يعد المصور المجري فيكتور فاساريللي، من بين أهم فناني القرن العشرين، والمؤسس الحقيقي لفن الخداع البصري، الذي كان له تأثيره البالغ في أوروبا منذ مطلع الستينات، ومنذ نهاية الخمسينات أنتج فاساريللي أعمالاً، تدخل ضمن مصطلح الفن البصري مستنداً على أئمة المدرسة التجريدية، أمثال موندريان وماليفتش، وكذلك من تعاليم مدرسة الباوهاوس، التي كان أحد تلاميذها في بودابست، قبل أن ينتقل للإقامة في باريس منذ عام 1930م، حيث برع في استخدام أنواع مختلفة من الظواهر المرئية التي تحدث بصورة مستمرة في مدركاتنا اليومية، غير أنها عادة تغفل أو تهمل ولا تدرك، فقد ظهرت براعته في جعل هذه الظواهر المهملة واضحة أمامنا بشكل ساطع، فيما قدمه من لوحات مرسومة وأعمال فنية متحركة، بحيث يوحي الشكل العام بالحركة مع أنه ساكن، حيث كان سعيه الدؤوب تفعيل المدرك الحسي لدى المشاهد، عن طريق تحقيق أكبر قدرة ممكنة من حالات الدهشة والتأمل في التكوين التشكيلي، وقبل أن نتعرف على الاتجاه الفني عند فاساريللي، نتعرف على ما هو الفن البصري.
الفن البصري
لاحت ملامح هذا الفن في أواخر العشرينات وبداية الثلاثينات من القرن العشرين، حيث ظهرت جذوره العميقة في مدرسة الباوهاوس، حيث قام مجموعة من أعضاء تلك المدرسة بإجراء عدة بحوث في الظاهرة البصرية، ثم ظهرت في الأربعينات من القرن العشرين بعض من النماذج المفرطة لفن الخداع البصري، لكنه لم يصبح فناً في مصاف الفنون الحديثة، إلا في أوائل الخمسينات، حيث ظهر هذا الفن كظاهرة صحفية، عندما أطلق أحد الصحفيين الأمريكان تعبيراً صار شائعاً وهو أوب أرت (op- Art) أو الفن البصري optical Art بعد أن قام بعض من الفنانين، بإقامة معرض تحت عنوان العيون المستجيبة، ومنذ ذلك الوقت أصبح فن الخداع البصري ممثلاً لأحد الاتجاهات الحديثة في الفن، وكان ذلك على يد مؤسسه الفنان فبكتور فاساريللي، الذي خطى بهذا الفن خطوات كبيرة إلى الأمام، ويقوم هذا الفن على طريق الأشكال ذات الطبيعة الهندسية، ومن ذوات الحافات الحادة التي توحي بأن الشكل يتحرك، وهذه الأشكال التجريبية قد تميزت بأنها لا تتضمن أية ملامح تشخيصية، ومن الملامح التي تميز الفن البصرى عن غيره من الفنون التجريدية الأخرى، اعتماده على التأثيرات المرئية، التي تنشأ من تنظيم العلاقات والخطوط والأشكال، والتي تتطلب تفاعلاً أكثر مباشرة وحيوية مع المشاهد، نظراً لأن عيني المشاهد تشكلان جزءاً حيوياً من مكونات العمل، ومع هذا فإن لوحة من الفن البصري يمكن أن تبدو وكأنها تتحرك أو تتغير أو تتبدل طبقاً للعمليات التي تحدث داخل نظام الرؤية ذاته، وبهذا المعنى فإن الفن البصري الذي أصبح اليوم من الفنون الشائعة ما هو إلا استغلال متعدد لظواهر الوهم، وحيث انصرف علم النفس إلى تعليل هذه الظواهر وتصنيفها، فإن فناني الاتجاه البصري حاولوا استغلالها فنياً، وتعقيد أشكالها من أجل خلق نماذج جميلة ومميزة، ربما تبعث على الاضطراب والقلق أحياناً، بما تثيره من إيهام بصري وحركة دائمة، لا تستقر معها عين المشاهد.
