مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

من رموز صناع الحضارة العربية: أبو بكر الرازي.. جالينوس العرب

أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، واحد من أعظم أطباء القرون الوسطى.
ولد أبو بكر الرازي في مدينة الري جنوب طهران حوالي عام 250هـ - 864م، وقد اهتم بدراسة الطب وعلومه ونبغ في مهنة الطب نبوغاً واضحاً.
وقد اختلفت الروايات حول تاريخ وفاته، والمشهور أنه توفي عام 320 هـ، 932م.
وقد اهتم أبو الريحان البيروني (362هـ - 973م)، (443هـ - 105م) بحصر أعمال الرازي، وكتب رسالة فيها أسماء أكثر من مئة وثمانين مؤلفاً علمياً. وقد اعتنى بالرسالة المستشرق روسكا. ونشر فهرست كتب محمد بن زكريا الرازي بول كراوس. وتقول المستشرقة الألمانية زيغرد هونكة: «الرازي هو أحد أعظم أطباء الإنسانية إطلاقاً، وقبل ست مئة عام كان لكلية الطب بباريس أصغر مكتبة في العالم، لا تحتوي إلا على مؤلف واحد هو كتاب (الحاوي) في الطب للرازي».
وكان هذا الأثر العظيم ذا قيمة كبيرة، بدليل أن ملك المسيحية الشهير لويس الحادي عشر، اضطر إلى دفع اثني عشر ماركاً من الفضة ومئة تالر Taler من الذهب الخالص لقاء استعارته هذا الكنز الغالي، رغبة منه في أن ينسخ له أطباؤه نسخة، يرجعون إليها إذا ما هدد مرض أو داء صحته وصحة عائلته.
وكان هذا الأثر العلمي الضخم يضم كل المعارف الطبية منذ أيام الإغريق حتى عام 925 بعد الميلاد. وظل المرجع الأساس في أوروبا لمدة تزيد عن أربع مئة عام بعد ذلك التاريخ، دون أن يزاحمه مزاحم أو تؤثر فيه أو في مكانته مخطوطة من المخطوطات الهزيلة التي دأب على صياغتها كهنة الأديرة قاطبة، وهو العمل الجبار الذي خطته يد عربي قدير.
ولقد اعترف الباريسيون بقيمة هذا الكنز العظيم، وبفضل صاحبه عليهم وعلى الطب إجمالاً، أقاموا له نصباً وسط القاعة الكبيرة في مدرسة الطب لديهم، وعلقوا صورته وصورة عربي آخر هو (ابن سينا) في قاعة أخرى كبيرة تقع في شارع سان جيرمان، حتى إذا ما تجمع فيه طلاب الطب وقعت أبصارهم عليها ورجعوا بذاكرتهم للوراء يسترجعون تاريخها.
وقد وصف الرازي دائماً أنه: «كان ذكياً فطناً مجتهداً هادئاً رزيناً، يحب الرحمة والعدل والنصح والعفة والإقلال من مماحكة الناس ومجاذبتهم، وكذلك كان براً حنوناً يعطف على الطلاب والمرضى والفقراء».
 أهم مجهودات الرازي الطبية والعلمية
اهتم الرازي اهتماماً بالغاً بتدوين الملاحظات السريرية الخاصة بمرضاه، فاهتم بمعرفة سير المرض ودراسة أحوال مريضه في نومه وحياته وصحيانه ومزاجه وعمره وصناعته والأمراض الوراثية في عائلته وأحوال أسرته الاجتماعية والاقتصادية وعادات المريض في التغذية وأنواع الأطعمة التي يتناولها باستمرار، وكان يقول: «استخرج سبب الوجع من التدبير والسن والزمان والمزاج».
ويقول الرازي: «من أبلغ الأشياء فيما يحتاج إليه في علاج الأمراض بعد المعرفة الكاملة للصناعة، حسن مساءلة العليل، وأبلغ من ذلك لزوم الطبيب العليل وملاحظة أحواله».
وإلى جانب اهتمامه برعاية المريض ومحاولة علاجه وبرئه ووصف العلاج له كان يهتم برفع قوة العليل من أجل رفع مقاومة الجسم للمرض، ولهذا كان يقول: «القوة للعليل كالزاد للمسافر والمرض كالطريق، ولذلك ينبغي أن يعنى الطبيب كل العناية ألا تسقط القوة قبل المنتهى».
كما كان يهتم بتاريخ المرض ومعرفة تاريخ بداية المرض وزيادته ومنتهاه وتاريخ تحسن حالة المريض أو انحطاطه وتدهوره، متتبعاً بدقة حالات سير المرض وأوقات حدوث النكسات لمرضاه.
