مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

(أستوديو مصر) والسينما العربية

تم الاحتفال باليوبيل الماسي (1935 - 2010م) لشركة مصر للتمثيل والسينما أو اختصاراً (أستوديو مصر). لهذا الأستوديو العريق تاريخ حافل بتصوير وإنتاج روائع (الفن السابع) المصرية والعربية. وعندما نسمعه يتحدث عن نفسه، يستعرض (ذاكرته الحية) التي (توثق) لولادة صناعة السينما العربية.
  شهد المقهى الكبير بشارع (كابوسين) بباريس، يوم 28 ديسمبر 1895م، أول عرض سينمائي مفتوح بتذاكر للجمهور لمشاهدة اختراع الأخوين الفرنسيين (لوميير). وبعد نحو عام أي في 5 نوفمبر1896م، كانت الإسكندرية، وبورصة (طوسون) في شارع فؤاد على موعد، كغيرها من معظم بلاد العالم في كل القارات، مع العرض الأول لـ(سينما توجراف لوميير). استقدم مجموعة من الأجانب المقيمين في الإسكندرية بعض الشرائط الأولى التي حققت نجاحاً مدوياً، لتكون السينما أول شكل من أشكال التعبير والتواصل بين البشر في كل مكان في نفس الوقت.
بدأت العروض الناطقة في مصر في سينما فون (عزيز دوريس) (سينما ستراند بمحطة الرمل في الإسكندرية)، كما نجح عزيز بندرلي، و(امبرتو ملافاسي دوريس) في استيراد الحاكي والأسطوانات الناطقة للتعليق على الأفلام في السينما. وفي مطلع العشرينيات من القرن الماضي، ومع جهود المخرج والمصور محمد بيومي، الذي أنشأ بالإسكندرية (أستوديو سينمائي) أنتج من خلاله أول أفلامه (الباش كاتب) بطولة أمين عطا الله، وبشارة واكيم، وبلغت مدة عرضه على الشاشة 30 دقيقة. أما تكاليف إنتاجه فلم تتعد 100 جنيه، وبعد ذلك أنتج وأخرج فيلمه الثاني (الخطيب نمرة 13) لكن لم يستطع بيومي مواصلة الإنتاج السينمائي، فباع آلات التصوير الخاصة به، وأهدى بعضها، وعمل مصوراً ومخرجاً سينمائياً في شركة (مصر للتمثيل والسينما).
إن الميلاد الحقيقي والطفرة الكبيرة للإنتاج السينمائي المصري، وبالتالي العربي والأفريقي، ارتبط بإنشاء وافتتاح (أستوديو مصر) في السابع من مارس عام 1935م. أنشئ الأستوديو، الذي حمل اسم مصر كبقية مشروعات الاقتصادي المصري الوطني الكبير (طلعت حرب باشا). جاء برأس مال مصري خالص، كأحد مشروعات شركة (مصر للتمثيل والسينما)، التي أسسها طلعت باشا العام 1925، وكثالث شركات بنك مصر، بعد المطبعة وشركة حلج القطن. 
آمن طلعت باشا حرب بأن تجديد الاقتصاد في بلد زراعي كمصر لن يتم إلا إذا ازدهرت الثقافة، ودعمت بالاستثمار فيها. وكان رجل الاقتصاد الأول في مصر يؤكد دوماً على أهمية السينما وخطورة دورها: (إننا نعمل بقوة واعتقاد في أن السينما صرح عصري للتعليم لا غنى لمصر عن استخدامه في إرشاد سواد الناس). وأقيم أستوديو مصر، الذي يقع مقره في شارع الهرم قرب أهرامات الجيزة، على مساحة كبيرة من الأرض تضم أكثر من (بلاتوه) للتصوير ويضم ورشاً للديكور وغرفاً للممثلين ومخازن للملابس ومعدات التصوير السينمائي. كما يضم أشهر ديكور للحارة المصرية التي تتضمنها مشاهد كثيرة في الأفلام السينمائية.
باكورة أعماله
منذ افتتاحه.. شهد هذا الصرح السينمائي الكبير تطوراً كبيراً في كافة المجالات الفنية والبشرية والتكنولوجية المتعلقة بصناع السينما، وصناعتها كمجالات الديكور والتصوير والمونتاج، فضلاً عن البلاتوهات المخصصة للتصوير. ففي باكورة أعماله.. أنتج (ستوديو مصر) فيلماً قصيراً لمدة عشر دقائق للإعلان عن المنتجات المصرية. كما أنتج نشرة أخبار أسبوعية عن الأحداث في مصر يتم عرضها قبل بداية أي فيلم. أنتج الأستوديو فيلم (وداد) عام 1936 إخراج (فريتز كرامب)، وأول فيلم من تمثيل أم كلثوم. نجح الشريط السينمائي بشكل رسَّخ أقدام الفن السابع في مصر، ما شجَّع على إنتاج أفلام جديدة لم تقل في عظمتها عن الفيلم الأول. فكان فيلم (سلامة في خير) 1937م، لنجيب الريحاني، وإخراج نيازي مصطفى، وفيلم (لاشين) إخراج (فريتز كرامب) 1938م، ثم فيلم (العزيمة) 1939م من إخراج كمال سليم، كإحدى المحطات المهمة في تلك الفترة. 
