سعت مكة المكرمة لأن تكون مدينة خارجة عن منافسة المدن الأخرى، في كل الميادين؛ وذلك بما حباها الله من الخصائص والسمات التي ميزها الله بها عن سائر مدن المعمورة.
وموسوعة «ثقافة المجتمع المكي خلال نحو قرن ونصف القرن 1300 – 1436هـ» التي صدرت قبل أشهر قليلة لمؤلفها الدكتور إسماعيل بن السيد خليل كتبخانة؛ حملت في أجزائها التسعة كل ما يتوقعه المتلقي، وكل ما يصبو إليه القارئ؛ ذلك أن المؤلف - وهو ابن مكة المكرمة- قد استغرق في إنجازها قرابة العقد ونصف العقد، مضت عليه بين تجميع وإعداد وبحث ومقابلات مع كبار السن وتبويب وتصوير ورحلات ورجوع إلى صحف ومجلات قديمة، حتى يخرج لعشاق أم القرى هذا السفر الضخم الذي يليق بقبلة العالم ومأوى الأفئدة. يقول المؤلف كتبخانة في مطلع مقدمته: تتناول الموسوعة في مجلداتها التسعة ثقافة مكة المكرمة في بعديها المادي والمعنوي، تلك الثقافة التي تمثل أسلوب مجمل حياتها وتراثها الاجتماعي المتفرد والنابع أساساً من العقيدة الإسلامية الصحيحة.
ولا غرابه ولا عجب أن تحظى هذه الموسوعة بعدد من المقدمات التي تشيد بحسن هذا الإنجاز وتماسكه وأهميته، فهذا الوزير الأديب عبدالعزيز الخويطر – رحمه الله - يقول عنها: إن هذا العمل سوف يكون مرجعاً لمن أراد أن يعرف عن مكة أي معلومات جادة ومحققة وموثقة، لا يحتاج القارئ مع هذه الحصيلة المباركة – إن شاء الله – إلى مزيد من المعلومات أو المراجع، في حين يصفها العالم الإسلامي عبدالله بن بيه، أنها وثيقة تاريخية واجتماعية تحوى الجمل والتفاصيل، بل لوحة زاهية ذات ألوان وتهاويل عن مكة المكرمة، وهو بذلك يبرهن على أن علم الاجتماع الذي ولد في حضن التاريخ، يمكن أن يعود إليه من جديد.
أما العالم الجليل الشيخ صالح الحصين – رحمه الله – فيثني على الموسوعة قائلاً: إن من يطلع على هذا الثبت ليدرك مدى رتبة هذا العمل المبارك بين الأعمال العلمية، ويدرك مدى الشمول والإحاطة والجهد الجاهد الذي بذل فيه.
والجميل في هذه الموسوعة أنها كانت في أساسها مشروع. وما يعطي هذا المنجز الموسوعي الصفة العلمية والجهد البحثي؛ أن مؤلفه حصل به بوصفه مشروعاً على منحة الملك سلمان بن عبدالعزيز – يحفظه الله – وذلك عن دراسات وتاريخ الجزيرة العربية.
