إن الحديث عن القصيدة العمودية، يقتضي، تلقائياً، استحضار تدافعها مع قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. بالأحرى تدافعٌ بين شعراء يكتبون وفق بنيات خطاب مختلفة وبإبدالات جمالية متنوعة، بين من يجدون الأصل في الإبدال أن يكون امرؤ القيس، جميل بن معمر، المتنبي، وحافظ إبراهيم... وبين من يعود إلى توماس سيتيرن إليوت، السياب، بودلير، حسب الشيخ جعفر، الغصن الذهبي للسير جيمس فرايزر، و(قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا) لسوزان بيرنار... وينجم عن اختيار نوع الإبدال الانضواء ضمن معسكر التراث أو معسكر الحداثة، أي أن تكون الكلاسيكية والنيو كلاسيكية في مواجهة تسونامي الحرية والخروج من جبة عبدالملك بن قريب الأصمعي (صاحب فحولة الشعراء)... ولكي تتسع الرؤيا لدينا، فإنه يكون علينا أن لا نؤطر النقاش حول وضعية القصيدة العمودية ضمن الحركيات الشعرية وتوجهاتها، والذي هو نقاش كان أظهرَ في أزمنة شعرية على الآخر، تلك الأزمنة التي وقفت عندها في الثقافة الشعرية العربية كتب من مثَل (الوساطة بين المتنبي وخصومه) للقاضي عبدالعزيز الجرجاني (ت 392هـ)، و(الموازنة بين الطائيين) للحسن بن بشر الآمدي (ت 370هـ). أو في زمن قريب هو بداية القرن العشرين حين كتب عباس محمود العقاد كتاب (الديوان) سنة 1921م، وكتب الشاعر المهجري ميخائيل نعيمة كتابه النقدي الذائع (الغربال) 1923م في محاولة للتحرش بعمود الشعر الذي كان يحرسه سدنة من أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وهما من كبار الشعراء النيو- الكلاسيكيين.
أقول لا بد من توسيع النقاش، ونحن نتحدث عن القصيدة العمودية، إلى نقاش أوسع يضع الشعر في مواجهة أجناس أخرى من قبيل الرواية التي صارت ديوان عرب جديد ينال أكبر قدر ممكن من مساحات الضوء والتلقي ويبدُّ شأو (علم العرب الذي لم يكن علم سواه)، إنها فن جماهيري في مقابل فن نخبوي يمثله الشعر. لكننا، طبعاً، إذا وضعنا الأدب والثقافة برمتها في ميزان الذوق العام، فإننا سنجدها أقل أهمية في المزاج العام من أغاني الفن الهابط الذي يمتح سطحيته من لغة الشارع والعوام، فأي قصيدة أو رواية الآن يمكنها أن تصل لهذا الكم من النقاش والاهتمام الذي تثيره أغاني هيفاء وهبي مثلاً؟!، إنها مشكلة بنية ثقافية معطوبة تحركها آليات فوق ثقافية.
وإننا حينما نريد تحديد مفهوم القصيدة العمودية، قد لا ننتبه، في الغالب، أن اصطلاح الشعر العمودي هو مقولة صنافية تحيل على خلفية نقدية أصّلها أبو علي المرزوقي (ت 421هـ)، من نتائجها أن نتمثل القصيدة العمودية مشدودة، أبداً، بوثاقي الوزن والقافية، ثم بدرجة أقل المعنى والتخييل. إذ في تصور البعض أن حضور الوزن والقافية عنصران كافيان ولازمان ليتحقق هذا التصنيف. لكن عمود الشعر الذي تنسب إليه القصيدة العمودية يضم سبعة أبواب ليس الوزن والقافية منها غير باب واحد لكننا نظرنا إليه بمرآة محدبة ضخمت من حجمه وأخفت عنا باقي الأبواب الستة الأخرى (شرف المعنى وصحته - جزالة اللفظ واستقامته - الإصابة في الوصف - المقاربة في التشبيه - التحام أجزاء النظم - مناسبة المستعار منه للمستعار له - مشاكلة اللفظ للمعنى). وينهي المرزوقي كلامه بالتأكيد على أن قدر سهمة الشاعر من هذه الأبواب يجعله إما شاعراً فحلاً مفلقاً، أو شعروراً في أدنى مراتب الشاعرية. لكن هل نحن حقاً بحاجة إى هذه المعايير في الحكم على شعرية النص وشاعرية صاحبه؟.
