مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

فطر

 

انتصف النهار ولم يعد عدنان بعد من رحلته للبحث عن الفطر، فبالأمس أضاء البرق كل الدنيا، ولم يتوقف طوال الليل، ولم يتوقف صوت الرعد الذي كان يهزّ أركان الغرفة التي يعيش بها عدنان مع زوجته انتصار التي تساءلت وهي تتغطى إلى ما فوق رأسها، وتنحشر في حضن عدنان بأن هذه الكمية الهائلة من الضوء المنبعث من البرق كافية لإنارة بيتها لسنوات لو تسنى لها بطريقة علمية ما جمعها ومن ثم إنفاقها عند الضرورة وبشكل أكثر حكمة، ولكن كيف لها أن تفعل ذلك وهي التي تخاف من البرق وترتعد أوصالها رعباً، وتستغرب من عدنان الذي بدا لها وعلائم الارتياح تظهرُ على وجهه وكأن أملاً بشيء ما قد بدأ يبرق في عينيه، أما الرعد فكان قبلة مفاجئة طبعها على شفتيها وقال لها:
(غداً صباحاً مع شروق الشمس سأسري للبحث عن الفطر وسيكون غداؤنا شهيّاً).
شعرتْ انتصار بالسرور لأنها أخيراً ستجد في بيتها ما تطبخه، بعد أن نشف قلبها هي وعدنان من أكل الزيت والزعتر لثلاثة أيامٍ على التوالي، ولكن ما أمتعها أكثر كانت تلك القبلة المفاجئة التي حصلت عليها في حمى خوفها من البرق لأن مزيج الحب والرعب له طعمٌ نادر يشبه طعم الشوكولا السوداء مع فنجان القهوة والتي تذوقتها في إحدى المرات في بيت صديقتها سوزان زوجة صالح مهرّب الأسلحة.
(لقد تأخر عدنان)
قالت انتصار هذه الكلمات بقلقٍ عندما نظرت إلى الساعة التي تشير إلى الثانية عشرة والنصف ظهراً، وكان لقلقها ما يبرره لأن عدنان كان قد خرج من البيت في الصباح الباكر قبل سبع أو ثماني ساعات.
(من طوّل جاب الغنايم)
واست انتصار نفسها بهذا التبرير، وتمنّت من قلبها أن يكون عدنان قد عثر على الكثير من الفطر، وعندها ستتمكن من طبخ كمية تكفي للغداء وللعشاء أيضاً، ومن يدري ربما كانت هناك كمية أكبر من الفطر لعلّها تطعمها لجارتها سميرة التي استقرضت من عندها كأساً من الزيت لتطبخ به الفطر مع البصل.
(تأخر عدنان)
فركت انتصار أصابعها بقلق ومشت في الغرفة، ودارت حول نفسها دورتين، ثم قررت أن تشغل نفسها، فأخذت بصلتين كبيرتين وبدأت بتقطيعهما قطعاً صغيرة.
(يا ربي..)
تنهدت انتصار وفركت عيناها بطرف كمّها وتابعت عملها، ودموعها تنهمر، فتقطيع البصل مناسبةٌ جيدةٌ للبكاء، تستطيع بها المرأة أن تبكي دون أن يزعجها أحد ويسألها: لماذا تبكين؟
(لو أنه يعود فقط ولا أريد أن آكل الفطر)
قالت انتصار هذه الكلمة، وقد استبد بها القلق على عدنان، ولم تكن تعلم ماهية الدموع التي تجري على خدها، هل هي دموع الخوف أم دموع البصل.
(انتصار)
سمعت انتصار صوته يناديها من باب البيت، فتركت عملها وركضت لملاقاة عدنان الذي لم يكن يحمل شيئاً بيديه، وهي لم تسأله، وهو لم ينتظرها لتسأل، ولكنه افترض سؤالاً ما، وجاوب عليه وحده:
(على ما يبدو أن الأرض هذه السنة لم تنبت سوى الفطر الكلّابي السام.. لم أجد أي فطر يصلح للأكل).
(ولماذا تأخرت؟؟)
(لقد وضعت الدراجة عند أحد الرجوم، وذهبت لأبحث عن الفطر، فعدت ولم أجدها، يبدو أن أحدهم قد سرقها، لقد عدت ماشياً).
ابتسمت انتصار ابتسامةً مكسورة، وسادت لحظاتٌ من الصمت ربما استمرت لقرون، لأن الكلام لم يعد له معنى، وتابعت دموع البصل أو دموعٌ أخرى انهمارها على وجه انتصار، بينما انحدرت دمعةٌ حارّةٌ من عين عدنان.
هل من المعقول أن البكاء بسبب تقطيع البصل ينتقل بالعدوى؟

 

pantoprazol 60mg oforsendelse.site pantoprazol iv
ذو صلة