أما فصول الموسوعة التي بلغت خمسة وخمسين فصلاً فقد نهضت على عنصرين أساسيين من الثقافة، أولاهما: العنصر المادي من الثقافة؛ وآخرهما: العنصر غير المادي من الثقافة، ويقصد به المعنوي. أما إذا تأملنا صفحات هذه الموسوعة التي تقترب من (3000) صفحة؛ فإننا نجد أن المؤلف يقدم مدخلاً موسعاً عن الثقافة ومفاهيمها الأساسية وعناصرها وتنوعها وتباينها بين المجتمعات الإنسانية، وكذلك الثقافة وموقعها من ثورة المعلومات ودور الاتصال الثقافي وأثره على الثقافة المحلية، بل موقف المجتمع من الثقافات الأخرى، ثم يمضي كتبخانة ليبرز دور مكة المكرمة من حيث موقعها وأهمية هذا الموقع داعماً هذه الأهمية بقصائد تغنى بها الشعراء عن مكة المكرمة، كما يدون فضائلها وخصائصها وأسماءها المتعددة، ثم يوضح حدود هذه المدينة المقدسة، وحدود الحرم الشريف، فيظهر لك جوانب من تضاريسها وما تضمه من جبال وأودية، وكذلك مناخها الحار، واتجاه الرياح فيها، ويتوقف المؤلف عند سكان مكة الذين امتازوا بتمازجهم الثقافي، ودور بعضهم في الحياة العلمية، ويحدد أصول من سكنها واتخذها مقاماً له من كل أقطار العالم، ومن ظهر منهم من العلماء والقضاة والمعلمين والأدباء والصحفيين. ثم يسلط الضوء على تطور مكة العمراني ونموها في العهد السعودي الذي يعد مظهراً من مظاهر الرقي المادي، كما يطيل النظر حين يكتب عن المسجد الحرام، مبيناً مكانته ومعالمه الرئيسة، والتوسعات التي شهدها عبر العصور، وإضاءته ومآذنه والأئمة والمؤذنين والأغوات وإدارته، حتى إنه لم يغفل حَمامَه، كما يلم بمساجدها التاريخية التي لها حضور في التاريخ الإسلامي. ثم يتقصى مؤلف الموسوعة انطباعات الرحالة الذين دونوا رحلاتهم إلى البيت العتيق، وذكرهم للمشاعر المقدسة، كما يعرج إلى حارات مكة القديمة، ويدون انطباعات سكانها، مع ذكر للبرحات وأسماء بعض العوائل المكية القديمة، ويبرز الدور الذي يلعبه العمدة بين سكان الحارة، ويذكر صفات ولد الحارة الأصيل وصفاته. أما البيت المكي التقليدي والحديث، فيصفه وصفاً دقيقاً، وما يضمه من حجرات ورواشن، وكيفية بنائه، وأهم الخامات المستخدمة في البناء التقليدي، مع ذكر أشهر البنائين له. ولمكة مبانٍ تاريخية أثرية عريقة تتزين بها أمام عشاق التراث، منها مكتبة مكة المكرمة، وهي المكان الذي شهد مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبيت السيدة خديجة بنت خويلد، ودار الأرقم ابن أبي الأرقم، ودار الندوة. أما حديثاً فيوجد الحميدية والتكية المصرية والقشلة وقلعة أجياد وقصر السقاف. لكن مكة عرفت منذ أزمان بعيدة أنها مركزاً تجارياً كبيراً، تمر به القوافل، وهو ما جعل الباحث كتبخانة يتقصى هذا الأمر، فكتب عن أسواقها العتيقة، وتنظيمها، وكيفية الإشراف عليها، والسلع المجلوبة لها، وما يمكن أن تقدمه هذه الأسواق لضيوف الرحمن. ثم عرج إلى الغرفة التجارية الصناعية بمكة المكرمة، وهدف إنشائها، ودورها الفاعل في تنشيط حركة الاقتصاد، مع ذكر أبرز رؤسائها. والحديث عن التجارة يسوقنا إلى المهن والحرف التي عرفتها مكة المكرمة كالطب الشعبي والعطارة والخراطة والحدادة والدباغة والخياطة وصناعة الفخار والتنجيد والتطريز والسبحية والزمازمة، وحين يتتبع المؤلف مهنة الطوافة، وهي من أهم المهن في العاصمة المقدسة؛ يفرد فصلاً كاملاً، يبين من خلاله أهدافها، وتنظيم وزارة الحج لها، والنظام الذي