مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

أبو القاسم الزهراوي: فخر الجراحة في تراثنا العلمي

أبو القاسم خَلَف بن عباس الزهراوي (ت: 404هـ/1013م)، المعروف في أوروبا باسم Albucasis، نجم الجراحة العربية الساطع في بلاط الخليفة الحكم الثاني بقرطبة، طبيب عربي قلَّ أن يجود الزمان بمثله على مَرِّ العصور. وإذا كانت أقدار العلماء تتفاوت بمدى إسهامهم في اكتشاف المجهول والسير بالمعرفة العلمية الصحيحة على طريق التطوُّر والنَّماء فإن الراسخين منهم من ذوي المكانة العالية يشقُّون للعلم طرقاً جديدة كما يبعثون من تراثه الزاخر ما اندَرس، والذين ينجحون في أن يحددوا لعلم ما يبتدعونه موضوعه المستقل ومنهجه المثمر وغايته النافعة، في ريادة تُحمَد لهم ويُذكرون بها.
والزهراوي، دون منازع، هو المؤسس الحقيقي للجراحة علماً مستقلاً بذاته، معتمداً في أصوله على التشريح. وقد سمت جهوده بهذا العلم إلى ذروة عالية ضمنت الاعتراف بقيمته، بعد أن أصبحت معالمه الأولى نَسْيًا مَنْسِيًّا. وجدير بالذكر هنا أنه كان قد ساد الاعتقاد في أوروبا -لأجيال متلاحقة- بأنه من المشين أن يعمل الطبيب بيديه، حتى أنَّ جَسَّ النبض اُعتُبر عملاً دنيئاً، وحرَّمت الكنيسة على سائر الأطباء تعاطي الجراحة.
صَنَّف الزهراوي موسوعة طبيَّة رائدة هي (التصريف لمن عجز عن التأليف)، وجاءت خاتمتها -وهي المقالة الثلاثون- بعنوان: (في العمل باليد مِن الكَّيِ والشَّقِ والبَطِّ والجبْرِ والخَلْع) وهو عنوان بالغ الدلالة على الطابع التجريبي للعلم العربي المباين للعلم اليوناني بنزعته التجريدية الحاكمة.
تتمثَّل عبقرية الزهراوي -فيما نرى- في أنه قد أحدث تغييراً جوهرياً في النظرة العلمية وفي اتجاه التطور وفي أسلوب العمل العلمي حين رسَّخ علاقة جدلية واعية بين (النظر) و(العمل). وكما أطلق جابر بن حيان -من قبل- على علم الكيمياء لفظ (الصنعة) وسَوَّى بين العالم الحقيقي والصانع الدرب؛ نجد الزهراوي بالمثل، ولأول مرة في تاريخ الكتابة الطبيَّة، يستخدم مفهوم (الصانع) مرادفاً للطبيب، ويخص الجراحة بالذات من بين فروع الطب العديدة بأنها (صنعة) أو (عمل اليد) وممارسة بـ(آلات وحدايد). وهي صنعةُ مَنْ أخذ بالحظ الأوفر من المعرفة الطبية لا صنعة الجُهَّال أو المبتدئين.
آمن الزهراوي بأن اليد هي أكثر أمانة وجسارة، وأن الطبيب الحاذق لا يمكن أن يُسفِّه عمل اليد: فهي إما أن تقوم بالعمل أو لا تقوم، ولا يمكن لنتيجة فعلها أن تتوارى طالما أنه ليس ثمة مجال للخداع وأن الأخطاء سرعان ما يتم تصويبها.
ولسوف نرى هذه النظرة العلمية الجديدة تزداد ثباتاً وسداداً في المؤلفات الطبية الأندلسية من بعد.
