مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

منهج التأريخ لتراثنا العلمي العربي

ربما تكون أفضل وسيلة لتجديد العقل العلمي العربي هي إعادة النظر في المناهج التاريخية المختلفة التي قدمها بعض الباحثين العرب عند تاريخهم لتراثنا العلمي العربي، بهدف استيعاب وفهم هذه المناهج من جهة، وتجاوزها من جهة أخرى. فالبحث في المنهج التاريخي، لدى بعض الباحثين العرب عند تناولهم لهذا التراث، أصبح أمراً ملحاً، وبخاصة بعد التطورات التي حدثت في فلسفة وتاريخ العلم في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث تكشف هذه التطورات عن ضرورة وجود آليات تعيد النظر في المناهج التاريخية للعلم، خصوصاً العلم العربي في الحقبة التي امتدت من القرن التاسع حتى القرن الخامس عشر الميلاديين، وذلك لتقديم رؤية جديدة تحقق التقدم للعقل العلمي العربي في المستقبل.
إن فهم الأبعاد المعرفية والمنهجية والاجتماعية التي وجهت العقل العربي في هذه الحقبة، على المستوى المعرفي والسلوكي العملي لعدة قرون بحيث غدا هذا العقل علمياً، يجعلنا نطرح هذه الإشكالية التي تمثل، في رأي كاتب هذه السطور، جوهر قضيتنا التي نسعى إلى حلها أو على أقل تقدير، نتعرف على آليات تجاوز المعوقات التي أعاقت العقل العلمي العربي ذاته من أن يستمر في التقدم. فضلاً عن معرفة المعوقات التي تعوق العقل العربي المعاصر من جهة أخرى عن تحقيق تقدم علمي يغير من واقعنا المأزوم. لهذا كانت إعادة قراءة التراث العلمي العربي وكذا المناهج التاريخية التي أرخت له، من الضروريات حتى يتم تأسيس الحاضر تأسيساً علمياً صحيحاً، فهل غياب العقل العلمي العربي عن واقعنا المعاصر ناتج عن أن هذا العقل لم يكن له أي وجود في تراثنا الفكري العربي؟ وإذا كان هذا العقل ظل بلا تأثير على تشكيل بنية العقل العربي، فلا مناص لهذا العقل من أن يرضى بهذه الحقيقة بأنه عقل لا يرتقي إلى إبداع العلم أو المعرفة العلمية ومن ثم لا يأمل هذا العقل مستقبلاً في إنتاج علم أو معرفة علمية! 
اكتسبت دراسة تاريخ العلم في أوائل القرن العشرين أهمية كبيرة، حيث اتضحت أهمية دراسة تاريخ العلم في الفترة ما بين الحربين العالميتين، نظراً للتساؤلات الكثيرة والمتنوعة التي أثيرت جراء الأهوال التي أحدثتها الحربين العالميتين في نفوس الأوروبيين الذين كانوا يبحثون عن شيء ما يبث في نفوسهم الثقة ويعطيهم الأمل في عالم من السلام والطمأنينة. فقد انتشرت الدعوات بين الأكاديميين في هذه الفترة في بعض جامعات أوروبا وأمريكا بضرورة دعم إنشاء معاهد لتدريس تاريخ العلوم لتقديم جوانب مختلفة من حياة الإنسان، ذلك لأن دراسة تاريخ العلم لها تأثيرها الكبير على فهم المغزى الحقيقي للعلم، وأن المستفيد من هذه الدراسة ليس العلماء وحدهم بل أيضاً المجتمع ذاته. ومن هنا تحول تاريخ العلم إلى تخصص أكاديمي دقيق. ومع ازدياد الوعي المؤسسي (الحكومي والاجتماعي) بأهمية تاريخ العلم، غدا جذب الطلاب إلى هذا التخصص أمراً ضرورياً تمهيداً للإبداع في العلوم الطبيعية ذاتها. ومن هنا نجد جورج سارتون يؤكد أن دراسة تاريخ العلم من الأهمية حيث تجعلنا هذه الدراسة نقف على تطور فروع العلم المختلفة من الأزمنة القديمة خطوة تلو الخطوة، حتى وقتنا الحالي، كما أن هذه الدراسة ضرورية لحل المشكلات العلمية التي كانت بلا حل وقتها، وأيضاً