فما دلالة أن يجهد الشاعر الذي يكتب القصيدة العمودية الآن النفس في البحث عن المعنى العزيز والأصيل في غياب رؤيا شعرية تفتح أفق القصيدة على ممكنات واحتمالات الروح والوجود، أما المعاني فقد تكون مطروقة ومطروحة في الطريق كما قال عمرو بن بحر الجاحظ، لكن السر قد يكون في جودة السبك والصياغة التخييلية المنفتحة على آفاق غنية في بناء الصورة، ثم هل من الضروري أن تكون الألفاظ المنتقاة في القصيدة دائماً جزلة؟، وهل القارئ الآن، نخبوياً كان أم عادياً، مستعد بأن يختار له الشاعر، من مدونة لغوية شاسعة وثرية ومتطورة، ألفاظاً تكررت عند الشعراء الأوائل الفحول، ظناً أنها تصنع قوة القصيدة، فيبحث عن السمر، والعسجد، والأسقاط، المجْسد، الضب والورل، الأعذاق، الإغريض، والنشب... ويحشو بها نصه ليخيف القارئ بدل أن يستميل قلبه ويتملكه، مما يغرقه في رهان الفصاحة القتّال الذي يصير تفاصحاً مائعاً وممجوجاً، فيضيع البلاغة في الطريق، أليست البلاغة (إيراد المعنى في أبهى صورة من اللفظ)؟ وبهاء الصوغ لزاماً. إنه من العجيب أن نجد شاعراً يذهب إلى المعجم، وكل مناه أن يبحث عن لفظ يرجو منه فحولة لم تعد مطلوبة في الشعرية الحديثة. نعم، الشعرية الحديثة، فالشاعر الآن حين يكتب القصيدة وفق الأوزان الخليلية، أو حين يفك التفعيلة ويحررها والقافيةَ، أو يتخلى عنهما ويبئر على الإيقاع الداخلي، فهو ينتمي، بالقوة، إلى القصيدة الحديثة، زمناً ورؤيا. ومع هذا المعطى، لا يمكن أن أتفهم منه حرصه المبالغ على المقاربة في التشبيه، أي أن يقدم صورة قريبة من الواقع لا تجريد فيها ولا تحليق في الخيال، فمرجعه غني وثري حتى في تراثنا الشعري، إذ قد يكون المعري أو أبو تمام بدل عنترة أو امرئ القيس، أبو تمام الذي عابوا عليه يوماً تجريده فقال له ابن الأعرابي أو ابن العميثل في رواية أخرى (لماذا لا تقو ل ما يفهم؟).
إن على الشاعر، بغض النظر عن الشكل الشعري الذي ارتضاه في قصيدته، أن يصدر عن رؤيا تسمه، أي أن يكون له تصور عميق عن الكون والأشياء والأفضية، قد تكون رؤياه تموزية على شاكلة السياب أو أورفية كما حسب الشيخ جعفر، ومتشككة في كل شيء كنيتشه، أو جنونياً كفريدريتش هولدلرين، أو متعالية كالمتنبي. المهم أن يمتلك رؤيا متحررة، ويخرج من ربقة التقليد وخطل الاستعادة القاتلة. أن لا يسلم نفسه لسطوة الشكل، ويتحرر بالصور المركبة والثيمة الشعرية التي تكون مظانها متشظية في موضوعات متنوعة ولا ترتكن إلى أغراض بعضها قد يبدو تناوله كاريكاتورياً في زمننا، زمنِ الشدة الذي ليس شعرياً كما حلم به الشعراء الحقيقيون.