ومن العجيب والمؤسف حقاً أن يخفت تأثير الزهراوي وأن تتضاءل أهمية كتابه في الأندلس وفي مغرب العالم الإسلامي ومشرقه على السواء، حتى بعد أن قُدر لتراثه الخصب أن يُبعث حياً وترتفع قامة الزهراوي عند الغربيين ويفضل سائر الأطباء بما فيهم جالينوس نفسه. ومنذ النصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي تؤدي معرفة الزهراوي إلى اكتساب مزيد من المعرفة الطبية فتؤتي ثمارها يانعة وتمارس نفوذاً بالغ العمق على تطور الجراحة في أوروبا حتى عصر النهضة وما بعده، وبداية ظهور أساليب جديدة في الفحص ومعرفة دقيقة بطبيعة الالتهابات والعدوى الجرثومية وأساليب التعقيم وتعويض الدم، ودخول الجراحة في طور جديد من أطوار تطورها، ويصدق عليه قول سارتون: (إن العمل يحدث في زمان ومكان معينين ولكنه إذا كان على درجة كافية من العظمة ومن الخصب شعَّت فضائله في كل اتجاه في الزمان والمكان).
ولا تتحدّد المكانة العلمية للزهراوي بالقياس إلى عمله وعلمه في ميدان الجراحة فحسب بل أيضاً بالقياس إلى ريادته للكيمياء الصيدلية. وخبراته الفذّة بأنواع العقاقير النباتية والحيوانية والمعدنية وخصائصها، وهو الذي يقدم في أجزاء عديدة من موسوعته (التصريف)، في جزئها الثاني، أو في أقرب ما ظهر حتى زمانه، وكان بالفعل أساساً لعمل من جاء بعده من أمثال: الغافقي والشريف الإدريسي وابن ميمون وابن البيطار.
استطاع الزهراوي أن يجعل من الجراحة علماً مستقلاً بموضوعه ومنهجه وغايته، مستقرة مكانته وكرامته، واضحة صلته ببقية العلوم في عصره. ورائعته (في العمل باليد من الكي والشق والبط والجبر والخلع)، هي أول رسالة جراحية مصورة بآلات العمل يشهدها تاريخ التأليف الطبي في الحضارة الإنسانية، اشتملت على ثلاثة أجزاء: الأول في العلاج بالكيّ والثاني في العمليات بواسطة الشق والبضع وفي جراحة العيون والأسنان والكُلى والمسالك البولية وعمليات الفتق وفي أمراض النساء والتوليد والثالث في جراحات العظام: الرضوض والتجيير والخلع والكسر. 
 موقف الزهراوي من التراث العلمي
يشيد الزهراوي بفضل السابقين عليه من قدامى أطباء اليونان الذين سبقوه في ميدان العمل الجراحي وفي ميدان الطب عموماً، كما يظهر في كتاباته اطلاعه على تراث الأطباء المسلمين المشارقة -أمثال علي بن ربن الطبري وأبي بكر الرازي- والذين كان يسميهم (العراقيين) ويتفق مع الكثير من آرائهم وأساليبهم. وهو يعزو تخلف مستوى الجراحة في عصره إلى فقدان التواصل مع خبرة القدامى وإلى ما لحق صحيح المعرفة من التضييع بحيث لم يبق منها (إلا رسوم يسيرة في كتب الأوائل قد صحَّفته الأيدي وواقعه الخطأ والتشويش حتى استغلقت معانيه وبعدت فائدته). وكثير من الإجراءات الضرورية في جراحات بعينها يرى الزهراوي أنه (ينبغي أن نذكر العمل فيه على ما فعلت الأوائل) أو يقول مثلاً: (فإنني أذكره على نص كلام جالينوس)، كما يظهر أيضاً استفادة الزهراوي من بعض ما ورد بمؤلفات الأطباء المغاربة السابقين. وهو على ثقة من أن إغفال ماضي العلم فيه خطر القضاء على العلم ذاته، وأن الوعي بتاريخ العلم حافز على التقدم العلمي، وأن إغفال التراث السابق هو سمة الجهال والعوام، كما يحرص على تأكيد القيمة الفائقة للاستفادة من البحوث السابقة ومطالعة كتب الأوائل كخطوة منهجية أولى تسبق إجراء البحوث التجريبية التي يتم من خلالها تجاوز معارف الأقدمين: ففي معرض ذكره لما يحتاج إليه الطبيب في جَبْر الكسر والفك الحادثين في العظام، يقول على سبيل المثال: (إنه قد يدّعي هذا الباب الجهال من الأطباء والعوام ومن لم يتصفح قط للقدماء فيه كتاباً ولا قرأ منه حرفاً. ولهذه العلة صار هذه الفن من العلم في بلدنا معدوماً. وإني لم ألق فيه قط محسناً ألبتة، وإنما استفدت منه ما استفدت لطول قراءتي لكتب الأوائل وحرصي على فهمها حتى استخرجت علم ذلك منها، ثم لزمت التجربة والدُربة طول عمري).
