مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

من ملامح الصناعــات الحـــرفـــية في الأحساء

 

لم يكن إعلان الأحساء هذا العام 2016م أوّل مدينة خليجيّة خلاقة، وثالث مدينة عربية (في قطاع الصناعات الحرفية) ضمن 47 مدينة عالمية، وفق مقرر منظمة اليونسكو؛ أمراً عابراً، فمن يرتاد أي مدينة من مدنها التاريخيّة أو المهرجانات التراثيّة التي تقام فيها على مدار العام، سيتلمّس عدداً من الملامح التي لا يمكن إلا الوقوف عليها بتأنٍ، منها:
- حالة الغنى الكيفي والكميّ في عدد الصّناعات الحرفيّة:
 فمن يتجوّل في أسواق الأحساء التاريخيّة، أو يزور جناحها في الفعاليات التراثيّة التي تقام في الأحساء وخارجها؛ فسيلاحظ كمّاً جيداً من المهن يندر أن يوجد بشكل متجاور إلا في الأحساء، فمثلاً تشارك الأحساء بقرابة أربعين مهنة في مهرجان التراث والثّقافة في الجنادرية، مثل النّجارة والصّفارة، الصياغة، البشوت والدرفش والحياكة، الخواصة والحدادة والمداد والدرفش والتلييف، الحباكة، الندافة، الغراشة، القياطين والتبطين، السراجة، الحبال والحلوى، الأسلحة البيضاء.. وغيرها. وهذا الأمر منطلق بالتأكيد من العمق التاريخي للمنطقة التي تعدّ واحدة من أقدم المستوطنات البشرية والتي لم يبارحها الاستيطان فتراكمت كلّ تلك الخبرات البشرية على هيئة مهن وصناعات.
- تتوزّع الصّناعات والمهن على أغلب جغرافيّة الأحساء، وإن كانت متركّزة بشكل أبرز في مدنها الرئيسة.
- تمتاز الأحساء بتفرّدها ببعض الصّناعات والمنتجات التي انطلقت منها إلى العالم ونسبت لها، فهناك البشت الحساوي والسّيف الحساوي والخنجر الحساوي والمرتعشة الحساويّة والدلّة الحساويّة.. وغيرها من المنتجات التي تفردّت بها، وفي نفس الوقت تلقّت صناعات من منتجات من خارجها، ولكنها لم تتركها دون أن تبصمها ببصمتها الخاصّة، وينفث فيها الحرفي الأحسائي من سحر الأحساء ليوائمها، فصنع الصائغ الحساويّ مثلاً الخناجر الأخرى كالجنوبية والعمانيّة مضافاً للخنجر الحساوي، كما أبدع في صنع القلائد البغداديّة، وصنع النجار الأحسائي الأبواب البغداديّة الخشبية بإتقان مما يعكس حالة من الديناميكيّة في ذهنية الحرفيّ فيرسل ويستقبل ويوائم.
- وجود حالة التخصّص الدّقيق في أغلب المهن: وهذا منطلق من الأمر السابق، حيث أفرزت حالة الثّراء في المنتج، حالة اختصاص بإنتاج صنف أو صنفين داخل المهنة الواحدة، بل أكثر من ذلك قد يختصّ الحرفي بجزء من منتج واحد كما في حالة البشوت.
- ابتكار فكرة (خطّ الإنتاج): حيث أنّ بعض المنتجات تمرّ عبر مراحل كالبشوت مثلاً، الذي يمرّ بخمس مراحل، يختصّ كل مخيّط بأداء مرحلة، وهذا طبعاً ينمّ عن حالة فطنة تراكميّة بحيث يبدع كلّ مخيّط في المرحلّة التي ينفذها ليحصل المنتج النهائي على حالة فائقة من التميّز.
- الأسرة المنتجة: حيث هذا الملمح هو السائد في الأحساء، بحيث تكون الأسرة الواحدة من رجال ونساء متضامنين في الإنتاج ويتقاسمونه ، وكان من المألوف قديماً أنّ هناك ركناً للإنتاج في كلّ بيت حتى لمن يمتلك دكّاناً في خارجه، حيث ينشأ الابن والابنة وعيناهما تراقبان مراحل الإنتاج منذ نعومة أظافرهما ويتشربان أسرارها ومهاراتها.
