لم تكن أفكار لودفيج فان بيتهوفن (1770 - 1827م) الموسيقية مجرد ألحان مبتكرة تتحول إلى أعمال فنية اعتماداً على براعة تشكيلها، فالممكنات التي تسنى تشكيلها كامنة بداخلها، ولا تصلح البراعة وحدها لإعداد أي فكرة موسيقية للتأليف السيمفوني ما لم يكن الفنان قادراً على كتابة سيمفونيات، إضافة لتفكيره الإبداعي، فقد اعتاد النقاد النظر للعمل الموسيقي كعملية تبدأ بإبداع اللحن، يعقبها تنمية منطقية تميز البصمة الخاصة للمؤلف، بحيث تكون الألحان شديدة التركيز والتعبير، مشحونة بطاقة تنبثق منها مضامين لا تتكشف إلا بتفاعل اللحن، وهذا هو جوهر الفكر السيمفوني.
تعتبر (ضربات القدر) السيمفونية الخامسة الأكثر إقناعاً والأشد تركيزاً وإعجازاً من حيث التصميم السيمفوني، فقد بلغت حد الكمال في الفكر الموسيقي، وفقاً للدكتور حسين فوزي في مرجعه القيم (بيتهوفن)، ولم يتعرض هذا الحكم للنفي، بتأثير الروائع فيما بعد، بما في ذلك السيمفونية التاسعة أعظم شاهد لما بلغته السيمفونية الكلاسيكية، فهي السيمفونية التي ما أن يسمعها الناس شرقاً أو غرباً، إلا ونشط الدم في عروقهم، واشتعلوا حماساً وانتشوا طرباً، ورغم أنها لا تتعدى خمساً وعشرين دقيقة، إلا أنها جوهرة فريدة، وبناء قوياً. ألفها بيتهوفن في عنفوان عبقريته وكمال بيانه الفني، فجاءت صورة من نفس تشرئب للعلا، تقتحم الرزايا والمحن، لتتخذ سمتها إلى الفن الرفيع. سيمفونية ذات قوة تتدفق، ونيران تندلع كبركان هائج. شغلت بيتهوفن لأربع سنوات من العام 1805 إلى نهاية 1808م. بدأ تأليفها عقب انتهائه من (الإرويكا) السيمفونية الثالثة، لكنه انصرف عنها ليكتب قصيدة الحب في غمار حبه لخطيبته (تريزا فون)، في سيمفونيته الرابعة التي شبهها شومان بالغادة الإغريقية بين عملاقين (الإرويكا، وضربات القدر). وبين هذه السيمفونيات: الثالثة، والرابعة، والخامسة، يبدو بيتهوفن وكأنه يرى الماضي والمستقبل في آن واحد، فهو شاعر ملاحم في السيمفونية الثالثة، وعاشق في السيمفونية الرابعة، وشيطان ساحر في السيمفونية الخامسة، ثم عملاق إغريقي محارب، يتحدى القدر. لكن من الخطأ القول إنه انتصر، فالمنتصر الحقيقي هو فنه، أما هو فقد صرعه القدر، واستسلم له في سنواته الأخيرة، مشيحاً بوجهه، ليحيا متصوفاً، متجهاً لخالقه يبثه همه، ويشكره على نعمه، ثم يسلم الروح، بعد أن التفت لمن حوله قائلاً: (صفقوا فقد انتهت المهزلة)، ثم راح في غيبوبة طويلة، لكن بنيته القوية تغالب الموت أياماً، والأصدقاء يتناوبون البقاء بجانبه. وفي 26 مارس عام 1827م، بينما بيتهوفن لا يفيق، يحدث شيء لا يصدق لو لم يؤكده أكثر من مصدر: يومض البرق ويقصف الرعد فجأة دون إنذار، وإذا به يرفع رأسه وقبضته متوعداً، ثم يسقط ميتاً.
