بعد نزول الإسلام بأول كلمة تشق سكون الجهل وظلمات الأمية بـ(اقرأ)؛ نجد أن القراءة أهم أركان تميزنا كوننا بشراً يعقل ويدرك، وهى أيضاً تساوي سباقاً مع الزمن إلى المستقبل، فنحن نعيش الحاضر ونقرأ الماضي، لذلك نجد أن القراءة تساوي المستقبل، أما الثقافة فهي تغذي الروح، وتهذب النفس وتشبع العقل بالأفكار، ولذلك نجد أن القراءة والثقافة شيئان لابد منهما، فالتعرف على الثقافة يكون من خلال الأنماط والسلوكيات والمقارنات بين أفراد المجتمعات بمختلف ثقافاتهم، حيث ارتباطها بتحديات المستقبل، يأتي الدور الذي يتراءى لأي مثقف، وهو مواجهة التكاثر المتزايد للكتابات التي تتزاحم لحشو عقل القارئ، الكثير منها كالطبل الأجوف، والقليل منها مثمر معطاء كالنخيل.
فإذا سألك سائل لماذا تقرأ أو كيف تكتب؟
ستكون إجابتك بكل تلقائية: إن الكتابة هي إفراز طبيعي بعد مرحلة القراءة، لما تختزنه خلايا العقل من ثقافات، كما إنها نابعة من مخزون ما نقرؤه بشكل عام، حتى نعي جيداً إلى أين يكون مصير هذا المخزون.
كان ظهور المكتبات المغلولة، في الماضي أمراً شديد الأهمية، حيث يعود ظهورها في بادئ الأمر إلى القرون الوسطى، حيث كانت الكتابة أمراً شاق، والتدوين أمراً أشق وأصعب بكثير، حيث يستغرق بعض الكتاب وقتاً طويلاً لتدوين النصوص على الأوراق، ونحت واجهة الكتاب يدوياً، وإضافة تفاصيل ملونة منحت الكتاب طابع الندرة والقيمة العالية، الأمر الذي يستلزم أن تتم حمايتها بالغالي والنفيس، ومهما كلف الأمر، فكانت التدابير الأمنية مشددة للغاية، حتى أن أمناء المكتبة قاموا بربط الكتب بسلاسل حديدية، خوفاً من سرقتها، مما جعل الأمر أكثر صعوبة على أي شخص يريد أن يقرأ كتاباً مثلاً في ذلك الحين، يقول الأستاذ حسن الوزاني: شكل ظهور المكتبات المغلولة مرحلة مهمة على مستوى إتاحة المعرفة وتداولها، إذ إنها منحت إمكانية الخروج من فترة كانت تُحفظ خلالها الكتب في صناديق مقفلة أو بين أيدي أشخاص محدودين.
فقد قيل إنه طلب من تلاميذ مدرسة إعدادية فرنسية كتابة شهادات لتخيل حقيقة الكتب المغلولة.
كتبت فتاة صغيره قصة جاء فيها:
(في القديم، خلال الحرب، أرادت فتاة صغيرة تدوين حياتها في كتاب مذكراتها، أخذتْ قلماً وبدأت في الكتابة، فور انتهائها، سقطت قنابل على بيتها. قبل أن تتوفى، أخذت سلسلة وربطت الكتاب حتى لا يطلع أحد على أسرارها).
هذا التخيل جاء لطالبة، تخيلت لماذا نشأت فكرة ربط الكتب بالسلاسل، قد يفاجأ الكثير من زوار مكتبة هيرفورد البريطانية الشهيرة بوجود رصيد مهم من المخطوطات المحكمة بسلاسل حديدية، وهو رصيد يتجاوز مئتي عنوان من المخطوطات، من بينها نسخة من الإنجيل تعود إلى القرن الرابع عشر، وهذا أيضاً هو الحال حيال عدد من المكتبات الأوروبية، التي استمرت في الاحتفاظ بهذا التقليد، ومنها مكتبة (ويمبورن منستر) بمقاطعة (دورست) البريطانية، والتي يعود تأسيسها إلى نهاية القرن السابع عشر، ومكتبة (دير أدمون) بالنمسا، التي تُعرف باحتوائها على كم مهم من أوائل الكتب المطبوعة، التي تعود إلى القرن الخامس عشر.
والحقيقة أن تقليد ربط الكتب بالأغلال كان معتمداً من طرف أغلب مكتبات أوروبا، التي كانت تحتفظ بالمخطوطات النادرة، ومن بينها على سبيل المثال، مكتبة (مارش) بدبلن بإيرلندا، التي يعود تاريخ تأسيسها إلى بداية القرن الثامن عشر.
غير أن الأمر بالنسبة لنا أكثر غرابة، ونحن نواجه كل يوم آلاف العناوين تخرج لنا بكل يسر وسهولة، بعدما تحول القارئ من (دودة كتب) إلى ناقد وكاتب، ليضيف عنواناً آخر إلى سباق العناوين.
ولهذا لن نجد كاتباً لم يقرأ، ولن نجد قارئاً لم تستهويه القراءة، إلى أن يمسك بالقلم ويدون حتى ولو خاطرة، أو رؤى، أو وجهة نظر، حتى وإن كانت شخبطات كالتي كنا نفعلها على (الدرج) -الديسك- في فصول المدرسة ونحن صغار.
فالكاتب يكون كالنحلة، بعد رحلة التنقل بين الزهور تكون نتيجة هذه الرحلة الإفراز.
لم يتساءل أحد هل حقاً ثقافة الإنسان تقف عند حاجز معين..؟
بعدما اتسعت الحوارات الفكرية باندماجها على مواقع التواصل بالشبكة العنكبوتية.
فلقد انقسمت الثقافة إلى عدة شعب مختلفة، كل منها يبلور فلسفة الآخر وقد يسهل على البعض استيعابها، وقد تكون بمثابة طلاسم ورموز في عقول البعض الآخر.
فأمام غزو السوق الإلكتروني، أصبح القارئ يجد صعوبة في التمييز بين الصالح والطالح، كما أنه وقع في شراك العناوين، فكثير منها يتناص مع عناوين جادة لكبار الكتاب، وأخرى مع عناوين مبهرة سطعت مع ظهور الكم الرهيب من الكتاب الشباب، لقد ذهبت الذائقة العامة إلى الساحة وما تعرضه المكتبات في قوائم (best seller)، التي تعلن عنها كبرى المكتبات، فأصبحت الذائقة العامة للأعلى مبيعاً وليس الأعلى قيمة وفناً.
وعدنا من حيث بدأنا ولكن مع اختلاف حيث الكتب متاحة ولكننا تقيدنا نحن أمام صفحات التحميل الإلكتروني الـ (bdf)، حتى يستطيع القارئ أن يحمل الكتاب بين يديه إلى مخدعه أو إلى كرسي مع ظهور الـ(كندل - Kindle) فلا أظن أننا سنعود بالذاكرة لنتذكر يوماً غُلت به الكتب بالسلاسل للحفاظ عليها.