كما يستدل من البحران عن حال مريضه يقول: الذي يريده الأطباء بالبُحران هو تغيير سريع يحدث للمريض ينبئ عن حاله إما إلى ما هو أجود أو إلى ما هو أردأ.
وكان الرازي من الأطباء الذين يهتمون بالحالة النفسية للمريض، بل إنه كان يرى أن بعض أمراض الجهاز الهضمي تكون نتيجة أسباب نفسية بالدرجة الأولى، فيقول: «قد يكون لسوء الهضم أسباب بخلاف رداءة الكبد والطحال، منها حال الهواء والاستحمام ونقصان الشرب وكثرة إخراج الدم والجماع والهموم النفسانية».
وكان الرازي طبيباً إكلينكيّاً كبيراً يهتم اهتماماً بالغاً بالتشخيص والمشاهدة الدقيقة لحالات مرضاه، يقول الرازي: «كان يأتي عبد الله بن سوادة حميات مخلطة تنوب مرة في ستة أيام ومرة غبّاً ومرة ربعاً ومرة كل يوم، ويتقدمها نافض يسير، وكان يبول مرات عديدة، وحكمت أنه لا يخلو أن تكون هذه الحميات تريد أن تنقلب ربعاً وأما أن يكون به خراج في كلاه فلم يلبث إلا مُدّة حتى بال مدة أعلمته أنه لا تعاوده هذه الحميات، وكان كذلك إنما صرفني في أول الأمر عن أن أبت القول بأنه به خُرّاج في كلاه أنه كان يحم قبل ذلك (حُمى غب) وحميات أخر، فكان للظن بأن تلك الحمى المخلطة من احتراقات تريد أن تصير ربعاً موضع أقوى ولم يشكُ إلي أن قطنه (مابين الوركين) شبه ثقل معلق منه إذا قام، وأغفلت أنا أيضاً أن أسأله عنه، وقد كان كثرة البول يقوي ظني: (بالخراج في الكُلى) إلا أني كنت لا أعلم أن أباه أيضاً ضعيف المثانة ويعتريه هذا الداء، وهو أيضاً قد كان يعتريه في صحته فينبغي ألا نغفل بعد ذلك غاية التقصي إن شاء الله، ولما بال المدة أكببت عليه بما يدر البول حتى صفا البول من المدة ثم سقيته بعد ذلك (الطين المختوم) و(الكندر) و(دم الأخوين)، وتخلص من علته وبرأ برءاً تاماً سريعاً في نحو من شهرين، وكان الخراج صغيراً ودلني على ذلك أنه لم يشك ابتداء ثقلاً في قطنه لكن بعد أن بال مدة قلت له هل كنت تجد ذلك قلت قال نعم فلو كان كبيراً لقد كان يشكو ذلك وأن المدة تبينت سريعاً يدل على صغر الخراج فأما غيري من الأطباء فإنهم كانوا بعد أن بال مدة أيضاً لا يعلمون حالته ألبتة.
ويعلق العالم الكبير الدكتور محمد كامل حسين على هذه الفقرة قائلاً: «لو لم يكن للرازي غير هذه الفقرة لعددته من أكبر الأطباء الإكلينيكيين، وفيها الدلالة على ما في الأطباء من قوة وضعف، فهو يلوم نفسه على عدم معرفة المرض لأول وهلة، وكان يستطيع لو تقصى الحالة أن يصل إلى البت فيها، ثم هو يلتمس لنفسه العذر لأن المريض لم يذكر له العلامة المهمة، ثم يلوم نفسه على أنه لم يسأل عن حالته قبل ذلك وحالة أبيه، ثم يخرج من ذلك إلى خطوة أدق في التشخيص مبيناً سبب رأيه هذا، ثم يختتم كل ذلك اللوم والعذر والبحث بأضعف صفة في كبار الأطباء دائماً وهي شعورهم أن غيرهم لم يكن ليبلغ مبلغاً يستطيع فيه حتى أن يخطئ خطأهم».
والحقيقة أن الرازي كان -بلا شك- طبيباً دقيقاً في كشفه وتقديره لنوع المرض وتشخيصه تشخيصاً جيداً.
