مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

الأحساء.. طبقٌ من نخيل

 

بوصفي أحسائياً، أرى أنَّ للأحساء سرَّها الذي لا يتجلَّى إلاَّ في مرآةِ إنسانهـا المتمسّكِ بالأرض تمسكاً وجودياً مشدوداً من شرايينه إلى كلِّ حبّةِ رمل، حيث إنّ الأحساء تتجاوز خارطتها الجغرافية الضيقة إلى خارطتها الأوسع في قلب ذلك الإنسان الذي يراهن أكثر ما يراهن على بقاء الذاكرة الهجريّة قويّة لأنَّ أخطرَ موتٍ في الحياة هو موت الذاكرة الوطنيّة عند الشعوب.
(أحساءُ).. كم مَرَّةً أنجبتِني؟ فأنا
نسيتُ من كثرةِ الميلادِ: كم عَددي!
لم تنعقدْ فيكِ أمشاجٌ بــمكرمةٍ
إلا وناديتُ أمشاجي: بها انعقدي!
كأنَّني منذُ فجرِ الطلقِ في (هَجَرٍ)
أُدعَى لأُولَدَ إذْ تُدعَينَ كي تَلِدي!
أنا روايةُ هذي الأرضِ..ما سلمتْ
في روعة النصِّ من سكِّينِ مُنتَقِدِ!
بَقِيَتِ الأحساء تستيقظُ على وقع أقدام الفجر فترى الطبيعة بانتظارها في كلّ مكان.. تسمع نداءَ الليمون وصراخ عرائش الكروم وصيحات أزهار الرمَّان.. تسمعهـا جميعاً تتضرّع حالمةً بالرضاع، فتدير على صدرها ساقيتينِ من خِصْبٍ وحبّ حتّى تتدفّق المواسـم بأنهار الألق وترفرف من عباءة الورد حمائم العبق. فجـأةً .. ينرسمُ على لوحـة المشهـد ذلك التنِّينُ الحضـاريُّ المسمَّى مجازاً بالنفط.. والمدجَّج بأذرعةٍ خُرافيَّةٍ أَخـَذَتْ تزرع الأشجار بالمقلوب حتّى اختنقت هسهساتُ الأفنان في حضن المروج وفَرَّتِ العصافيرُ مـن مواطنها حينما داهمتهـا المداخنُ بسحاباتٍ من الأوهام العصريَّة.
(الحسا) طَبَقٌ من نخيلْ
(الحسا) معولٌ خَطَبَ الأرضَ
من يدِ أسلافِنا الأوَّلينَ
وما زال يُولِدُها النبعَ والزرعَ جيلاً فـجيلْ!
(الحسا) ملفعٌ من ملافعِ أُمِّي
يتوهَّج فيه الحنانُ الأصيلْ
(الحسا) امرأةٌ ملؤُ عرشِ العفافِ..
بتولُ المضاجعِ.. مثقلةٌ بالضفائرِ..
دافئةٌ كالهديلْ
(الحسا)
فتنةُ (الدَّيْرَمِ) الغضِّ
يضحك فوق شفاه النساءِ
و(عِلكُ اللبانِ)
يغازلُ أسنانَهُنَّ بعطر البياضِ
و(ريحةُ مشمومِهِنَّ)
تعيد الرجالَ من الحقلِ قبل أوان الأصيلْ
(الحسا) كلُّ هذا الخليط الجميلْ!
دائماً ما تبدو لي الأحساءُ في حالةٍ من الخشوع واقفةً في حَرَمِ الجذور تمارسُ طقوسَ الحُلْمِ بالعودة إلى الحقل، وتنتظر عودة الفلاَّحين الذين ترتفع قاماتُهم بطول الأشجار.. وتمتدُّ أذرعتهم بطول أذرعة الينابيع.. وتعبق أنفاسهم برائحة العشب والندى والمطر.  أمَّا أنا فلا بدُّ أن أعترف أنَّني حينما أكتب عن الأحساء، لا أستطيع الانفلات من أحاسيسي القرويَّة، فالأحساء بالنسبة لي ليست سوى سربٍ من القُرى مسافرٍ باتجاه المدنيَّة وآمَلُ له ألاَّ يَصِلَ أبداً.
أُسَمِّيكِ أُمِّي كي أُوَفِّـي لَكِ الاِسْمَا
فبينكُما في نطفتي وحدةٌ عُظْمَى
أُسَمِّيكِ أُمِّي.. والأمومةُ موطنٌ..
بمقدارِ ما (ننمو) عليهِ لهُ (نُنْمَى)!
أُحِبُّكِ يا (أحساءُ) في كلِّ كِسْـَرةٍ
من الطينِ شَعَّتْ في يدي قَمَراً تَـمَّا
أُحِبُّكِ يا (أحساءُ) في كلِّ نظرةٍ
إلى الحقلِ صَلَّتْ بـي إماماً ومُؤْتَـمَّا
وصدري الذي لو ضَمَّ كلَّ جميلةٍ
تَظَلُّ جذوعُ النخلِ أجملَ ما ضَمَّا
أحبُّكِ حَدَّ الشِّعْرِ.. والشِّعْرُ قاتلـي..
أُحِبُّكِ.. رمياً بالقصائدِ أو رَجْـمَا!
سأُودِعُ في كفِّ الليالـي وصيَّـةً
وأنقشُها في وجهِ هذا المدَى وَشْمَا:
إذا مُتُّ.. و(الأحساءُ) في عِزِّ بَرْدِها..
فدُسُّوا رفاتـي في مواقدِها فَحْمَا

 

ذو صلة