- لنشر إلى اسمه بحرفي (ر.ف). جاري في المخيم، خمسيني بلا أسنان.. لا شعر على رأسه، نحيل إلى درجة أنه لا يمكن أن يُرى في الشارع إن لم يصدر صوتاً مثل نحنحة أو تحية أو ضحكة، أب لتسعة أبناء وبنات، عمله البناء، هو يزعم دوماً أنه متعهد بناء مشهور بنى مئات الشقق في رام الله وداخل فلسطين 48، لكن سكان المخيم -ومنهم أنا بالطبع- لا يصدقون ذلك، إذ إن من السهل جداً يومياً تقريباً رؤية شخص ما غاضب يجره من رقبته إلى الشرطة؛ لأن أحد أعمدة البيت الذي يبنيه له وقع في الليل، إذ إنه لم يحسن بناءه كالعادة، ومع ذلك لا يتوقف (ر.ف) عن الضحك والتنكيت، لماذا تطلبون مني أن أبني لكم بيوتكم إذاً؟ يصيح فيهم (ر.ف) ضاحكاً، كان يعرف أنه مطلوب بغزارة؛ لأنه لا يكلف كثيراً، لن يضطر أحد لدفع الكثير من المال، وأحياناً يكتفي (ر.ف) بوجبات طعام ساخنة وفاخرة مثل المسخن والمنسف له ولأولاده، آخر نوادره كانت، أمس، حين وقفت في جانبه وهو يخلط الإسمنت بالماء:
- - «كيف الشغل يا صديقي؟».
- - «والله يا أستاذ إني زهقت، (إلي) 27 سنة بشتغل في الباطون، فتحت مليون كيس إسمنت، نفسي مرة أفتح كيس وألاقي جوّاه جائزة أو هدية من الله أو من صاحب مصنع الباطون».
- وينفجر بالضحك الدامع، وأنفجر أنا بالضحك الحزين، ويتفجر كل شيء حولنا بالتوتر غير الظاهر.
- مرة من المرات أوقفني (ر.ف) في الشارع، أمسكني من كتفي متخذاً وجهه قناع غضب ما:
- - «أستاذ أنا بحاول أقرألك في الجرايد بس ما بفهم إشي، إنت بتكتب عن كوكبك إنت، زورنا في كوكب الأرض». ثم ألقى على عيني وثيابي قنبلة صوت ضاحكة، ومضى. ما لم أذكره لكم هو أن هذا الرجل سيموت في أي لحظة؛ لأن مرض قلب العائلة الوراثي لم يبق من عائلته (إخوة وأْخوات وأعمام وخالات) سواه.
- وعلى ذلك علّق ذات مرة.
- - «نفسي يا أستاذ أربح جائزة في كيس إسمنت قبل ما أموت، الولد الكبير نفسه في دراجة، نفسي أبسطه (هالعكروت). وصمت الرجل النحيل، حدق في خلطة الإسمنت تحديقة طويلة حتى خلته سيقع على الأرض ميتاً تلبية للنداء المتفق عليه بين العائلة والمرض، انتظرت ضحكته المجنونة الدامعة، لكنها وياللغرابة لم تنفجر كانت فتيلتها مبللة بغصته العميقة.
- سأذهب إلى المدينة الآن، آكل الدجاج المسحب، بالخبز الأسمر، أدوخ في كتاب ما، أصدق نصوصي وهي تتبختر في ملعب اللغة، أشرب عدداً من فناجين القهوة، أهاتف جميلتي بيضاء الصوت، أنام قيلولتي، لكني سأظل أْحس بثقل غريب في قدمي، وطعم مرير وغريب في فمي، كأني أغطس حتى جبيني في خلطة إسمنت ثقيلة وسائلة في آن، سـأعثر على يد (ر.ف) وهي تسبح ميتة في لجج الخلطة الرمادية، سأحاول أن أسحبها، فأحس بشلل في يدي، مازلت أعيش داخل جحيم الإسمنت، الذي يحجب عني شخصيات بريئة وثرية مثل (ر.ف)، وشوارع قذرة لكنها شديدة الحياة، وأمكنة ضيقة ومخنوقة لكنها واسعة الإحالات والدلالات، ومنجم لغة وأفكاراً وأحاسيس أخرى، سأعثر على ممري الذي سيوصلني إلى نهاري؛ لأكتب عن كوكبي الشخصي وكوكب الأرض.
- أحبك يا نحيلي الإسمنتي، أحبك...