ومن أبرز مجهودات الرازي الطبية أنه أول من وصف الرشح التحسسي في التاريخ، وقد عُرف ذلك بالصدفة «عندما عثرت المستشرقة الألمانية فريد رون هاو بالصدفة ضمن مجموعة من المخطوطات على رسالة الرازي: (مقالة في العلة التي من أجلها يعرض الزكام لأبي زيد البلخي في فصل الربيع عند شمهِ الورود)، فانتبه العلماء إلى أن الرازي كان أول من وصف الرشح التحسسي في التاريخ.
هذا والرازي من أوائل العلماء الذين قالوا (بالعدوي الوراثية).
وعن الكشوف والجهود العلمية للرازي يقول الدكتور توفيق الطويل: «ومن كشوفاته العلمية أنه كان السابق إلى استخدام أمعاء الحيوان في التقطيب والإكثار من استعمال الفتائل وخيوط الجراحة، ووصف جراحة استخراج الماء الأبيض (الكتاركتا) واستخدام المحاجم في علاج داء السكتة، ووصف الطاعون وما نسميه اليوم بحمى الدريس Hay Ferer، وكان أول من ميز في دقة بالغة بين الجدري والحصبة، وكانت رسالته في ذلك أول دراسة علمية في الأمراض المعدية، وكان أول من أدخل في الصيدلة الملينات. وطبق في الطب المركبات الكيماوية، واستخدام الزئبق في علاج الأمراض الجلدية، وسبق إلى الاهتمام بالأحوال النفسية في تشخيص الأمراض الباطنية وعلاجها. وكان من رواد الكتابة في أمراض الأطفال، وكان أول من فطن إلى الإصابة بدودة Guinea Warm واستخدام الحزام، وعدّ الحمى عرضاً لا مرضاً، وأدخل في المداواة أساليب جديدة - كاستخدام الماء البارد في الحميات، وكان أول من كشف (البول السكري)، إذ كان يطلب إلى المريض الذي يشتبه فيه أن يبول على رمل وينتظر قليلاً، فإذا اجتمع النمل فوق الرمل دل هذا على أن البول سكري.
اهتمام الرازي بالتجربة
كان الرازي يؤكد على أهمية الممارسة والخبرة والتجربة في علاج المرضى، والطبيب الممارس أفضل عنده ممن عرف الطب عن طريق الكتب فقط. يقول الرازي: «إن من قرأ الكتب ثم زاول المرض يستفيد من التجربة كثيراً».
ويفضل الرازي الطبيب الذي يعمل في العواصم والمدن الكبيرة الآهلة بالسكان، حيث يكثر المرض وتزداد الخبرة والتجربة عن الطبيب الذي يعمل في المناطق غير الآهلة بالسكان، فيقول: «ينبغي أن ينظر هل شاهد المرضى وهل كان ذلك منه في المواضع المشهورة بكثرة الأطباء والمرضى أم لا».
وحين يتعارض النظر مع التجربة والعمل فإنه يفضل دائماً اختيار الطبيب المجرب «... فإن لم يتهيأ له إلا أحد الرجلين فليختر المجرب (أي الممارس) فإنه أكثر نفعاً في صناعة الطب من العاري عن الخدمة والتجربة البحتة».
بل إن الرازي يعتبر أن التجربة علم له أصول وقواعد يجب على الممارس معرفة أصولها.
ولقد قام الرازي بنفسه بإجراء بعض التجارب على الحيوانات كالقردة.
وكان يجرب أحياناً بعض المواد والأحماض والعقاقير على نفسه فيقول: «جربت في نفسي ورأيت أن أجود ما يكون أن ساعة ما يحس الإنسان بنزول اللهاة والخوانيق (يقصد الزور واللوزتين). أن يتغرغر بِخَلّ حامض قابض مرات كثيرة».
ولم تكن التجربة عند الرازي مجرد تجربة اتفاقية بل كانت في معظم الأحيان تجربة لها ضوابط وتجربة موجهة.
مثال ذلك أنه كي يتأكد من أثر الفصد لعلاج السرسام. قسم مرضاه إلى مجموعتين يداوي إحدى المجموعتين بالفصد والمجموعة الأخرى لا يفصدها. ثم يراقب النتيجة ويضبطها، يقول عن حالة تؤشر بقرب الإصابة بمرض السرسام: «فمتى رأيت هذه العلامات فافْصُدْ في العضد فإني قد خلصت جماعة به وتركت متعمداً جماعة أستدني بذلك رأياً فسرسموا كلهم».
وداخل المعمل كانت للرازي تجارب معملية وكيميائية مهمة، حيث استحضر الرازي بعض الحوامض، مثل حامض الكبريتيك وقد سماه (زيت الزاج أو الزاج الأخضر)، ونقله عن كتبه البير الكبير وسماه كبريت الفلاسفة.
