقت عمله، وهي كلها أفلام جيدة فنياً، وتتفوق خصوصاً في جوانب إظهار المعاناة، بل سلك مسلكاً آخر حيث جعل الكاميرا تكشف عن المعاناة بشكل عميق من خلال نقل ملامح شخصياته، والتركيز عليها خصوصاً في لحظات الحوار القوية، التي كانت خير معبر عن الاضطرابات النفسية التي عاشها البطل ومعه كل أبناء جنسه. فالفيلم لم يحاول استجداء العواطف، بل قدم نفسه كقصة توثيقية تحاول أن تقول: هذا ما عاناه السود في أمريكا، فالتفوق هنا كان مناسبة الحوار لإيقاع سير الأحداث، وإغناءه لها. وقد تماهت الألوان في هذا العمل مع القصة والأحداث خصوصاً فترات الانكسار التي كانت كثيرة، فتجنبت فيها الكاميرا الأضواء الكثيرة واكتفت بإحاطة الشخصيات بأضواء صناعية خافتة. وهناك مفارقة غريبة تخص جانب حضور الألوان هنا، فالسود عرفوا باشتغالهم في حقول القطن الذي يمثل اللون الأبيض، والبطل هنا عمل في البيت الأبيض، وهذا البياض جاء ضد حياة السود القاتمة المليئة حزناً وألماً.
وبما أن كم الأحداث كان كبيراً فعلينا أن نسائل العمل كيف تعامل معها أثناء التوليف، وهنا سنكتشف ميزة أخرى للمونتاج في هذا العمل، فالمشاهد واللقطات مرت بانتقال مرن، دون قطع واضح يكشف الانتقال بين الأحداث، بالاستفادة من تمرير الفترات الزمنية مكتوبة على الشاشة. وأمام الأحداث الكثيرة التي تساوي مرور السنوات فقد كان هناك تناغم كبير في إبراز التغير الزماني والمكاني، وكذلك الشخصيات سواء من خلال دقة المكياج والإكسسوارات، والمكان ككل أو غير ذلك من المظاهر المتغيرة عبر الزمن.
أما السيناريست داني سترونج فلم يسبق له أن اشتغل كتابة على عمل يضاهي فيلم كبير الخدم، لا من حيث القيمة أو المجهود، فالأمر تطلب منه الانطلاق من مقالة والغوص في الأحداث، بالاعتماد على كل المصادر المتاحة، مع استحضار العقبات التي تعد بها هذه الثيمة من حيث الوفاء لأحداث التاريخ بدقة، لكن يبدو أن داني سترونج لم يحفر عمودياً في أي حدث بل تعامل بذكاء فني، حيث جعل الأحداث تتدفق بشكل تلقائي وموسع، وهي طريقة تتناسب مع كم الأحداث المعروضة.
فيلم كبير الخدم ليس أول عمل عن السود، ولن يكون آخرها، لكنه من بينها جميعاً، يحتفظ لنفسه بتميز كبير، بفضل خروجه عن النمطية، وبفضل حياديته، وطريقة الاشتغال على القصة التي تظافرت فيها مجموعة من العناصر الفنية.