حل المشكلات العلمية التي تواجهنا على مستوى الحاضر عن طريق المنهج العلمي وطرق التفكير العلمية التي اتبعها العلماء في تاريخ العلم. ومن جهة أخرى، من غير الممكن دراسة مجتمع من المجتمعات دون أن يكون ثمة مرجع من تاريخ العلم. لهذا يمكن القول بأن تاريخ العلم هو هيكل تاريخ الحضارة، وبشكل خاص، فإن من يريد فهم تطور الإنسان والنظر إلى العالم عليه بدراسة تاريخ العلم. فضلاً عن أن دراسة تاريخ العلم أصبحت حجر الزاوية في البنية الأساسية للتعليم. يقول جورج سارتون: إن الطبيعة العلمية العالمية لا تقوى على دراسة التطور الذي أحدثته الإنسانية دون أن يكون لديها مرجع من تاريخ العلم، وأن هؤلاء الذين يريدون الدفع بهذه الطبيعة العلمية العالمية إلى الأمام يحتاجون لدراسة تاريخ العلم، ومن هنا يجب أن ندرك أن معرفتنا بالطبيعة والإنسان لا تكون مرضية إذا لم نجمع بين ما هو تاريخي وما هو علمي. 
لقد ساد اعتقاد راسخ في الثلث الأول من القرن العشرين في الدراسات التاريخية للعلم بأن الذي رسم فصول تاريخ العلم هو العقل الغربي، وأن الحضارات والثقافات غير الغربية لم يكن لديها القدرة المعرفية والمنهجية والاجتماعية على المساهمة في هذا التاريخ، وقد ساعدت عدة كتابات على ترسيخ هذه الفكرة في تلك الحقبة منها، على سبيل المثال، ما قام به مؤرخ العلم والفيزيائي الفرنسي بيير دوهيم Duhem. P الذي أنكر أي أسهام للعلماء العرب وذلك من خلال كتابه الذي نشره عام 1914 (نظام العالم)، حيث يذهب إلى أن العرب لم يلعبوا أي دور في تقدم العلم في التاريخ، وأن العبقرية اليونانية هي التي أبدعت العلم القديم وبخاصة في علم الفلك. فقد تناول بيير دوهيم العلاقة بين الفيزياء وعلم الفلك الرياضي في العلم اليوناني حتى يثبت من خلالها أن العبقرية اليونانية الهائلة في الرياضيات، وبخاصة في مجال الهندسة، قد انتقلت إلى العرب، ولما كان العرب لا يستطيعون فهم المغزى المنطقي من وراء هذا التراث الرياضي الضخم، لم يضيفوا سوى بعض الفرضيات التي تمكن علماء الفلك اليونانيون قبل ذلك من حلها، وبخاصة تلك المتعلقة بنظام الكواكب، ذلك لأن العرب بطبيعتهم هم عبيد للخيال Slaves to imagination، الأمر الذي حال دون تقديمهم إبداعات حقيقية في الفلك. وأن ما قاله عالم الفلك العربي الإسباني البترجي في النظام المركزي للشمس، كبديل للنظام البطلمي والذي كان بمثابة تمهيداً لكوبرنيقوس للقول بمركزية الشمس، كان مسروقاً من الأصول العلمية اليونانية. 
إلا أن الدراسات الناقدة للعلم وفلسفته في النصف الثاني من القرن العشرين، وعلى وجه الخصوص، في الثمانينات من هذا القرن، والتي يطلق عليها دراسات ما بعد الاستعمارية (الكولونيالية) في فلسفة وتاريخ العلم، كشفت أن مؤرخي العلم الغربيين الذين عملوا على تغريب العلم وتاريخه قد أنكروا مساهمات الثقافات والحضارات غير الغربية في العلم وتاريخه وفلسفته، وأن ما أنتجوه على المستوى المعرفي لا يعدو إلا أن يكون خرافات وتراث شعبي، وأن تاريخ العلوم في الثقافات غير الغربية قد كتب خارج التاريخ العام للعلم ذاته بحيث أصبح العلم الغربي وتاريخه مكتفياً بذاته. لقد افترض بعض مؤرخي العلم تفوق العلم الغربي، حيث يعود هذا التفوق بدوره إلى تفوق آخر على المستوى العرقي، ويتطلب إبراز هذا التفوق حجب تاريخ العلوم للثقافات والحضارات غير الغربية. 