دراما وتنويعات
تعتبر السيمفونية الخامسة دراما تسردها ألحان، تموج أنغامها بصور من الآمال والآلام، امتازت بما ضمن لها الشهرة والبقاء منذ خرجت إلى الوجود. يقول أحد مؤرخي الموسيقى: إنه حين عزفت في إنجلترا لأول مرة لاقت إقبالاً دعا إلى تكرار عزفها لأسابيع دون انقطاع، فقد جاءت مثالاً أعلى للصياغة والبلاغة، فتألقت وسط السيمفونيات، كبيان ناصع لضرورة صياغة مواد التعبير في قالب يقوم على قوانين أساسية معبرة، وتقف كبرهان قاطع على أن الموسيقى لن تفي بالأهداف إلا إذا تم تنظيم مضامينها وفقاً لشكل محدد، فلم يدرك الموسيقيون، حتى الآن، أكثر مما ألهم بيتهوفن به، حيث لا توضع مبادئ صياغة الموسيقى عفواً، بل تظل ثمرة للتجارب، والجهود المتواصلة، والإلمام بموسيقى السابقين والمعاصرين، وتمتد للمجهولين منهم في عصور الأغنيات البسيطة، وفقاً لما عبرت عنه إبداعاته، فقد كان هدفه الدائم، تأليف موسيقى تعين المستمع على تحديد وفهم ما يسمعه دون أن يحيد عن تجانس وسيلة التعبير. ولا تحيد الخامسة قيد أنملة منذ بدايتها حتى نهايتها عن أصول الصياغة التي نجدها في سيمفونيات هايدن، ولم يزدها التزامها بحدود هذه الصياغة إلا حرية أسلوبية وتعبيرية، فقد وصل فيها إلى أقصى حدود التعبير، بتنظيم صياغتها بشكل متكامل، لا بدافع الحماس لنظرياته التي ابتدعها، لكن اعترافاً بجهود غيره وخضوعاً لما تمليه عليه روحه الفنية. اللحن الأساسي في (ضربات القدر) هو إشارة الحرية إلى الشعوب المحتلة، الصريعة تحت أقدام النازية، لأنه لحن فيه رجولة وقوة، يرفع من معنويات سامعيه، ولأن كل أوروبا تعرف أنه مطلع السيمفونية، ولكن الأهم من ذلك أن رمز النصر الذي كان تشرشل يشكله بسبابته ووسطاه هو في الرموز التلغرافية: ثلاث نقاط وشرطة: بب بب بب بي...-...ب. حيث يبدأ ويعبر اللحن عنها. والسيمفونية غضبة فنان قدير حيال القدر الواقف ببابه يضرب ضربات متلاحقة، لم تخترع حكاية القدر يدق باب بيتهوفن لقوله ذلك فعلاً لصديقه الناقد والشاعر شندلر، مفسراً لحنه الأساس الأول، وكلمة اللحن الأساس الأول هنا تفقد كل معناها الوجداني والفني على السواء، لا يوجد في الحركة الأولى سوى لحن واحد مسيطر، مهيمن، يطغى على كل شيء فيها، فالحركة مصاغة في قالب السوناتة، تتألف من لحن أساس أول ولحن ثان، يكونان قسم العرض، ويتفاعلان في القسم الثاني ثم يعودان لختام الحركة في قسمها الثالث. لكن صفة اللحن الأول الإيقاعية تجري في كل الحركة مجرى الدم في العروق، بل هذا اللحن الأول هو القلب النابض للحركة الأولى، وللسيمفونية كلها. (قارن: د.