ومع تقدير الزهراوي البالغ لدور الابتكار وقيمته في البحث العلمي ولضرورة التثبت وعدم متابعة الآراء والأساليب التقليدية أياً كانت وعدم مشايعة الأفكار العلمية السائدة دونما تمحيص إلا أنه كان على وعي بأن الابتكار ليس مجرد خروج على التقاليد العلمية ولكنه التجديد الذي يسترشد بخبرة السابقين ويُحسن الظن بها. وهو التجديد اللازم لمواجهة المشكلات الفعلية والملحَّة، ولا موجب عنده للتردد في مخالفة التصورات والأساليب غير المجدية أو التي يثبت خطؤها وخطرها الأكيد. وكثيراً ما يصرّح الزهراوي بأن هناك من ضروب العلاج (التي ذكرتها الأوائل بكلام طويل لا يعود أكثره بفائدة)، وأن في مجرد تقليد الرؤساء وترك الاعتراض عليهم تمسّك بسنة الرعاع.
التقليد ومشايعة النظريات القديمة المستقرة ينبغي إذن أن يتم بوعي وبصيرة، بحيث يكون تقبُّل الآراء السابقة له ما يبرره من برهان عقلي أو دليل تجريبي ولا يكون تقليداً من أجل التقليد أو بدافع من الراحة والكسل أو تزكية لمشاعر الوجل من الجديد والمتميز. ونصيحة الزهراوي لتلاميذه من شباب الأطباء هي ألا ينساقوا وراء الأقوال الشائعة دون تمحيص كاف، وضرورة الانصياع إلى ما تقضي به الخبرة.
وعند تعدد أساليب العلاج، عند غيره، لعِلَّة من العلل الخطيرة يكون الزهراوي حاسماً في اختيار الأسلوب الأفضل للتعجيل بالشفاء، كما نقرأ في رسالته كثيراً عبارات تدل على هذا الاستقلال عن القدماء مثل: (وأما نحن وأهل زماننا فنضع) أو (إن الأوائل لم تذكره وإنما هو ما اكتسبناه بالتجربة). فالزهراوي لا يرى للطبيب بديلاً عن الممارسة الدائبة والإقدام على العمل. وعند ذكره لقدح الماء النازل في العين (الكتراكت) ينبه بشدة إلى أن (القدح لا يستغني فيه المتعلم عن المشاهدة مرات فحينئذ يقدم على العمل).
هذا الموقف الثابت من الخبرة السابقة من آثار الوعي بالطبيعة الاحتمالية للمعرفة العلمية وهي معرفة لا تبلغ أبداً مرتبة اليقين الحاسم، ومن إدراك العلاقة الوثيقة بين التقدم العلمي وبين تطوير آلات العمل التي تحقق مزيداً من التكيف ومن السيطرة، وكان من ثمار ذلك ما ابتكره الزهراوي من آلات جراحية وما طوَّره من أساليب تخصه دفعت بمهنة الجراحة إلى الأمام على طريق صاعد.
