من الصور التي يعيد التاريخ رسمها فتكون متشابهة كالصورة أو تظهر أدنى من ذلك كالظل؛ الشخصيات التي تخرج في أزمان مختلفة، تعيد ذكرى شخصيات سابقة، فتظهر وكأنها متماثلة. ونعلم أنه كلما تغيرت البيئات الحاضنة لتلك الشخصيات، واختلفت العصور الـمنبتة لها؛ فإن تماثلها يتلاشى ويضمحل، فيبقى رسم حدود لكلا الشخصيتين كالدخان الذي يتغير في تشكله بين ثانية وأخرى، لكن هذا لا يمنع من التماثل، ولا يقف دونه، وهو ما نجده في شخصيتين بَعُدَ بينهما الزمنُ حتى تجاوز الألف سنة، واختلفت البيئة التي خرجا منها، وعلى الرغم من ذلك فإن الشخصيتين تبدوان وكأنهما صورة وظلُّها؛ نجد بينهما وشائج وأواصر تَمَاثُلٍ تجعلهما تقذفان ألف سنة مما نعد خلف الظهور. إنهما مجموعة مواهب في جسدين، استطاعت أن تحفر لها أسماء في صفحات التاريخ الأدبي، إنهما الموصلي والذيابي.
فكلما مر بي اسم إسحاق بن إبراهيم الموصلي (150هـ -236هـ/ 767 – 850م) قفزت صورة مطلق بن مخلد الذِّيَابِي (1346هـ – 1403هـ/ 1947-1983م) مباشرة بين ناظري؛ ذلك أن أوجه التشابه بينهما ظاهرة وجلية، نجدها في مناحٍ عدة من مواهبهما التي جعلت منهما ملء السمع والبصر. وعلى الرغم من ذلك البعد الزمني الذي قد يغتفر إذا تماثلت البيئة الحاضنة إلا أن تلك البيئة مختلفة تمام الاختلاف، فقد نشأ الموصلي في بيئة القرون الزاهية للحضارة الإسلامية، وفي بيئة بغدادية تعج بالنشاط لكنها بيئة القصور والجواري والعبيد، بيئة الترف والعلم، علم الحلق والرواة، بيئة النساخ والكاغد، فيما نشأ الذيابي في بيئة ما بين الحربين العالميتين التي طحنت العالم العربي، فجعلته مشرعاً للمستعمر، بيئة الكتاب المطبوع، والتسجيلات الصوتية، والصورة المرئية، هي بيئة التوثب والتطور والدخول في عالم الأثير ومخاطبة الناس من خلاله، فلا يقتصر الخطاب على الحضور ممن يُرَوْن لكنه يقصد الجميع ممن يستمع إلى هذا الجهاز الذي لو رآه الموصلي لطال تعجبه.
ومع هذا الاختلاف الكبير في ظروف البيئة والحياة والنشأة إلا إن إسحاق الموصلي ومطلق الذيابي يتماثلان في حدود الشخصية وفي دواخلها التي ترسمها؛ فهما أديبان بالفطرة، شاعران مطبوعان، ملحنان مجيدان، مغنيان مبدعان، متحدثان بارعان، مؤلفان متواريان، يظهر أدبهما في مجمل أعمالهما التي حوتها دائرة الأدب، وشعرهما الذي حوته الدواوين يشي بالطبع والعذوبة، مما جعله يتسلل إلى الأوتار والآذان. وإذا كان الموصلي فُقِدَ ديوانه إلا أن في كتب الأدب والتراجم طائفة حسنة من شعره، تُظهر مقدرته الشعرية، ورقة طبعه، وعذوبة ألفاظه، أما الذيابي فقد صدر له ديوانان الأول منهما بخط يده عن النادي الأدبي بجدة، وهو شعر عذب تحمل حروفه روح قائلها. أما التلحين والغناء فكفانا ذلك جولات الموصلي وصولاته في كتاب أبي الفرج الأصفهاني (الأغاني) التي تحدثنا أنه كان مدرسة متحركة في عالم النغم والغناء، وكفانا المؤونة مرة أخرى أرشيف مطلق الذيابي الثري الذي ظهر بعضه ولا يزال بعضه حبيس التسجيلات والنوتات الموسيقية، الذي أبقاه مطلق الذيابي، فهو يتجدد ويزيد بريقه وثراؤه على مر السنين. وعلى الرغم من شهرتهما في عالم الملحنين والمغنين إلا أن الغناء والتلحين كان أدنى مواهبهما كما قال أبوالفرج عن الموصلي: (أما الغناء فكان أصغر علومه وأدنى رسومه)، ولا أجد حرجاً في أن أقول ذلك عن الذيابي.
