الرحيل هو عنوان كبير للفقد حينما تتأجج المشاعر والذكريات وتحاول أن تمسك بلحظة تنفلت من العمر والمكان والإنسان، لحظات وداع، قد تتلون بالسفر أو الموت، مشاعر يعيشها الإنسان وقد تتعاظم داخل نفسه في حالة من الهم والغم لا تختار لها وقتاً.. وليس لها مواسم.
والمهندسة سارة زهير.. فنانة مصرية شابة تشبثت بالكاميرا لتسطر بلقطاتها لحظات حياتية، ومحطات مهمة تصادفها بشكل يومي وهي في طريقها للدراسة والعمل وقليل من التنزه.
سارة زهير أقامت معرضها الفوتوغرافي الأول بتياترو إسكندرية في سبتمبر الماضي.. لم تترك لنا مجالاً للسؤال عن اختيار (الرحيل) عنواناً لأول معرض في بداية المسيرة الفنية حيث قدمت لنا قصاصة تشرح فكرتها عن الرحيل قائلة: «أوقات ثقيلة تمر.. لحظات أو أعوام كاملة ترتبط بفراق شخص ما أو تودع مكاناً ما.. تفاصيل تحمل في طياتها نوعاً من أنواع القداسة لحظة الرحيل، وكثيراً من الخوف والاشتياق معاً، ورغبة كبيرة في الاحتفاظ بالقدر الأكبر من التفاصيل الصغيرة في الذاكرة.. ذاكرة قوية في البداية ثم تضعف مع مرور الوقت.
المكان.. الطابية.. معمار مميز يختفي من مدينتنا في زمن عشوائي مادي لا يهتم كثيراً بالقيم التاريخية للأماكن وجمالها، هدم المكان كله بعد تهجير سكانه.. لم يبق من المكان الآن إلا سور عال جديد يحجب البحر، وبعض الصور والحكايات التي يرويها أهل الطابية، رأيتهم وهم يبكون الطابية كأنها شخص عزيز يموت أمام أعينهم.
الموت.. وكأن الصمت المطبق وراءه أصوات تحكي قصصاً تقرؤها على شواهد القبور.. قصص تحكي عن ساكنيها في كل مكان، أسماء لأشخاص رحلوا.. حروف من ذهب وورد وإهداءات وصناديق نذور، ورسائل كثيرة للموتى هنا وهناك كأنهم أحياء يسافرون سفراً طويلاً ولكنهم سيعودون يوماً ما.
السفر.. طريق موحش.. مجبر أن تسيره وحدك وأن تفارق المكان الذي طالما اعتدته.. قد يكون السفر طويلا أو قصيرا، مؤقت أو دائم ولكنه يحرك بداخلك احساس بالشجن، يظهر بوضوح في عيون المسافرين عبر النوافذ، وفي محطات الانتظار وصالات المودعين.
الوداع.. هل ودعت نفسك من قبل، عندما لا تكون أنت أنت، موجود ولكن روحك غائبة، أنت لا تعلم متى رحلت ومتى ستعود، وقد لا يشعر بك أحد قط.. كأنك طيف.. يتساوى غيابك وحضورك.. لا يشعر بك أحد.
زرت معرض رحيل الفوتوغرافي وأدهشتني الموضوعات وغرابة المكان وطريقة العرض والتقيت سارة. ورغم ازدحام المكان بأصدقائها ومتابعي لقطاتها دار بيننا هذا الحوار الذي قالت فيه:
بداية محبتي للتصوير نابعة من والدتي عندما كنت صغيرة كنت أراها تحمل الكاميرا، حيث تحب أن تلتقط الصور.. وكنت أذهب معها نشتري الأفلام ونحمضها ونستلم الأفلام والصور.. الكاميرا الخاصة بوالدتي لها وضع خاص غير مسموح الاقتراب منها أو العبث بها أو لمسها، فساعدتني بشراء كاميرا صغيرة لي، كنت أصور بها الأصدقاء في المدرسة، ثم تطور الأمر وأصبحت أملك كاميرا ديجيتال من أجل الرحلات. الحقيقة أنني لم أفكر في حياتي أن أصبح مصورة احترافية بمعنى أن أشترك في معارض ومسابقات.