حسين فوزي: بيتهوفن، دار المعارف، 1971م، ص108) اللحن أربع نوتات تعتبر الأقصر، وتشعرنا الطرقات العنيفة للأوركسترا بالقضاء والقدر، تستمر قوية. يتداخل في النمو اللحني بصرامة الأوبوا بترانيم حزينة قصيرة لا تدوم طويلاً، إذ سرعان ما يطغى الصخب ولا يتوقف إلا بنهاية الحركة. بعد الاستماع للحركة كاملة يمكننا إدراك معنى هذا اللحن، ليتبين لنا أنه ليس مجرد شعار بل جوهر وتعبير مجمل عن الكل. (قارن: بول هنري لانج: الموسيقى في الحضارة الغربية من بيتهوفن إلى أوائل القرن العشرين، ترجمة د.أحمد حمدي محمود، الهيئة المصرية للكتاب، 2012م، ص54). يقدم بيتهوفن هذا اللحن عند دخوله في أول السيمفونية على كافة الآلات، بادئاً على كل الوتريات مع الكلارنيت دون هارمونية. لنشعر بعد ذلك أن اللحن هو كل شيء، فيتخيل المستمع أن جميع ما يجيء في الحركة الأولى متولد من شرارات الضربات الأربع التي تؤلف اللحن الأساس. الحركة الأولى دراما موسيقية صميمة تشعر المستمع أنه يبحر بسفينة في بحر متلاطم الأمواج. وتعتبر السيمفونية الخامسة نموذجاً لارتباط القالب الموسيقي بمكوناته. ومن السهل الوقوف على مثالية الحركة الأولى في التزامها بصيغة السوناتة، لكن الأروع هو الإحساس بتلازم الصيغة والمادة، وكأن إحداهما وليدة الأخرى. ليس من الصعب الوقوف على ما كان يؤثر على طابع ألحانها التي كتبت صيف العام 1808م حين كان بيتهوفن يعيش حياة تموج بالاضطرابات، يقول شندلر: إن بيتهوفن عبر عن الفكرة الأولى التي تفتتح بها قائلاً: (هكذا يطرق القدر بابي!). ويميل الكثيرون إلى ترجيح رأيه، فقد بدأ خوفه من الصمم، وازداد مرضه، قائلاً في يومياته: (تشجع، فستتغلب قوى العقل على وهن الجسد). عام 1801م كتب لصديق يقول: (حياتي صراع ضد الطبيعة والقدر لما ينزل بالمخلوقات من نكبات تأتى على أجمل زهرة). كان مرضه قد بدأ يضع هوة عميقة بينه، وبين المجتمع، كثيراً ما سببت له العثرة، كلما تقدم خطوة نحو أي حب كان يشعر بحاجته الشديدة له، تقدم مثلاً للكونتيسة جويتشاري عام 1800م فلم يحظ بوصالها، ثم وقع في سلسلة غراميات مع ثلاثة كونتيسات لم تشأ أي منهن أن تشاطره حياته العاصفة! فزاده ذلك مرارة وانطواء. (قارن: صالح عبدون: الثقافة الموسيقية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2013م، ص139)، لكن لن تظل حياة بيتهوفن كفنان، صباحها ومساءها صراعاً مع القدر. أليس شاعراً يغني ومفكراً يتأمل؟ فالحركة الثانية: بطيئة، نسمع فيها لحناً غنائياً طويلا، تتداوله الآلات وتجري عليه تنويعات جميلة. كان بيتهوفن مولعاً بها لأنها تيسر لخياله الانطلاق وتربطه في نفس الوقت بركيزة لحنية يرتكن إليها، فقد زادت أهمية التنويعات في أوائل العصر الكلاسيكي، حيث نهض هايدن بها حتى نافست السوناتة ذاتها. حرص بيتهوفن فيها على اتباع قواعد أستاذه، غير أنه فيما بعد قد توافرت لتنويعاته أبعاد ووحدات إبداعية للبناء، لم تعرف حتى عند هايدن سيد هذا الفن، إذ تعد مجموعات التنويعات في السيمفونية الخامسة عمل كبير، يوازي المؤلفات ذات الأربع حركات لاحتوائها كل عناصر السوناتة، فضلاً عن تتويج نهايتها بموسيقى (الفوجة).