والموصلي والذيابي متحدثان يخلبان الألباب، ويجبران على الإنصات؛ فالموصلي يملك مجالس الخلفاء فلا تُصْغي الآذانُ إلا إليه حديثاً ونقراً؛ حتى سمي بالنديم، والذيابي تنتظره الآذان عبر الأثير لتَطْرب بحديثه الشيق الشجي، فتنادمه وينادمها، وقد وهبه الله رخامة الصوت مع حسن المخارج، فكان لصوته وقع في النفس، أهله ذلك الصوت الرخيم الشجي بأن يقدم برامج إلقائية مختلفة، كرسالة المسجد، وملح وطرائف، ودائرة المعارف.
وهما كذلك يتماثلان في مجال الكتابة والتأليف، فلهما مؤلفات تنوعت؛ فلم تكن مرتهنة لاتجاه واحد؛ فالموصلي ألف عدة كتب منها: كتاب الأغاني، وكتاب مواريث الحكماء، وكتاب جواهر الكلام، وكتاب المنادمات، وكتاب النغم والإيقاع.. وغيرها، وللذيابي ديوانا شعر مطبوعان، هما: ديوان أطياف العذارى، وديوان غناء الشادي. إضافة إلى كتاب طرح فيه بعض رؤاه أسماه (ذخائر الذيابي في الفكر الإسلامي والثقافة والأدب والفنون)، ومقالات كثيرة كان يحبرها في المجلات والصحف.
إن تلك المواهب المتعددة خلقت لكليهما طابعاً خاصاً، وتفرداً ظاهراً، تُبْرِزُ في شخصيتهما ذلك التسامح والتصالح مع الحياة، الذي تهبه الحضارة الإسلامية لأبنائها، فتصبح الفرحة وبثها في أرجاء الأرض هدفاً لشخصيتهما، تلكما الروحان اللتان تهدفان من وراء ذلك بثّ هذه الفرحة، وأن يكون في حياة الإنسان فسحة للفرح والسرور، والصفاء والحبور، ليقبل الناس على الحياة بنفوس راضية، ووجوه مشرقه مبتسمة.
إن أشعارهما وألحانهما وما يستتبعه من أداء صيغت كلها من واقع حياتهما، التي هي جزء من حياة المجتمع، فكانت معبرة صادقة، تدخل للقلوب قبل الآذان، وتبقى في الذاكرة والوجدان.
وإذا بحثنا نفتش عن أوجه التماثل بين تلكما الشخصيتين نجد وجهيهما مستقبلين له ألا وهو تلك الضغوط التي يقعان تحتها، وهي وإن بدت مختلفة في التسمية إلا أنها متحدة في النتيجة والمآل. فقد كان الموصلي يقع تحت ضغوط كبيرة بدءاً من الخلفاء ومجالسهم، مروراً بتلك المشاكسات من المجايلين والخصوم، وانتهاء بتلك الأذواق التي يبحث عن إرضائها، ولم يكن مطلق الذيابي بعيداً في ذلك الأمر عن الموصلي فقد كان واقعاً تحت ضغوط الجمهور المتلهف، الذي لا يرضيه أي إنتاج وإنما يريد إبداعاً يرضي الأذواق المختلفة، إضافة إلى ضغوط المنافسة الشريفة مع الزملاء في المجال الإعلامي بل الأدبي، لذا كان الموصلي والذيابي في تحدٍّ مستمر، ولَّدَ نجاحاً متصلاً، كتب لهما الخلود في سجل الخالدين في الحضارة الإسلامية.