التصوير الاحترافي في عام 2011م درست وتدربت وصورت وكان رابع معرض أشترك فيه في ألمانيا وهذا شجعني على أن أستمر حتى الآن وأمارس التصوير بشكل احترافي.
وتضيف: التصوير الفوتوغرافي مرتبط بالزمن... الصورة هي إيقاف اللحظة لنحتفظ بها للأبد.. يعني مثلاً الصور القديمة للإسكندرية تظهر لنا شكل الشوارع والميادين والمباني والناس.. وهذا شيء مهم جداً.. والصورة تختصر كتابات كثيرة ربما تتكلم عن ذلك الزمن.
وحول المعرض تقول: قصتي مع المعرض بدأت من الطابية. أنا أقيم في بحري شمال غرب الشاطئ الإسكندري في نفس المنطقة الموازية، كنت أسمع عن منطقة الطابية منذ زمن من صديقتي التي كانت من سكان المنطقة، حيث كان أتوبيس المدرسة ينزلها في مكان قريب من القلعة، لذا أصبح لدي لبس أن «الطابية» هي القلعة وأغبطها على حظها وكيف تعيش داخل قلعة محصنة مثل التي نراها هنا.
كانت «الطابية» اكتشافاً بالنسبة لي ومكاناً يسعدني زيارته مصطحبة الكاميرا حتى ولو لم ألتقط صورة واحدة، لكن الزيارة نفسها والمكان يسعدني وأنا أجلس أمام البحر. كنت أتحرك في المكان وأسمع من سكانها أنهم مهددون بالرحيل من المكان، وقد يغادرون بيوتهم في أي لحظة لأجل إزالة الطابية، وعند زياراتي المتتالية أجد أن أعداد الناس أقل من السابق لكن المباني والبحر موجودة... بقيت على تلك الحالة فترة من الزمن وليس عندي صور مهمة للطابية حتى قررت في أحد أيام شهر أبريل عام 2016 القيام بعدد من الصور لتوثيق الطابية.. أول دخول لي بصحبة الكاميرا تجمع هذا العدد القليل من الناس حولي على أساس أني صحفية وأساعدهم.. كان عدد الأسر في الطابية 114 أسرة، تم إقناع 100 أسرة بالرحيل ولم يتبق سوى 14 أسرة هم من يقاوم فكرة النزوح.. واستمروا بصحبتي يسردون الحكايات عن المكان، وأن الفنان فريد شوقي جاء إلى هنا لتصوير فيلم رصيف نمرة 5ن وكانوا يقيمون سهرات جماعية ليستمعوا للست أم كلثوم.. تكونت لدي ذكريات كثيرة عن المكان وأذكر أنني كنت أبكي مع كل صورة أقوم بتصويرها من شدة إحساسي بأني لن أرى هذا المكان من جديد.
في المساء توقفت عن التصوير لعدم وجود الكهرباء، غادرت المكان وفوجئت بعد عدة أيام بخبر مرفق بصور لهدم المكان، و كان أبشع مشهد حيث تحول المكان لأكوام من الحجارة كأننا في حرب.. وللأسف حالياً «الطابية» ليس لها وجود، حيث تم بناء سور عال جداً لدرجة أنك لا تستطيع رؤية البحر، وأنا أحتفظ بصوري الأخيرة للطابية بعد الهدم لم أعرضها في المعرض لأنها صور مؤلمة للغاية.
وترى سارة أن التصوير كما الرسم... وسيلة تعبير كما الكتابة والشعر.. وهو فن وذكاء.. ذكاء لأن المتفرج يرى حكاية في كادر ثابت.. وهذا أمر مهم في مجال التصوير.
من جانب آخر لا يوجد إنسان خالد.. لكن خلود البشر من سيرتهم والحكايات عنهم... الأماكن دائماً ما تحمل بين جوانبها حكايات.. فقد تمر من مكان مر به شخص من مئات أو آلاف السنين.. آثار الناس في كل مكان عبر الأزمنة تنتقل معها حكايتهم مع مرور الوقت. إما برحيل المكان.. تختفي آثار من عاشوا فيه ويتناسى الناس قصصهم... فالمكان هو شاهد على حيوات لم نعشها.