باهتةٌ كجدران الحجرة، كسريرها وستائرها وحذائها المهترئ، ككل شيء ملقى حولها كانت ملقاة أيضاً بلا حراك وبلا أي محاولة للحراك حتّى، حينما طرق الباب كإجراء شكليّ لا أكثر دخلَ وهو عالمٌ بأنه لا داعي لانتظار الإذن منها، اقترب من النافذة ليزيح الستائر عن أشعة الشمس حتى ترافقه في مكانه، وكأنما يحتاج لمن يرافقه في كل مرة يكون بها أمامها! التفت نحوها ابتسم وجلس أمام سريرها، لم تنظر إليه إنما اكتفت برفع جسدها قليلاً كردّة فعل على مجيئه، تنحنح قبل سؤاله المعتاد:
- وكيف أنتِ اليوم؟
- أأخبرتهم برغبتي الخروج من هنا؟
- نعم فعلت.
صمتَ لثوانٍ ثم أردف: لا يمكنك!
صمتٌ آخر قبل أن يضيف: أعني ليس الآن، ليس بعد!
كان التوتر قد صاحب صوته بينما السكون ظلّ مهيمناً عليها، ولم يرحل الصمت بعد!
دقائق لتنظر إليه.. أخيراً ابتسمت وقالت:
- لمَ تنظر إلي هكذا؟! وبمَ تفكّر؟ أو!! إلامَ تنظر تحديداً؟! أإلى جلدي الأجعد؟! ليس هو الذي اعتدتَّ عليه سابقاً أليس كذلك؟! أم إلى تلك الدهون التي دعوتُ كثيراً لأتخلّص منها قبل أن تتخلّصَ منّي!!
ضحكت بوهن ثم أردفت: انظر!! ها أنا بلا دهوني.. ولربما هي من اختارت الرحيل حينما أيقنت أنه لا فائدة من البقاء في جسد راحل قريباً كجسدي!!
- كفى، اصمتي!!
ضحكت ثانية قائلة: أم أنك تنظر لعينيّ اللتين باتتا كما عينا السمكة!! فأين تلك الشعيرات من حولها!!
- كلّا، عيناكِ كما عينا القطة.. جميلة!
- وأنت؟!
- ماذا بي؟
- كأي شيء عيناك حين تصبران على النظر إلي؟!
- عيناي كمرآتك، تحكي لك الواقع!
ضحكت وأبعدت وجهها عنه، كانت تسعى لإخفاء خليط مشاعر الضعف والأسى مع قليل الخجل أيضاً، قالت بعد دقائق:
- أتعلم، سمعت بالتلفاز أحدهم يسأل آخر ما الذي بعد الموت!! أجبني أنت أولاً ماالذي بعده؟!
- كفى أرجوكِ!!
- ألا ينتابك الفضول لمعرفة ذلك! أتدري بماذا أجابه؟!
- لا، لا ينتابني الفضول، لا ينتابني سوى الرغبة في الصراخ حتى تصمتي!!
تابعت حديثها وكأنما لا تسمع أحداً سوى صوت عقلها العاجز:
- لقد قال له أنا لا أعلم ما بعده، ولكن سأخبرك بما ليس بعده، بما يموت بعد الموت، الحزن والقهر وحتى الظلم والفقر، لا ألم بعده ولا مرض حتّى!! فما الحاجة إذاً لعلاج مرّ يقضي على حواسك وينهيها!! كان جوابه يخبرني بأن للموت جمالاً أيضاً، لكن!! لمَ لا أريد الموت رغم ذلك!!
عيناها الخائفتان كانتا تبحثان بتضرّع عن شيء ضائع في وجهه حتى قاطعها:
- اللعنة على التلفاز!! أخبرتك بأنك لن تموتي قبل موتي!!
غضبه وصراخه كانا كفيلان بإراحتها، قالت بعد ما رأته يحاول إلمام نفسه مجدداً:
- وهل للغضب والصراخ أن يزيلا الخوف عن نفسي بدلاً من إدخاله عليّ!! كم هذه الحياة غريبة!! لا شيء بات يسير كما يجب أن يكون!
- أوه!! نعم صحيح!! ولهذا جعلتِ الموت مقدساً قبل دقائق!! لن تموتي حتى وإن التهمكِ المرض!
- أتثق بنفسك إلى هذه الدرجة؟!!
- لا، أنا لا أثق بنفسي، إنما بكِ!! فها أنتِ حيّة أمامي من بعد ما التهمتك النار!! كيف إذاً بمرض!!
- وها هي عيناك تزلّان بما تراه بي! وتذكّراني بأنّي مشوهة!
- لا بل تذكرانك بأنك قطّة! فلا تخشي الموت إذا لم يحن وقته بعد!!
ضحكت عالياً وبصخب أصمّ سمعه عن طرقات الباب المتتالية قبل أن تدخل سيدة كبيرة السن تمشي بصعوبة نحو مكان جلوسه قبّلت جبينه وجلست بجواره بعد أن غطّت ركبتيه المرتجفتين وكفيّه الباردتين بشالها البنّي، قالت له بتودّد:
- ما الذي أتى بكَ يا مرآتي إلى هذه الحجرة؟! ولوحدك؟!
ابتسم ليحرّك تجاعيد وجهه الساكنة عن مكانها قائلاً:
- لستُ وحدي!! فهاأنذَا والشمس وعيناكِ هنا، من جديد!!