واستخرج الرازي الكحول باستقطار مواد نشوية وسكرية مختمرة، وكان يستعمله في الصيدليات لاستخراج الأدوية والعلاجات، حينما كان يدرس ويطبب في مدارس بغداد والري، واشتغل الرازي في حساب الكثافات النوعية للسوائل (واستعمل لذلك ميزاناً خاصاً سماه الميزان الطبيعي).
وهذا يبين لنا أن الرازي كان كيميائياً أيضاً بالإضافة إلى اهتماماته الطبية.
أهم الآثار الطبية للرازي
أضاف أبو بكر الرازي إلى المكتبة العربية قرابة مئة وثمانين مصنفاً في شتى العلوم، وقد اهتم أبو الريحان البيروني بحصر مؤلفات الرازي العلمية، ووضع رسالة صغيرة ذكر فيها إحصاءً عاماً بهذه المؤلفات.
وبالنسبة لمؤلفاته في الطب، وهي التي تهمنا في هذا المقام؛ فإن أهم هذه المؤلفات جميعاً كتابه (الحاوي) الذي يتكون من قسمين كبيرين. القسم الأول منه في الأقرابازين، والقسم الثاني يبحث في ملاحظة سريرية تهتم ببحث تطور المرض وسيره مع العلاج ويسره مع تتبع حالة المريض ونتيجة العلاج.
وقد ذكر ماكس مايرهوف للرازي 33 ملاحظة سريرية مختلفة.
وفي هذا الكتاب نلاحظ وصف كل مرض على حدة، كما ذكر في كتب الطب القديمة عند الإغريق والسوريان والعجم والهنود. وبعد ذلك يدون معلوماته ويدلي بمشاهداته وخبراته، ثم يكوّن الرأي النهائي للمرض الذي بحثه.
ويكاد يكون هناك شبه إجماع بين العلماء على أن كتاب الحاوي تم إنجازه على يد تلاميذه بعد وفاته، لأنه توفي قبل استكمال كتابه هذا الموسوعي الضخم، وقيل في هذا إن ابن العميد طلب إلى شقيقة الرازي بعد وفاته إعطاءه مخطوطة الحاوي وأعطاها مالاً كثيراً حتى استجابت، وبعد ذلك اجتمع تلاميذ الرازي وأكملوا الكتاب على النحو المعروف به.
ولأن الكتاب (الحاوي) قد حوى آراء الأطباء القدماء فإنه قد تضمن فيما تضمن بعض خرافات الطب القديم، إلا أن أهم ما في الكتاب تلك الملاحظات السريرية التي شملت ملاحظاته وخبراته الطبية المتميزة.
ولأن الرازي توفي قبل استكمال موسوعته وتنظيمها وتبويبها وترتيبها فقد نشرت على يد تلاميذه في صورة غير مرتبة ترتيباً دقيقاً، وإن كانت تستعرض كافة أمراض جسم الإنسان من الهامة إلى أخمص القدم، مبيناً فيها أسباب المرض وعلاماته وطرق التشخيص والمعالجة، مستعرضاً آراء الأقدمين مبيناً رأيه في طرق العلاج القديمة إما موافقاً أو ناقداً ومقدماً طرقاً جديدة للعلاج.
والرازي يعد من أوائل من وصفوا بدقة تامة مرض الجدري والحصبة، وهو صاحب رسالة من أشهر الرسالات في الجدري والحصبة، حيث فرق بين الجدري والحصبة، وكشف عن أعراض كل مرض على حدة.
وقد طبعت هذه الرسالة إلى الإنجليزية وحدها أربعين مرة بين سنتي 1498 وسنة 1866.
ومن الكتب الطبية للرازي كتابه (المنصوري)، ويقع المنصوري في عشرة أجزاء، تتناول الموضوعات الطبية المتعددة كالجراحة وأمراض العيون وأمراض البطن.
ومن آثاره الطبية أيضاً كتابه (فيمن لا يحضره طبيب)، وقد أطلق بعض الباحثين على مثل هذه المؤلفات لقب طب الفقراء والمساكين.
وكتابه هذا يصف بطريقة بسيطة بعض الأمراض وطرق علاجها بالأغذية الرخيصة بدلاً من شراء الأدوية المرتفعة الثمن والتراكيب النادرة.
هذه إضاءة سريعة حول طب أبي بكر الرازي الذي لقب يوماً ما بجالينوس العرب والذي له بصمات واضحة في تقدم الطب وعلومه.
ذو صلة