وإذا كان تمثل المعرفة السابقة يمثل شرطاً ضرورياً إلا أنه ليس كافياً. كما أن من الشروط اللازمة لتحقيق استقلال علم ما من العلوم الطبيعية هو النجاح الفعلي والمتصل في اكتساب ذخيرة كافية من أوصاف الحالات الجزئية والوقائع الخاصة والأمثلة المفردة ثم تنسيق هذه المادة المنوعة بعد ذلك في إطار من التعميم الكلى الذي يتجاوز الارتباط بالمثال الواحد والحالة المفردة، وبحيث يسمح فيما بعد بقياس الغائب على الشاهد والكثير على القليل، وتكون الخبرة بهذه الحالات الواقعية بعينها هي نقطة البدء التي تتقدم أي صياغة نظرية تكشف عن مستوى المعرفة. ولابد أيضاً من المثابرة على مراقبة الحالات (بطول الخدمة والعناية بالصناعة والوقوف على حقائق الأمر)، كما يقول الزهراوي. فهذا هو الذي يؤدي إلى (التحقق) التجريبي على حين يؤدي عدم التدقيق وعدم توخي الحذر (إلى الغرر ولاسيما لمن جهل ما يصنع ولم يكن دَرِباً مجرباً) وبحيث يكون (ترك العمل أولى) بالنسبة له. إن مقياس النجاح في الطب مقياس عملي هو حصول الشفاء أو تحقيق البُرْء -بتعبير الزهراوي- وبحيث تصبح حالة المريض في عافيته غيرها في مرضه. غير أن الثراء اللامحدود للواقع يجعل من اللازم الاقتصار على مراقبة عدد محدود من الوقائع على حد يُتحقق معه الاطمئنان إلى إدراك قوانين هذا الواقع وسُننه الحاكمة وثباتها. ولكن يبقى صحيحاً أن الاستقراء العلمي للواقع مهما تكررت مناسبات الحدوث هو في النهاية استقراء ناقص. وهذا ما دفع الزهراوي إلى القول: (إن أجزاء هذه الصناعة وتفصيلها لا يدرك بالوصف.. وإنما الصانع الحاذق يقيس بالقليل على الكثير وبما حضر على ما غاب)، فذلك هو ما يعين على التنبؤ بما عساه يحدث في ظروف مشابهة.
التشريح ووظائف الأعضاء 
المعرفة الطبية شأن غيرها من المعارف العلمية ليست مجرد حقائق متناثرة مبعثرة لا شأن لإحداها بالأخرى، لكنها ترتبط معاً في بناء نسقي موحد بحكم ما بينها من صلات تسمح بأن يفسر بعضها بعضاً ويمنح السابق منها -وبحكم أسبقيته المنطقية أيضاً- فرصة الوجود للاحق. ومن شأن هذا التوحيد النسقي للمعرفة توفير جهد العالم وتسديد خطاه، إذ يستند واثقاً إلى ما استقر من معارف سابقة تقررت من قبل تعدُّ بالنسبة إليه مقدمات مسهِّلة تتيح له من بعد التقدم المستمر.
ومع مراعاة الوحدة النسقية للمعرفة العلمية وارتباط بعضها ببعض إلا أنه يبقى مقرراً كذلك أن أحد معايير التقدم العلمي هو نجاح العالم بالفعل في قسمة الموضوعات المشتركة والسير بها على طريق التمييز والتحليل والتجزئة والتعامل مع كل عنصر منها على حدة تحقيقاً لمزيد من التخصص في المجال. ولعل هذا التصور كان دافع الزهراوي إلى أن يخصص جزءاً من موسوعته الطبية للجراحة ومشكلاتها المنهجية والعملية على نحو مفصل ودقيق لم يكن معهوداً في زمانه، ولا يفوته أن ينبِّه في مقدمة رسالته إلى ضرورة أن يتأسس علم الجراحة على مقدماته الضرورية من علوم تسبقه وتمنحه فرصة وجوده. وأول هذه العلوم: علم التشريح وعمل وظائف الأعضاء.
