الأمل فطرة فطر الله الإنسان عليها، ولولا الأمل لامتنع الإنسان عن مواصلة الحياة ومواجهة مصائبها وشدائدها، ولسيطر اليأس على قلبه، وأصبح يحرص على الموت بدلاً من حرصه على الحياة، فالحياة بلا أمل حياة فارغة لا معنى لها، ولذلك قيل في الأمثال الشعبية (اليأس سلم القبر، والأمل نور الحياة).
والأمل طاقة أودعها الخالق -سبحانه- في قلوب البشر، لتدفعهم إلى تعمير الأرض، حيث يعد القاطرة التي تقود حركة الحياة وتدفعها للتقدم والارتقاء، وقد قال تعالى: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) (هود: 61) أي طلب منكم عمارتها، وفي هذا يقول الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة -نخلة صغيرة- فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها). رواه أحمد، وقد صدق أحد الحكماء حين قال: (لولا الأمل ما بنى بانٍ بنياناً، ولا غرس غارسٌ شجراً).
والأمل للحياة كالروح للجسد، فالتمسك بالأمل هو في حد ذاته تمسك بالحياة، فهو شريان الحياة، فما الذي يدفع الإنسان إلى الزواج؟ إنه أمله في السعادة وطلب الذرية وتكوين الأسرة، وما الذي يغري التاجر والعامل بالسفر والاغتراب؟ إنه أمله في الغنى والربح، وما الذي يدفع الطالب إلى الجد والاجتهاد والمثابرة والسهر والمذاكرة؟ إنه أمله في النجاح ونيل الدرجات العلمية العالية، وما الذي يدفع الزارع إلى حرث الأرض وبذر البذور وسقي الزرع؟. إنه أمله في الحصول على الثمار... إلخ.
والأمل خلق من أخلاق الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، فهو الذي جعلهم يواصلون دعوة أقوامهم إلى الله دون ملل أو كلل أو يأس أو ضجر، رغم ما كانوا يلاقونه من إيذاء وعنت ومشقة، فقد ظل نوح -عليه السلام- يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم ليلاً ونهاراً سراً وعلانية فرادى وجماعات دون ملل أو سأم، وحينما طارد فرعون وجنوده موسى -عليه السلام- وقومه، وظنوا أنه سيدركهم، وشعروا باليأس عندما صار أمامهم والبحر من ورائهم، فقالوا لموسى (إنا لمدركون) فرد عليهم نبي الله موسى في ثقة واطمئنان (قال كلا إن معي ربي سيهدين) (الشعراء 61 - 62).
ولنتذكر كيف رد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- على سيدنا جبريل -عليه السلام- يوم الطائف، حينما نزل عليه ملك الجبال قائلاً له: (يا محمد إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين)، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً).
ولما أمر بحفر الخندق عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذ المعول وحطمها بثلاث ضربات مع كل ضربة كان يكبر ويبشر ويولد الأمل بفتح فارس والروم واليمن، وقد تحقق ما بشرهم به بعد ذلك بسنوات ليست كثيرة. وقد فرح المنافقون بهذه الأخبار، وعقبوا عليها قائلين للصحابة الكرام: يعدكم محمد بفتح الشام واليمن وفارس وأحدكم لا يأمن على نفسه؟!.
حتى حياتهم الخاصة كانت مليئة بالأمل، فعلى الرغم مما أصاب نبي الله أيوب -عليه السلام- في نفسه وماله وولده، إلا أنه لم يجزع ولم ييأس ولم يفقد أمله في أن يرفع الله عنه الضر، فكان دائم الدعاء والابتهال إلى الله بقوله: (إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين). فلم يخيب الله أمله.
وإبراهيم الخليل -عليه السلام- وقد تجاوز الثمانين من عمره، ومع ذلك لم يفقد الأمل في وجود الولد، ومثله زكريا -عليه السلام-، ويعقوب -عليه السلام- عاش على الأمل بعد دعوى أبنائه فقدانهم يوسف، وأخذ الابن الثاني رهينة عند عزيز مصر، أرسل أبناءه في تجارة قائلاً لهم: (يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) (يوسف: 87).
والناظر في القرآن الكريم والسنة المطهرة.. يجد أن الأمل مقدم على اليأس، والرجاء مقدم على الخوف، والعفو مقدم على العقوبة، ولذلك يجب على الدعاة أن يفتحوا أمام الناس أبواب الأمل وينزعوا من قلوبهم اليأس والقنوط.
ينبغي على الدعاة أن يعطوا الناس الأمل في الحياة، ويذكرونهم بحديث الرسول الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم-: (خيركم من طال عمره وحسن عمله). كشف الخفا 1/461.
ويشجعونهم على التوبة، ويذكرونهم بسعة عفو الله تعالى، وقبوله توبة التائبين واستغفار المستغفرين القائل في كتابه (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) (الزمر: 53).
إن اليأس والقنوط ليسا من خلق المسلم، وكما قال الإمام علي -كرم الله وجهه-: (أكبر الكبائر: الأمن من مكر الله، واليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله)، فاليأس والقنوط في حياة الأفراد يؤدي إلى الانتحار، وفي حياة الشعوب يؤدي إلى الانفجار والدمار، وما تقدم مجتمع واستقر إلا بالأمل والعمل، وما شقي مجتمع إلا بالإهمال واليأس والكسل. فلنتمسك بالأمل، ولنقبل على الحياة، ولا ننظر إليها بمنظار أسود يرى فقط نصف الكوب الفارغ ولا يرى النصف الآخر المملوء.