- لكلّ مهنة وصناعة مجموعة من القيم والمعايير والأخلاقيات والأسرار والتقنيات يحافظ عليها أرباب المهنة، ويحرصون عليها سواء في مستويات الجودة وتصنيفها أو في أخلاقيات التعامل بينهم وأصولها.
- الاهتمام بالجانب الجمالي في المنتجات التي يصنعها، فلا يرضي الحرفي في الأحساء، أن يقوم بصناعة دون أن تكون جميلة، وفق النسب التي وضع أسلافه قواعدها الجمالية والتي تمتاز بالاتساق، وتميّزها العين الذوّاقة للملامح الفنيّة، وسيكون واضحا جداّ، لمن لاحظ ذلك في النقوش الجصّيّة والنقوش على الأبواب الخشبيّة والانتقاء الدقيق لمنتجات الصّياغة وتعاليق الرّقبة والرأس للمرأة، ونزولاً لسفرة الطعام الخوصيّة التي يعسر على مستخدمها معرفة وجهها من قفاها لأنّ جميع العيوب أخفيت فلا يشعر المستخدم إلا بتماسكها ومتانتها وجمالها.
- تكاثر الصناعات المرتبطة بحالة الرّفاه: والتي أتاحها الرّفاه الذي كانت تعيشه الأحساء في أغلب حقبها، حيث كانت تكرع من أنهارها المتدفقة ويبدع صناعها في إنتاج الصناعات، فصناعات مثل الصيّاغة والتي اشتهر الأحسائيون أنهم (لم يدعوا موضعاً في جسد المرأة إلا وخصّصوا له نوعاً أو أكثر من المصاغات).
- المرونة في التنقّل بين المهن ذات السمات الفكرية المشتركة: دائماً ما يحدث لمهنة من المهن حالات من التأرجح بين الرواج والانتكاس الأمر الذي يجعل ممتهنها يغير نشاطه بما يمكنه من كسب رزقه، وهذا الأمر مضطرد ومتعارف عليه منذ القدم في الأحساء، وفق توافقات اجتماعية، فمثلاً عند خبوّ نجم الحياكة يتجه أربابها للبناء، والعكس، وعند خبوّ نجم الصياغة يتجه أربابها لخياطة البشوت، وفقاً لإمكانيات السوق.
- ارتفاع قيمة الاعتزاز بالحرفة داخل الأحساء، ومن يعش في الأحساء سوف يلاحظ هذا الأمر جليّاً. ومن خلال متابعتي في نشاط التّوثيق التراثي، لمست ذلك من خلال مقابلاتي العديدة من الكثير من أرباب الصناعات، الذين كانوا يعرضون عليّ منتجاتهم بحالة من الافتخار والاعتزاز، وهذا الأمر انسحب على حالة التمدنّ والتحضر، حتى انسحبت العصبيّة التي يعرفها ابن الصحراء لقبيلته، يقابلها ابن الأحساء بمهنته، فأصبحت الحرفة هويّة أخرى يتفيأ بها أبناؤها.
- وفرة المهنيين عبر تاريخ الأحساء، تعامل معها الأحسائيون بشكل طبيعي وفق مبادئ السوق، فتنقلوا في أغلب محيطهم الإقليمي، وبالتالي نقلوا عبر الهجرة صناعاتهم وشكّلوا مجتمعات مهنيّة في أماكن السكنى الجديدة دون انقطاع عن جذورهم، فمن يتابعهم، يجدهم في البحرين والكويت وقطر والإمارات وعمان وجنوب العراق والمناطق العربية في إيران وزنجبار، وغيرها.
 لقد كانت منتوجات تلك الحرف المميزة من أهم بواعث أن تقصد الأحساء للتبضّع. ذكر لي الوالد -حفظه الله- وكثير من الآباء أن أسواق القيصرية وسوق الذهب، وسوق الحداديد وأسواق الخميس، وغيرها من أسواق الأحساء التاريخية؛ كانت مشهداً مختلطاً من الأزياء يتماوج فيه لابسو العقال بلابسي العصابة والعمامة البدوية وثياب الشلحات والأوزر الجنوبية في مشهد بديع لقاصدي أسواق الأحساء.

 

ذو صلة