إن المعرفة الدقيقة بالتشريح ووظائف الأعضاء هي القاعدة السليمة لمهنة الجراحة وأساس تطورها، كما أن المران الحقيقي والمستمر للجراح من شأنه أيضاً زيادة المعرفة الطبية وتعميقها بشأن طبيعة الجسم الإنساني ووظائفه. والزهراوي يتابع بذلك تقليداً حميداً استقر من زمان جالينوس. ولا يتردد الزهراوي في إرجاع تخلُّف الجراحة واندراس تقاليدها في زمنه وبيئته إلى عوامل عديدة يأتي في مقدمتها عدم الدراية بالتشريح على المستويين النظري والعملي، وهو ما عبّر عنه في مفتتح مقالته الجراحية: إن العمل باليد محسنه في بلدنا وفي زماننا معدوم ألبتة حتى كاد أن يُدرس علمه وينقطع أثره... والسبب الذي (له) لا يوجد صانع محسن بيده في زماننا هذا لأن صناعة الطب طويلة وينبغي لصاحبها أن يرتاض قبل ذلك في علم التشريح الذي (وضعه) جالينوس حتى يقف على منافع الأعضاء وهيئاتها (وصفاتها) ومزاجاتها واتصالها وانفصالها (وأفعالها) ومعرفة العظام والأعصاب والعضلات وعددها ومخارجها والعروق النوابض والسواكن ومواضع مخارجها، ولذلك قال أبقراط إن الأطباء بالاسم كثير وبالفعل قليل ولاسيما في صناعة اليد... لأن من لم يكن عالماً بما ذكرنا من التشريح لم يخل أن يقع في خطأ يقتل الناس به كما شاهدت كثيراً ممن (تصدر) في هذا العلم وادعاه بغير علم ولا (دُربة).
الجانب الإكلينيكي
يظهر الزهراوي بما هو مثال للإكلينيكي البارع الذي يؤسس خبرته العلمية على واقع المعالجات الفعلية لمرضاه فهو يدقق في ملاحظة الأعراض ويجيد التمييز بين العلامات والأعراض المتشابهة، ويهتم بظروف كل حالة على حدة ويقدر أثر العوامل البيئية سواء في التشخيص أو اقتراح العلاج أو في فترة النقاهة، كما يولي عناية لتأثير عوامل الوراثة وإلى مراعاة عمر المريض. وهو دائم التنبيه إلى مواطن الخطر والشبُهة، حريص على اتِّباع التعليمات الضرورية عند إجراء العمليات الجراحية وعلى اختيار الوقت الملائم أيضاً لإجرائها، كما يظهر مثالاً رائعاً لجودة التصّور والقدرة على ابتكار الآلات اللازمة للعمل وتطويعها وفقاً لكل حالة مرضية. وكان يبدأ بتحضير المريض ويحدد وضعه الملائم أثناء العملية ثم يبين تفاصيل الشقّ والاحتياطيات اللازمة مع بيان تضميد الجراح ووصف العلاج اللازم بعد العملية مباشرة وفي فترة النقاهة أيضاً تجنباً لحدوث انتكاسة.
وتظهر دقة الزهراوي في التمييز بين الأعراض المتشابهة، كما نقف على تتبع الزهراوي الدقيق واستقصائه لأصل الداء دون تساهل أو تسرع في إرجاع العلة إلى سبب واحد وإغفال بقية الأسباب، وعلى جودة التشخيص ومراعاة أثر تلوث البيئة في حصول الأمراض.
وخبرة الزهراوي عميقة في عمليات الفصد وبيان مواضعه ووظائفه المحددة وشروطه وما يجب أن يراعى بالنسبة لعمر المريض والوقت الملائم للفصد وحالة المريض البدنية والنفسية. ويوجب الزهراوي على الفاصد أن يتبع تعليمات دقيقة وأن يكون يقظاً ومتثبتاً غير مندفع ولا عجول وأن يكون مستعداً لمواجهة المضاعفات التي يمكن أن تحدث أثناء الفصد. وينبِّه إلى أنه (ينبغي أن تُخرج لكل إنسان من الدم على قدر قوته)، كما يوصي بالاسترشاد في إجراء الفصد على نحو سليم بلون الدم الذي يظهر.
وفي حديث الزهراوي عن الحجامة تظهر غزارة خبرته واستيعابه لسائر أدواتها والمواد التي تصنع هذه الأدوات منها ويذكر أربعة عشر موضعاً من الجسم للحجامة.