قصص لا تنتهي
الحركة الثالثة: تضم واحداً من أعظم (الإسكرتسوات)، فتعزف الكمان الأوسط، والكونترباصات لحناً رهيباً أشبه بصوت ينذر بفتح أبواب جهنم بأربع ضربات القدر الأولى، لكنها تحولت هنا إلى نار حامية، وربما تحول القدر في خيال بيتهوفن إلى أشباح تدور وترقص وتضحك، خاصة عند دخول الكونترباصات عازفة لحناً راقصاً كأنها أفيال ترقص! فهذا (الإسكرتسو) الجهنمي كان قد عاد إلى مقام السيمفونية دومينور، لكن بيتهوفن يريد أن يختم الدراما العنيفة بصيحات النصر، ظافراً، مترجماً ذلك موسيقياً بتحوله عن المقام دو الصغير إلى المقام دو الكبير، يتضح هذا الانتقال للسامع كأنه انتقال من الظلمات إلى النور، فكيف أبدع هذا دون أن تسكت الموسيقى لحظة بين الإسكرتسو والحركة الرابعة؟! لنتبين الهدوء الذي يحل بساحته فجأة، وكأن الموسيقى صمتت لكنها لم تتوقف، فالوتريات تعزف تآلفاً طويلاً، بينما الطبول تدق أربعاً، ثم تتقطع لثلاث متتابعات، بينما الكمنجات تكرر لحن مدخل الإسكرتسو مقطعاً، وهى تحول المقام رويداً رويداً، وما إن يطمئن عازفو الأوركسترا إلى بلوغهم الديوان الكبير وخروجه إلى النور حتى ينفجروا عزفاً للتعبير عن الفرحة بلحن الانتصار، لتتحول نهايته لأروع لحظة في الموسيقى الكلاسيكية كلها. تلك هي السيمفونية الخامسة التي لها قصص لا تنتهي، مثل: حكاية سيدة مغنيات عصرها (لاماليبران)، يغمى عليها أو تصاب بنوبة تشنج عصبي أثناء سماعها السيمفونية لأول مرة بكونسرفتوار باريس، أو حكاية ذلك الضابط بالاستيداع للإمبراطور نابليون يقف صائحاً لفرط حماسه بالحركة الأخيرة: (الإمبراطور، هذا والله هو الإمبراطور)! لا تفوتنا أطرف حكاية عن (ليزو ير) الموسيقي الفرنسي العجوز أستاذ هكتور برليوز، الذي ذهب للاستماع للسيمفونية لأول مرة، وفى ختام الحفلة يسرع تلميذه برليوز، ليسأله عن رأيه، فإذا به يقول متأففاً: (أف لهذه الموسيقى، دعنا نخرج من هنا، أريد أن ألتقط أنفاسي، هذا شيء لا يصدقه العقل، موسيقى عظيمة، لكنها لخبطت كياني لدرجة أنني عندما أردت أن ألبس قبعتي أخذت أبحث عن رأسي فلم أجدها)! وعاد إليه برليوز في صباح اليوم التالي ليسمع منه بهدوء، قوله: (ليكن ما يكون يجب أن نتجنب تأليف مثل هذه الموسيقى)، فيرد عليه الموسيقي الفرنسي العظيم برليوز بالجملة التي حفظها له التاريخ: (اطمئن يا سيدي الأستاذ، لن يؤلف أحد كثيراً من مثل هذه الموسيقى). عزفت السيمفونية الخامسة لأول مرة عام 1808م في نفس الوقت مع (السيمفونية الريفية). (قارن: برنارد شامبينيول: تاريخ الموسيقى، ترجمة/ ثروت كجوك، الهيئة المصرية للكتاب، 1999م، ص125). وهي سلسلة نضال مرير لبيتهوفن، ويأسه الموجع، ثم معاودة الأمل، وانتهاء الأمر بصموده وانتصاره، فالموسيقى تعبير مباشر لذلك، بل تخرج عن نطاق صراع فرد في عوالمه إلى صورة عامة تتبلور في كفاح (الرجل) عموماً ضد (مصيره)، وكما أن بيتهوفن (الفرد) انتصر بالفن والإبداع تحت ضغوط مكثفة، وظروف قاسية، يكون الانتصار مرادف للإنسان الحقيقي وقدرته على الصمود، وعدم الاستسلام، ونهوضه من كبوات تواجهه، وتكاد تعصف بحياته.