قامت عليه الطوافة، مع ذكر مؤسسات الطوافة جميعها، وما يتعلق بهذه المهنة كمكتب الزمازمة ومكتب الوكلاء الموحد.. وغير ذلك. ولم يفت صاحب الموسوعة ذكر الملابس التقليدية والحديثة للجنسين التي عرفها المكيون كملابس العلماء وملابس التجار وملابس الأطفال والملابس التي ترتدى عند النوم، ثم فصّل تفصيلاً دقيقاً عن مكونات ملابس المرأة والخامات التي تصنع منها. ولأن مكة المكرمة اشتهرت بمطابخها المتعددة المذاقات؛ لذلك نجد أن الموسوعة توقفت عندها طويلاً، وقد ذكر المؤلف أنواعها وأصنافها ومكوناتها وطريقة إعدادها، وهي في أصلها مأكولات لشعوب متعددة استقر بها المقام بمنزل الوحي. أما الألعاب الشعبية الشائعة بمكة فهي كثيرة جداً، كان يتمتع بها الطفل المكي قديماً، وتمارس في البيوت أو الشوارع أو في البرحات، وأثناء الخروج للمنتزهات، وهي كفيلة بأن تمنح الطفل والفتى وقتاً طويلاً من الترفيه. ولمكة المكرمة جملة من العادات والاحتفالات التي تمارس في مناسبات مختلفة كمظاهر الاحتفال في رمضان، وما يحمله من طقوس، وكذلك الاحتفال بالعيدين، إضافة إلى الاحتفال بالمولود الجديد، ومظاهر الاحتفال بالزواج، منذ فترة الخطوبة مروراً بعقد النكاح إلى ليلة الزفاف. كذلك العادات المكية التي تمارسها الأسرة في بيتها، ثم يبرز المؤلف كتبخانة طائفة من الأخلاق المكية التي يتحلى بها المكيون. أما التعليم فقد ارتبط بمكة والتصق بها منذ قرون طويلة، كيف لا، وبين جبالها ووهادها نزلت كلمة (اقرأ)؟ لذلك كانت مكة ومازالت مسقط العلم ومركز المعرفة المشع بالنور، حيث تابع في فصل التعليم بداية التعليم التقليدي، سواء كان في أروقة الحرم الشريف أم في الكتاتيب، ثم في بداية التعليم النظامي أو ما يعرف بـ(المدرسة) من أهلي وحكومي، ونمو محاضن التعليم، وتصاعد حركتها، حتى وصلت إلى الكليات، وما تضمه من أقسام، حتى مرحلة إنشاء جامعة أم القرى، ودورها في نشر التعليم الأكاديمي المقنن والممنهج، ودورها في خدمة مجتمعها. وقريباً من التعليم يصل كاتب الموسوعة إلى دور المكتبات في مكة المكرمة، وهي مكتبات عريقة قدمت دوراً بارزاً في نشر المعرفة، ومن أشهرها مكتبة الحرم المكي ومكتبة جامعة أم القرى ومكتبة نادي مكة الثقافي الأدبي والمكتبة العامة، إلى جانب المكتبات الخاصة التي يعتني بها أصحابها من العلماء والأدباء. كما يبرز كتبخانة الدور الذي يلعبه الوراقون ومكتباتهم التجارية، ولاسيما الواقعة بجوار باب السلام. ثم يتحدث عن الإذاعة السعودية، ليمضي بعد ذلك إلى الصحافة ودخولها مكة قبل العهد السعودي، ومسيرتها وتطورها في العهد السعودي، من صحف عريقة ومجلات قديمة، وعن الأندية بنوعيها الثقافي والرياضي؛ فيكشف عن جهود نادي مكة الثقافي الأدبي، وما يقدمه من رسالة ثقافية وأدبية مهمة، وذلك عبر منبره أو مطبوعاته، في حين يأتي نادي الوحدة الرياضي العريق ليحتوي على الأنشطة الرياضية ، وتمضي الموسوعة مسلطة الأضواء على مراكز البحث العلمي التي تضمها مكة لاسيما معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والعمرة، ومركز التميز في أبحاث الحج، ومركز فقيه للأبحاث والتطوير، إضافة إلى الأبحاث والكتب التي رصدت تاريخ مكة من كل جوانبه. هذا وقد احتوت أم القرى جملة من المؤتمرات المهمة، منها الدولية والإقليمية والمحلية، ومنها السياسي ومنها الاقتصادي ومنها الأدبي ومنها ما خصص عن الحج.