والزهراوي نموذج الجراح المتزن ينبِّه دائماً إلى مواطن الخطر والشبهة ولا يكف عن ذكر التحذيرات الضرورية التي يجب مراعاتها حرصاً على السلامة ويدعو إلى اتخاذ الاحتياطات اللازمة. وتظهر خبرته العلاجية المتميزة وحذره الشديد عند مواجهة الحالات الخطرة.
وفي جراحات الفم والأسنان وصف الزهراوي بدقة عمليات مثل: جرد الأسنان بالحديد، وقلع الأسنان وقلع أصول الأضراس، وإخراج عظام الفك المكسورة ونشر الأسنان النابتة على غيرها، وتشبيك الأضراس المتحركة بخيوط الفضة أو بخيوط الذهب، وقطعه الرباط الذي يعرض تحت اللسان فيمنع الكلام، وإخراج الضفدع المتولد تحت اللسان، وعلاج ما ينبت في الحلق من سائر الأورام، وقطع ورم اللهاة الذي يسمَّى عنبة وإخراج الشوك وما ينبت في الحلق. وقام الزهراوي أيضاً بعمليات استئصال أورام الثدي، وشق الأورام التي تعرض من قبل الشريان أو الوريد وبيَّن كيفية علاج السرطان بأنواعه ومتنها السرطان المتولد في الرحم، وهنا لا يبدو الزهراوي مجرد ناقل لآراء أبقراط وسليوس ممن سبقوه. وقام أيضاً بجراحات لإخراج الحصاة من المثانة وفرَّق بين الحصاة المتولدة في الكُلى وتلك المتولدة في المثانة كما عرض لحالات نادرة تتولد فيها الحصاة في النساء. وحظيت جراحات النساء والولادة عنده بعناية خاصة. واهتم الزهراوي اهتماماً ملحوظاً بجراحة الأوعية الدموية،  وأفرد لجراحة عظام وعلاج الكسور فصولاً عديدة من مقالته.  ويستوقفنا استدراكه وهو يعرض لخبرته في علاج فك خرز الظهر.
ولم يُغفل الزهراوي –وهو يتحدث عن جراحات العظام- أهمية العلاج الطبيعي فنجده يوصي باتباع تعليمات محددة درءاً لتيبس الأطراف وصعوبة تحريكها بعد العملية– وذلك وفق الخبرة التي كانت متاحة إذ ذاك.
وبهذا تتكامل المنظومة العلمية عند الزهراوي في علاج الكسور وفكِّ المفاصل.
الآلات الجراحية
لا نجد –عند أي من الأطباء من قبل– ما سوف نجده ولأول مرة في تاريخ التأليف الطبي عند أبى القاسم الزهراوي من وصف دقيق لآلات العمل باليد التي استخدمها في جراحاته العديدة، ورسم لصورها وتحديد لمواد صنعها وهيئاتها وأحجامها وبيان لوظائفها وكيفية استخدامها. وتبلغ هذه الآلات قرابة المئتين، أقل القليل منها عرفه السابقون والكثرة الكثيرة جاءت من ابتكار عالمنا العبقري واقترنت بإحداث ثورة حقيقية في مجالات العلاج الطبي المختلفة، مثل جراحات أمراض العيون والأسنان والأنف والحنجرة وجراحات أمراض النساء والتوليد وجراحات الأورام المختلفة وفي أمراض الدم وجراحات الأعصاب وجراحات العظام. وفي ثنايا مقالته في العمل باليد، تفاصيل هذه الآلات وكيفية استخدامها.
ويستوقفنا فيما كتبه الزهراوي بهذا الخصوص تلك العلاقة الجدلية التي نشهدها بين الجراح وآلته، والتنبه إلى ضرورة تطويع الآلة وفق ظروف كل حالة مرضية على حدة، وإلى أن العمليات ذاتها هي التي تدل على نوع الآلة التي تلزم.