وفي الوقت ذاته انطلقت مؤخراً بعض المحاولات الجادة للتاريخ للعلم العربي بطريقة أكثر دقة وعمقاً من بعض المحاولات التاريخية التقليدية التي ظهرت مع بدايات القرن العشرين، والتي كانت في مجملها محاولات انفعالية إنشائية. حيث أدركت هذه الكتابات التاريخية الفجوة العلمية بين الغرب المستعمر الذي حقق تقدماً معرفياً وعلمياً وتقنياً هائلاً، وبين العرب وواقعهم المتردي معرفياً وثقافياً وعلمياً وسياسياً، فجاءت الدعوة إلى إبراز الدور الذي لعبه أجدادنا العلماء من العرب والمسلمين في النهضة العلمية التي شهدتها أوروبا، والتأكيد على إسهام علماء العرب في بناء الحضارة الغربية ونشأة العلم الحديث، هذه الدعوة كانت تهدف إلى التخفيف من غلواء عقدة التفوق العلمي الغربي، تلك العقدة التي أصابت العديد من أبناء الأمة العربية فأدت بهم إلى التبعية، لهذا لجأ الباحثون المعبرون عن هذه النزعة التراثية إلى تراثنا العلمي لبيان إنجازات علماء العرب في شتى العلوم والمعارف، وكيف أن علماء العرب كان لهم قصب السبق على علماء الغرب. فقد وُجد من علماء العرب من تكلموا في التطور قبل دارون وفي الجاذبية قبل نيوتن، وفي انكسار الضوء قبل ديكارت، وفي الدورة الدموية قبل هارفي، كما مارس علماء العرب أشكالاً عديدة من المناهج العلمية المعمول بها الآن، فكان علماء العرب أسبق من فرنسيس بيكون وديكارت وكلود برنار وديفيد هيوم في البدء بالملاحظة الحسية كمصدر للمعرفة العلمية اليقينية، حتى ساد الخطاب الانفعالي الإنشائي لإرضاء الذات والتعويض عما نحس به من نقص إزاء الغرب أملاً أيضاً في اللحاق بالتطورات المتسارعة يوماً بعد آخر. أما المحاولات التاريخية الجديدة فقد تجاوزت الخطاب الانفعالي الإنشائي وانطلقت من الذات العربية في محاولة منها لإعادة اكتشاف العقل العلمي العربي ومحاولة تأصيل التفكير العلمي العقلاني في واقعنا العربي المعاصر عن طريق المصالحة مع التراث العلمي العربي الذي ظل مهمشاً فترة طويلة من الزمان، وذلك من أجل تهيئة العقل العربي المعاصر للتحديث العلمي من جهة، والتعرف على ذاته وتراثه العلمي من جهة أخرى. لهذا كان إعادة النظر في التراث العلمي العربي ومراجعة طرق التاريخ له هو بيت القصيد لخلق ثقافة علمية وفلسفية وتاريخية ترتبط أشد الارتباط بالعلم الذي كان ولا يزال العامل الحاسم في إحداث تغيرات عن طريق توظيف المعرفة العلمية التي تشكل في مجملها أساس وجوهر المشروع الحضاري العلمي، بمعنى أن يصبح العلم ظاهرة وطنية وحضارية في المجتمع العربي، ولكي يتحقق هذا كان لابد من الرجوع إلى تراثنا العلمي العربي من أجل مراجعته والكشف عن كنوزه لتأسيس الحاضر تأسيساً علمياً منهجياً دون أن نكون خارج العصر.
ذو صلة