وللأدب والأمثال والفنون الشعبية حضور كبير في مكة، حيث منها انطلق الأدب الحديث، على يد رواد الأدب الحديث الذين غصت بهم مكة، واشتهروا من خلال نتاجهم الثقافي من شعر وقصص ونقد ومقالة، وهم يمثلون عدداً كبيراً من أدباء المملكة، وإذا ما تذكرنا الفنون الشعبية عرفنا أن مكة تضم ألواناً متنوعة من هذه الفنون التي وقف عندها الباحث كتبخانة، ومنها المجس وكيفية أدائه، والمزمار وطريقة لعبه، والغناء بأنواعه. وقد ذكر مع كل فن رجالاته الذين عرفوا من خلاله.
وتفرد الموسوعة في جزء منها التنظيمات بأنواعها كلها الحكومي والأهلي والخيري، ومدى تطورها، ومن ذلك إمارة مكة وتطورها التاريخي، وأبرز حكامها وأمرائها، إلى جانب تنظيم القضاء فيها، من حيث استقلال القضاء ومصادره ومؤسساته وتطوره، وذكر أبرز القضاة الذين تقلدوا رئاسة المحاكم الشرعية فيها، كما يعرج المؤلف إلى تنظيم وتطور مجلس الشورى ومكونات نظامه، أما التنظيمات البلدية فقد عرفتها مكة منذ عقود طويلة، موضحاً مهمتها وهيكلها التنظيمي، وكذلك المجلس البلدي.
ويواصل الباحث حديثه عن ثقافة المجتمع المكي، فيورد النظام الأمني وتأسيسه ومهامه، ودوره الكبير في موسم الحج، ومن التنظيمات كذلك القطاع النقدي والمصرفي والمالي، مع ذكر لنشأة وزارة المالية، ثم ينتقل بعدها إلى تنظيم قطاع النقل والمواصلات، ويبرز وسائل النقل القديمة التي كانت تقوم على الدواب، ويعرج إلى الركب المكي وطرقه الموصلة للمدينة المنورة، ثم يبين الطرق الحديثة، وشبكات المواصلات ممثلة في شق الطرق وتزفيتها وفتح الأنفاق وإشادة الجسور، ويمضي الباحث ليوثق عدداً من التنظيمات كوزارة الخارجية ورابطة العالم الإسلامي ومنجزاتها، وكذلك الكهرباء والمياه ومشروع تحلية مياه البحر من مركز الشعيبة، ولم يفت الدكتور كتبخانة رصد العمل الخيري في مكة، مع ذكر الجمعيات الخيرية والإنسانية التي تقدم أدواراً مهمة تجاه المجتمع وتجاه الأربطة كذلك.
هذا وقد أفرد الباحث الدكتور إسماعيل كتبخانة جزءاً خاصاً، وهو الجزء التاسع الذي أعده معجماً مفهرساً للمصطلحات والمفردات التي نهضت عليها الموسوعة، حيث فسر وأوضح كل كلمة حوتها الموسوعة باستفاضة مدعمة بالصور والرسومات حتى يصل المعنى إلى ذهن المتلقي، وإذا تأملت المراجع التي عاد إليها صاحب الموسوعة، فإنك ستجد حشداً كبيراً من المراجع والمصادر استفادت منها الموسوعة باللغتين العربية والإنجليزية، إلى جانب عدد من المواقع الإلكترونية، على الشبكة العنكبوتية.
وجملة القول أن هذه الموسوعة قد ألمت بكافة ما يتعلق بأم القرى من كافة جوانبها، وأحاطت بكل ما يمت بصلة لمهبط الوحي، وحملت ثراءً واسعاً من المعلومات والمعارف المتعلقة بالبلد الأمين، فلا مشاحة أن يمنح مصنفها الباحث الثبت الدكتور إسماعيل كتبخانة جائزة معرض الرياض الدولي للكتاب، لهذا العام تقديراً لهذا المنجز المهم، ودعماً لحركة التأليف والبحث العلمي في بلادنا.