ليس هذا فحسب بل يحسب لأستوديو مصر أنه صوَّر استعدادات القصر الملكي لزواج الملك فاروق والملكة فريدة عام 1938م، وقدمها إلى دور العرض، لتظل النسخة الوحيدة والفريدة التي وثقت الحدث. هذا إلى جانب أفلام من إنتاج شركات أخرى تم تصويرها في الأستوديو، ومنها (يحيا الحب)، و(دنانير)، و(رصاصة في القلب)، و(أحمر شفايف)، و(قلبي دليلي). وقام أستوديو مصر بإرسال البعثات الفنية إلى أوروبا لتعلم فنون الإخراج والتصوير والديكور والمونتاج والمكياج.. الخ، فسافر أحمد بدرخان، وموريس كساب (إخراج)، وحسن مراد، ومحمد عبد العظيم (تصوير)، وولي الدين سامح (ديكور)، ونيازي مصطفى (مونتاج)، ومصطفى والي (صوت). كما تم تعيين الفنان أحمد سالم مديراً للأستوديو. 
عادت البعثات لتمنح مصر زعامة الفن السابع في المنطقة ليتضاعف عدد الأفلام التي ينتجها الأستوديو بعد الحرب العالمية الثانية من 16 فيلماً عام 1944 إلى 67 فيلماً عام 1946، كما برزت أسماء في عالم الإخراج ومنها صلاح أبو سيف، وكامل التلمساني، وعز الدين ذو الفقار.. الخ. ويمتد تأثير الأستوديو إلى انتشار دور العرض التي بلغ عددها في تلك الفترة نحو 100 دار عرض. كما ظهرت أسماء أدباء في عالم الكتابة للسينما، وفي مقدمتهم الأديب نجيب محفوظ، وكانت أولى مساهماته ككاتب سيناريو فيلم (المنتقم) الذي تعاون من خلاله مع مخرجه صلاح أبو سيف عام 1947، وارتفع عدد دور العرض بمصر ليصل إلى 248 داراً، كما تخرجت أول دفعة من المعهد العالي للتمثيل، ومن بين خريجيها شكري سرحان، وفريد شوقي، وحمدي غيث، وزهرة العلا.
وعاشت مصر انتعاشة سينمائية حقيقية مع تضاعف عدد الأفلام المنتجة التي ارتفعت أرقام أرباحها، ما ساعد على إنشاء أربعة أستوديوهات تصوير سينمائي جديدة إلى جانب أستوديو مصر. عرف الفيلم المصري طريقه إلى الدول العربية من مشرقها إلى مغربها، ووصلت الأفلام المصرية إلى الهند وباكستان واليونان.
بات أستوديو مصر قبلة الفن السينمائي في العالم العربي. ففي الفترة من 1936 - 1956م أنتجت شركة مصر للتمثيل والسينما في أستوديو مصر 57 فيلماً روائياً. كما شهد الأستوديو تصوير 125 فيلماً في الفترة من 1936 - 1960م ليبلغ مجموع الأفلام التي صورت فيه منذ افتتاحه حتى صدور قرار تأميمه في العام 1960م، 182 فيلماً روائياً مصرياً.
ماذا بعد؟
بتأميم الأستوديو.. بات قطاعاً عاماً، خضع بعض الوقت لاهتمام الدولة، وعانى، كغيره من الشركات والهيئات الحكومية، سنوات من الإهمال، إهمال بدَّد مقتنياته، وقضى على روعته وبهائه، ولم ينقذه نقل تبعية الإشراف عليه إلى وزارة الثقافة سنة 1980م ومن خلال المجلس الأعلى للثقافة. ثم في عام 1994م نقلت ملكية الأستوديو، الذي أسس للفن السابع في مصر، إلى الشركة القابضة للإسكان والسياحة والسينما، إحدى شركات وزارة الأعمال. وطبقاً لقوانين خصخصة أصول السينما، قررت الحكومة خلال عام2000م منح شركة (إكسير للخدمات الفنية شركة مساهمة مصرية تعود نواة تكوينها إلى عام 1988)، حق الإيجار التشغيلي للأستوديو حتى عام2020. وذلك بإيجار سنوي بقيمة 26 مليون جنيه وزيادة مالية سنوية، والتزام بخطة تطوير وتحديث الأستوديو ليواصل إسهاماته في ازدهار الفن السابع. منذ العام 2006.. أصبح (أستوديو مصر) منطقة حرة. 
لقد كان عقل طلعت باشا حرب مفعماً برؤية أن (أستوديو مصر لن يوفر للمصريين المتعة والفن وحسب، بل سيصبح جزءاً من الاقتصاد المصري، ومنارة سينمائية تنير للشرق الأوسط الطريق في عالم الفن السابع). وحثت العديد من الهيئات الحكومية وغير الحكومية على تحويل (الأستوديو) إلى (دار السينما) للحفاظ عليه، وتحقيقاً لحلم قديم بوجود دار للسينما في مصر.
صفوة القول: لاشك أنه من رحم (أستوديو مصر) ولدت صناعة السينما العربية. هذا الأستوديو الذي إذا تحدث عن نفسه فسيقول: أنا تاريخ حافل بروائع الإنتاج السينمائي، ومدرسة تعلَّم فيها الهواة، وتخرَّج فيها المحترفون. قدَّمت على مدار 75 عاماً، أفلاماً تميزت بجودة فنية وأدبية عالية، وحملت راية الفن السابع خفاقة مشرقة على ربوع العالم العربي بل والأفريقي.

pantoprazol 60mg pantoprazol yan etkileri pantoprazol iv
ذو صلة