الموقع : أكاديمية قامات الثقافية
الكاتب : البتول المحجوب
النص : رائحة ضفائر أمي
الرابط :
http://qamat.net/vb/showthread.php?t=8827
من خلف أبواب حديدية موصدة، يتذكر ويحلم بصوت مرتفع:
..كلماشعرت بشبح البرد يزحف متسللاً من بين ثنايا الجدران الصماء، حننت لوبر خيامنا السود، سوادها مازال عالقاً بالذاكرة، وصوت أمي آت من وراء الخيام، تدندن بنغم شجى الكلمات. ضفائرها مسترسلة وأناملها تغزل الوبر دون كلل، لإعداد بيت الشعر الجديد. فالشتاء على الأبواب..ووجه أمي الطيب يكاد يختفي وراء كومة كبيرة من الوبر. إن رائحة ضفائرها موغلة بذاكرتي كلما حاولت هاته الجدران الصماء وصرير أبوابها الموصدة حجب تقاسيم وجهها.تطل من جديد من ثقب الذاكرة..جميلة ضفائرك أمي،سود سواد ليل الصحراء.. أتذكر حنينك دوما لوجه الصحراء الحزين.حنيناً كحنين العيس إلى نجد. ذاكرتي المتعبة ورثت عنك عشق المجهول وسحر الصحراء. من رائحة ضفائرك السود،حلمت بليالها المقمرة، ليالي الحكي الجميل، ليالي السمر وكؤوس الشاي المعتق ورائحة الحطب المشتعل منبعثة من أمام الخيام. لرائحة اشتعال الحطب ذكرى بذاكرة طفلك الصغير المختبئ دوماً وراء كومة حطب.
تتسلل خيوط الشمس من شق الباب الحديدي.. باب يحمل مرة رقم واحد، ومرة اثنين، ومرة ثلاثة ومرة ثمانية. إنها أبواب حديدية خنقت أنفاسي وأرقامها المشؤومة حاصرتني بعيدا عنك ياصحراء.حلمت بدفء قبلة من ثغر شمسك على جبيني،بأرض لاحدود لها لاجدران باردة ولا أبواب موصدة..تباً لصرير الأبواب الحديدية.كلما أصغت السمع أشعر بصداع يكاد يفتت دماغي المثقل بالغياب. أهرب بحثاً عن أمي ورائحةضفائرها المخضبة بالقرنفل.فلرائحة الأمهات رائحة الأوطان البعيدة.
تجلس على كرسي متحرك.تغرق في بحر انتظارطويل.تتذكر يوم ابتلعك الغياب في جمعة عاصف.لم يبق من ذكراك إلا ملامح وجه لفحت الشمس قسماته.لم يبق لذاكرتها المهمومة إلا نظراتك الدافئة،نظرات كانت أنيس وحدتها..تمسح دمعة منسكبة على خدها الشاحب.
وتتذكر عشقك الجارف للصحراء،لغموضها ولسحرها الذي لا يقاوم..تشعر بحرقة الغياب من جديد.تحرك الكرسي يميناً وشمالاً، ثم تردد في صمت:
- خطفتك الأبواب الموصدة والجدران الباردة ذات يوم عاصف،حرمتك دفء الرمال الذهبية وحلم العيش بين دفء أحضان كثبان الصحراء ولهيب شمسها الحارقة ورياحها العاصفة.
همت بالأرض السمراء عشقاً ولم تبال بقساوة طبيعتها يوماً.
.. تنفث يميناً وشمالاً، تبسمل خوفاً من هواجس مرعبة تنتابها كل مساء.وتسأل المجهول عنك بصوت متردد خائف:
أتراه مازال حياً يرزق.. أأحلم بشم رائحته يوما ما..؟
يتمدد رغم ضيق المكان، يتلذذ بإغماض عينيه، يرى نفسه حراً طليقاً كطائر محلق في صحراء بعيدة الحلم.
تتراءى له دروب العتمة يبتلعها المجهول وصرير الأبواب الحديدية يتلاشى.يتيه في الصحاري الشاسعة،عله يشفى،أو ينسى حلكة أيام الغياب، ينظر لمعصم يديه قد يندمل الجرح يوما.يبتسم ساخرا من نفسه،وجرح القلب ماذا عنه..؟ أيندمل هو الآخر مع الأيام..؟يأتيه صدى الصوت من بعيد ويغرق في حزن مسائي.
يحل المساء الحزين وهي مازالت جالسة على ذاك الكرسي المتحرك،تصارع من أجل البقاء.
طال انتظارها.سنوات عمرها تساقطت كأوراق خريف ذابل.
تنتحب في صمت من هزمته الأيام وحرقة انتظار عودة غائب لايعود أو انتظار بزوغ فجر جديد. بعيداً عن دروب معتمة وأبواب موصدة وجدران باردة.