حياته ومساره المهني
ولد فيكتور فاساريللي بالمجر، في التاسع من أبريل من عام 1908م بدأ حياته دارساً للطب، إلا أنه انصرف عن دراسته، لدراسة الفن، فالتحق في البداية بأكاديمية بوليني فولكمان الخاصة لتعلم الرسم التقليدي بالزيت، وفي عام 1928 التحق بأكاديمية موصلي ببودابست، وهناك تلقى دروساً على يدي ساندو ربورترنيك المختص في فنون مدرسة الباوهاوس الألمانية، التي تشمل اهتماماتها ميادين الرسم والهندسة المعمارية والديكور بلغة تجريدية، كتلك التي نعرفها عند أقدم روادها بول كلى، وفي عام 1930م ترك المجر، واستقر في باريس ليعمل فناناً جرافيكاً واستشارياً لوكالة الإعلانات هافاس، وريجر وديقامبيه، من الفترة من عام (1930 - 1935) وخلال هذه الفترة أبدع ما اعتبر أول عمل في الخداع البصري، الذي أطلق عليه زبيرا zebra أي الحمار المخطط، وكان يتألف من خطوط متموجة سوداء وبيضاء، وقد فتح هذا العمل الطريق أمام فاساريللي على مدى العقدين التاليين، حيث طور من أسلوبه في الفن التجريدى الهندسي، الذي كان أحد ثماره افتتاح مؤسسة فاساريللي في (إكس - إن بروفس) وذلك في عام 1956م، ثم متحف فاساريللي في باك في هنغاريا في السنة نفسها، وفي عام 1969م انتشرت أعماله التي لاقت انتشاراً واسعاً خصوصاً في بودابست مسقط رأسه، حيث كانت أعماله تزين منازل المثقفين والموظفين الكبار من البوستر وأقمشة المنازل والبرادي والسجاد، فتحقق حلمه في أن يكون الفن في متناول الجميع، وأن يكون في المنزل مساحة للفن، وفي عام 1970م استقر في قصر غورد في باريس، وهناك دشن متحف فاساريللي التعليمي، الذي ضم أكثر من 550 لوحة للفنان، وقد حققت أعماله شهرة عالمية واسعة، وحصل على أربع جوائز مرموقة، كما تأثر بفنه العديد من الفنانين، كان في مقدمتهم الإنجليزية بريجيت رايلي، التي أبعدت عدداً من الأعمال الضخمة التي تبدو وكأنها تتحرك، وقد توفي فاساريللي في عام 1997م، والآن يزور محبو الفن متحفه في باريس، الذي يضم سائر أعماله، بعضهم يأتيه بدافع الإعجاب والتقدير للفن الجديد، وآخرون يدفعهم الفضول لرؤية نوعية من الفن، أصبحت اليوم ملمحاً أساسياً من ملامح الفن الأوروبي المعاصر.
مذهبه الفني
لقد تركت تقاليد مدرسة الباوهاوس وأفكارها الجديدة، حول علاقة الفن بالمجتمع، أعمق الأثر على الاتجاه الفني لفاساريللي، الذي آمن بأن الفنان يبدع أشياء جميلة، لكنها نافعة ومرتبطة بحياة الإنسان اليومية، فالفنان عنده يبدع لكي يتحول في نهاية الأمر إلى لوحة حائطية أو سجادة أو سيارة، أو غير ذلك من الاحتياجات التي تعرفها الحياة اليومية، ولهذا كان اتجاه فاساريللي أيضاً إلى فن الطباع الذي يسمح بعملية استنساخ العمل الفني على نطاق واسع لإتاحة الفرصة للجماهير العريضة من أجل اقتنائه، والاستمتاع بقيمته الجمالية، وقد تجسد ذلك بوضوح في لوحاته الفنية التي صور من خلالها عالماً غرائبياً وممتعاً، يحث الناظر والباحث فيه إلى الغوص في أعماقه وسبر أغواره، لاكتشاف ما تخبئه الصورة من تداعيات لباطن الفنان، وما تعكسه اللوحة من خيال خصب وانسجام تشكيلي، باستغلال المفردات الهندسية، كالمربعات والدوائر والمثلثات في تنويعات هندسية لا حصر لها، وجعلها تتحول وتتبدل وتكتسب دلالات تشكيلية مختلفة تبعاً للوقفة التي يتخذها الرأي منها، حيث إن أعماله تموج بالحركة الدافقة والذبذبات المتلاحقة التي تشغل العين وتمتعها، بداية من أعماله الأولى التي اعتمدت على تقنية مبسطة قائمة على تفاعل كل المساحات البيضاء والسوداء، وما يتركه تقابلها من وقع على عين المشاهد معتمداً في ذلك على عناصر شكلية ومفردات هندسة كالمربع والدائرة، مع إدخال عامل اللون وما يولده من انطباعات بصرية لإيهامنا بالحركة وإثارة المشاهد واعتماده على التدرج اللوني والحجمي، والانتقال التدريجي من الكبير إلى الصغير وبالعكس، والذي ينتج عنه إيهامات بصرية، تجعل عين الناظر تنتقل من مكان إلى آخر، إذا أخذ يبحث في المؤثرات البصرية ويوظفها في منجزه الفني، لغرض الوصول إلى دلالات جماعية أكثر اتصالاً مع الطابع الهندسي المجرد للوحدات والمفردات الهندسية التي تتشكل من تراكيب الصور الدائرية والمربعة والمثلثة والمستطيلة، لذا فقد انطوت نتاجات الفن البصري لديه، على فكرة الإيهام البصري، أو ما يعرف بالخداع، الذي يشعر المتلقي برؤية بصرية مميزة، يحاول من خلالها فك الاشتباك والتداخل في التراكيب الحاصل بين الخطوط والوحدات الهندسية، التي تتشكل منها نتاجات فاساريللي، بقصد الحصول على أيقاع أعمق في النفس، إلا أنه في كل الحالات يؤكد على شيء هام وأساسي هو وجود الحركة، وعلى أمكانية ابتعاد الفن عن المتاحف والصيغ التقليدية، واعادة ربطه بالحياة اليومية، وعلى إمكانية خلق حركة مبرمجة تعتمد على إمكانيات البصر والرؤية، ومن هنا يتضح أن فيكتور فاساريللي قد عنى كثيراً بعنصر الحركة وتوليدها إيهامياً على السطح التصويري لنتاجاته الفنية، التي تركت أثراً كبيراً على العديد من فناني اليوم الذين لا يزالون يمارسون فن الخداع البصري بنفس طريقة فاساريللي.