من المؤكد أن فنسنت فان جوخ لم يرسم لوحة «الصرخة»، فهي للرسام النرويجي المعاصر إدفارت مونك. ولكن الكثير من الناس لا يميزون بينهما إلى اليوم، وهو ما دفع القائمين على معرض خاص في أمستردام للاهتمام بهذين الفنانين وحياتهما، لاعتقادهم بوجود ارتباط فني وتاريخي قوي لا بد من استكشافه. والنتيجة كانت معرض «مونك- فان جوخ» تحت عنوان «فان جوخ ومونك» وهو يضم أكبر مجموعة فنية لرسام ما بعد الانطباعية في التاريخ.
وتضمن المعرض الذي احتضنته أمستردام نحو ثمانين لوحة، وثلاثين عملاً على الورق. وكانت نصف الأعمال تقريباً مأخوذة إما من متحف فان جوخ أو من متحف أوسلو، بينما اقترضت بقية الأعمال من مؤسسات أخرى على غرار متحف دورسيه في باريس، ومتحف تيسين بورنيميسزا في مدريد، ومتحف الفنون الجميلة في بوسطن، ومتحف الفنون الجميلة في مينيابوليس.
وقد يكون الجمع بين هذين الفنانين الكبيرين في معرض واحد لغايات تجارية معتادة في عالم اليوم ورفع أرقام مبيعات التذاكر. لكن الأهم من ذلك كله كانت جهود القائمين على المعرض من خلال بحث على نطاق واسع على مدى ست سنوات بهدف إيجاد تفسير للترابط والتشابه في أفكار وأعمال الرسامين اللذين لا يعرفان عن بعضهما شيئاً. ويؤكد الباحثون أن فان جوخ قد لا يكون على علم مطلقاً بفنان نرويجي يدعى إدفارت مونك، ولكن الأخير كان معجباً جداً بعمل فان جوخ، وكثيراً ما كان يحاول محاكاة أسلوبه.
بالنظر إليهما في آن واحد، يظهر أن الفنانين قد سلكا، في أعمالهما، مسارات متشابهة لتطوير الأساليب الفنية في عالم الرسم، مع ارتباطات قوية في المواضيع والأفكار كذلك. ومن الواضح أيضاً أن لكل فنان أسلوبه المميز. ويسعى المعرض المذكور لمناقشة، بشيء من التفصيل، أوجه التشابه ولكن أيضاً الاختلافات، لأن الفوارق بينهما كبيرة.
وتركز البحث في البداية على إيجاد دليل يثبت أو ينفي التقاء الرسامين مرة واحدة على الأقل في حياتهما. وبفارق عشر سنوات، ولد فان جوخ سنة 1853 بتسن درت، هولندا، بينما ولد مونك في 1863 في لوتن النرويجية. وانطلقت مسيرتهما الفنية مبكراً سنة 1880 عندما كان عمر فان جوخ 27 ومونك 17 فقط. وكلاهما زار أنتويرب في عام 1885، وكلاهما أيضاً أمضى بعض الوقت في باريس، مركز عالم الفن الأوروبي في ذلك الوقت، في أواخر سنوات 1880. وطوَّر كل منهما حرفته بفرنسا، حيث سعيا للنهل من العديد من الرسامين الآخرين، على غرار كلود مونيه، هنري دي تولوز لوتريك، وبول غوغان.
لم يتمكن الباحثون من التعرف على لحظة الالتقاء الفعلي بين الفنانين. قد يكون ذلك في شهر ماي من سنة 1890، لأنهما كانا في باريس في ذلك الوقت، وكلاهما ربما ذهب إلى نفس المعرض. وربما لم يلتقيا أبداً. كان مونك معجباً بفان جوخ كثيراً، وكان سيذكر ذلك في رسائله لو التقى به فعلاً.
وتوفي فان جوخ عام 1890 في أوفير سور واز شمال غرب باريس، ومن المحتمل أنه لم يعلم بأعمال مونك أصلاً، لأنه لم ينظم أي معرض قد يحضره فان جوخ. بينما يرى آخرون أن مونك شاهد بعضاً من لوحات فان جوخ في المعارض في سنوات 1880. وبعد أن ذاعت شهرة فان جوخ كرسام بعد وفاته، كانت هناك العديد من الفرص الأخرى لمونك ليرى فيها أعماله. ومن المحتمل أنه شاهد ما لا يقل عن 100 عمل في المعارض التي يُعرف عنه أنه حضرها، كما ورد في مذكراته ومراسلاته.
وقرر الباحثون في الأخير إعادة التفكير في معنى وأهمية أعمالهما الفنية وطبيعة طموحاتهما الشخصية من خلال لوحاتهم بعيداً عن تفاصيل السيرة الذاتية لحياتهما. وفي الوقت الذي بنى فيه الفنانان مسيرتهما مع اللوحات الطبيعية والاجتماعية الواقعية، لم يكن أي منهما مستعداً للسير إلى ما لا نهاية في هذا التقليد دون تمحيص. في هذا الإطار حاول المعرض الكشف عن العلاقة بين أعمال الفنانين عبر تعليق لوحات مماثلة جنباً إلى جنب، ولكن دون الاعتماد على ذلك كلياً خوفاً من أن تتحول إلى منافسة بين الشخصيتين. ويمكن للزائر تبين بعض المقارنات من خلال الأسلوب الفني والمواضيع لكل منهما، ولكن مع درجة كبيرة من التطابق لا يمكن تجاهلها في بعض الأحيان.
كلاهما أنتج، على سبيل المثال، لوحات تعبيرية للسماء في المساء، فان جوخ عبر لوحة «ليلة النجوم فوق نهر الرون» (1888) ومونك في «ليلة النجوم» (1922 - 1924)، وتعرضان جنباً إلى جنب. كما رسما صوراً لمنازلهما: لوحة فان جوخ «البيت الأصفر (الشارع)» في سنة 1888 بآرل في مقابل لوحة مونك «زاحف فرجينيا الأحمر» (1898-1900).
وتضمن المعرض لوحة «الصرخة»، وكان مونك قد رسم أربع نسخ منها. أولها لوحة تعود إلى سنة 1893، وتعرض إلى جانب لوحة فان جوخ «جسر في حي ترينكتاي» سنة 1888، وهي عبارة عن مشهد لشارع تتوسطه صورة صغيرة يمكن أن تفسر على أنها فتاة تصرخ فوق الجسر. وتشبه في أسلوبها ورسمها لوحة مونك، ويمر عبرها خط حاجز الجسر في أسفل الجانب الأيمن من الرسم.
لكن وعلى الرغم من التشابه الكبير الذي يجمع بين الفنانين، يستبعد الباحثون فرضية اطلاع مونك في أي وقت من الأوقات على تلك اللوحة للرسام فان جوخ. وسواء كان الأمر مجرد صدفة أم غير ذلك، فقد برزت صورة الجسر كأكثر ما يجمع بين اثنين من أشهر الفنانين على الإطلاق. ومن الممكن أنهما كانا في حاجة إلى إنشاء لغة تصويرية مختلفة تماماً، أو أنهما كانا يريدان مد هذا الجسر المباشر بينهما وبين المشاهد للوحات، خصوصاً وأنهما اكتشفا عجز الانطباعية عن تبليغ الرسالة بمفردها.