وبعد أن يستعرض الزهراوي عدداً من الآلات تبلغ أربعاً وعشرين يحتاج إليها في إخراج الجنين –وكلها مما لم يستخدمها الأطباء القدماء من قبل– يذكر أن هذه الآلات كلها كلما كثرت أنواعها وكانت معدَّة عند الصانع كانت لعمله أسرع وأرفع عند الناس لقدره، فلا تستحقر منها آلة أن تكون عندك معدَّة لابد من الحاجة إليها. وهو ما يُعَدُّ آية على الروح العلمية الجديدة.
وفي فصل ممتع يخصِّصه لعمليات قطع الأطراف ونشر العظام ترد صور ثلاثين آلة استخدمها الزهراوي. ونقرأ قوله: (اعلم أن المقاطع والمناشير لقطع هذه العظام كثيرة على حسب وضع العظام ونصبها وغلظها ورقتها وكبرها وصغرها وصلابتها وتخلخلها، فلذلك ينبغي أن يعد لكل نوع من العمل آلة مشاكلة لذلك العمل، واعلم أن الأعمال أنفسها قد تدلك على نوع الآلة التي تحتاج إليها إذا كانت معك دربة طويلة ومعرفة بفنون هذه الصناعة لأن من مَهَر الصناعة وشاهد ضروباً من الأمراض فقد يستنبط لنفسه ما يشاكله من الآلات لكل مرض. وأنا مصوِّر لك في آخر هذا الباب عدة آلات تجعلها أمثلة تحتذي عليها وقياساً تقيس بها على غيرها إن شاء الله)، كما يطالعنا في موضع آخر قوله: (إن أجزاء هذه الصناعة وتفصيلها لا يُدرك بالوصف ولا يحيط به كتاب وإنما الصانع الحاذق يقيس بالقليل على الكثير وبما حضر على ما غاب ويستنبط عملاً جديداً وآلة جديدة عند النوازل الغريبة إذا نزلت من هذه الصناعة). 
عن ميثاق المهنة
يُذكر في تاريخ الطب قسم أبقراط على الدوام تجسيداً لأخلاقيات الطبيب والتزامه بالعهد والميثاق. ويجيء أبو القاسم الزهراوي مثالاً عالياً للطبيب المسلم الذي يضطلع بمسؤولياته الأخلاقية والعلمية: فمقالته الجراحية آية بينّة على هذا الالتزام الذي دعّمته كذلك توجيهات العقيدة الإسلامية. وجدير بالاهتمام حقاً وعي الزهراوي بمشكلات مهنته ومخاطرها في زمانه، والتي لا يزال الكثير منها مثار جدل حتى يومنا هذا، نذكر منها على سبيل المثال مدى المشروعية في استجابة الطبيب لرغبة مريضه أحياناً أن يضع نهاية لحياته طلباً للراحة من عذاب ألم لا يطاق واحتمال تعرض الطبيب في ذلك لترغيب أو ترهيب، ومدى حدود السلطة التقديرية للطبيب في التعجيل بالموت أو ما يُعرف بالقتل الرحيم إذا اقتضت حالة المريض ذلك، ويكون هذا بالطبع بعد استفراغ الجهد في بذل أقصى التحري واستنفاد جميع وسائل العلاج الممكنة.
ويبادر الزهراوي فينبِّه تلاميذه إلى ما يجب على الطبيب في هذا الشأن، خاصة والأمر أكثر إلحاحاً بالنسبة للجراح دون غيره من الأطباء. وفي بيان الصلة بين (العلم) من حيث هو نشاط معرفي له طبيعة تخصه وبين نسق (القيم) Values الذي يتشكل أحياناً في المجتمعات وفق معايير نفعَّية أو دينية، وفي التفرقة بين النشاط العلمي، في ذاته –وهو بطبيعته خارج دائرة التحليل والتحريم- وبين تطبيقه العملي من أجل السيطرة والتسخير وحلّ المشكلات –إن سلباً أو إيجاباً- يقف الزهراوي هنا موقفاً واضحاً تماماً فلا مصادرة على العلم لحساب الدين ولا خلط بينهما يؤدى إلى ضرر محقق، ولا صدام يفتقد، بالطبع، إلى أي مشروعية عقلية أو دينية.
ذو صلة