سافرتِ يا حبيبتي منذ خمس سنوات، سافرت إلى بلاد غريبة يتوافد إليها الزوار، غادرت يا صديقتي ولم يكن في اليد حيلة ولا اختيار، تركتني وحيدة، وهاجرت قصراً، وبكيتِ كثيراً، وبكيتُ أنا أكثر، وعمت الدعوات في المكان، تمنيت لك طيب العيش والهناء ولكن لم يكن في القلب سوى أمنية تقول أرجوك لا تطيلي الغياب. مضت هذه السنوات بسرعة وبقينا على اتصال أنا وأنت، كبرنا ولكننا لم نتشارك اللحظات، لم نتشارك أيام الشباب، كبرنا فجأة ولم نعد معاً سوى بضع سنوات، كنت أحدثك دائماً على الهاتف وأذكرك بالأيام الملاح، كم كنا صغاراً وقتها، وكم من الذكريات تتدفق على البال، أيام عشناها بفرح وجنون، كم اشتقت إليك ولتلك الأيام، لقد أصبحنا الآن على أبواب الدخول للجامعة، فنحن نصنع طريقنا ونعمل على الحلم القديم، هل تذكرين أردتِ أن تصبحي مهندسة، وكنت دائماً أقول أريد أن أصبح طبيبة، ولكن الآن غيرت رأيي ولم يعد لي رغبة وآمال، أو تعرفين بما مررت، كم احتجتك بجانبي وكم مرة صرخت أريد ابنة خالتي أريدها بجانبي، يا إلهي كم تغيرت، كل نفس بداخلي تغير، ملأت الجروح قلبي وأصبحت مئات من القطع المتناثرة التي لا تقوى على الحراك، خسرت مرات عدة وانهزمت وصدمت بأناس من حولنا، ولكن المهم أني ما زلت أكن لك تلك المشاعر الجميلة وأتأمل رؤيتك في كل حال، ولكن ماذا عنك أخبريني أعرف أنك مررت بالكثير، شعرتِ بالوحدة كثيراً وتعلقت بناس وخذلك الكثيرون، سمعت عن بعض صديقاتك اللاتي سافرن أيضاً بعيداً عنك، وعن تلك الفتاة التي توفاها الله، كم قلقت حينها عليك عندما سمعت هذا الخبر، متأكدة أنه قتل جزءاً من روحك، وأيضاً عندما توفت جدتك لقد كلمتك حينها وكنت تبكين وتبكين كطفلة حرمها الله من والديها، أعرف كم كانت الغربة صعبة عليك، كم خانتك مرات، وكم اشتقت للجميع، هنا كنت دائماً تحمليني السلام للجميع وتسألينني عن أحوال القريب والبعيد. أتمنى حقاً لو كنت وقفت بجانبك وخففت ولو القليل من آلامك حتى لو من بعيد، ولكن أريدك أن تعذريني كنت في هذه الفترة من حياتي بمرحلة صعبة مضطربة وعصبية ودموعي تنهمر بسرعة، كنت أعاني بالفعل بكل ما تعنيه الكلمة ولم أكن أشاركك همومي لأنها عادتي التي لا أستغني عنها، لقد انشغلت عنك كثيراً، ولم أتصل بك سوى بالمناسبات أو أوقات الفراغ التي كانت قليلة، لقد ضعفت قليلاً هذه الصلة ما بيننا مع مرور الوقت فمثلما كبرنا كبرت مشاكلنا وهمومنا وانشغلنا بها عن بعضنا، فأحياناً كنت أتصل وأنت تدرسين وأحياناً أنت تتصلين وأنا نائمة، كم كان هذا مربكاً لكلينا، لقد تلاشت هذه الاتصالات في هذه الآونة الأخيرة، فأنت الآن تغيرت اهتماماتك وأفكارك وأدركت أنك تعرفت على صديقة بل على أخت جديدة أنت متعلقة بها بشدة تحبينها كما كنا نحب بعضنا البعض اسمها نعيمة، لقد أرسلت لي منذ زمن طويل بعض صورها، حقاً إنها فتاة يبدو عليها الطيب واللينة، وتكلمت لي عنها لساعات، وقلت إنك تكلمينها على الأقل في اليوم مرة، وعندما أغلقت الهاتف بعد محادثتك شعرت بيني وبين نفسي بالغيرة بل بالوحدة أو لا أعلم ما هو ذلك الشعور ولكنني شعرت بأنك وجدت لي بديلاً وأحسست بذلك مع الأيام وزادني ألماً ورهبة، ولكن أتعلمين كل هذا الحزن لم يكن يضاهي سعادتي وفرحي عندما عرفت أنك حصلت على المرتبة الأولى في امتحاناتك وأنك تبنين الآن حياتك تعرفتِ على جيران وتعلمت اللغات وتأقلمت مع جوك الجديد، أنتم الآن ستبيعون بعد هذه السنوات بيتكم الذي في المدينة أي الذي في جانب بيتنا كم اكتأبت حقاً عندما قررتم الاستقرار والبقاء هناك بعدما تيسرت أحوالكم ووجد أبوك عملاً جيداً، والآن ويا للأسف حصلت على جنسية البلد التي تعيشين فيها فلم تعد فقط المسافة التي تفصلنا بل الآن أيضاً الجنسية والوطنية والقومية، لا أعرف حقاً إن كنت أبالغ في كلامي؟ هل نسيت يا صديقتي جذور أمتك العريقة، لا أعتقد أنك فعلت! صحيح أنك أصبحت تتحدثين لغة غير لغتنا وأنك نسيت لهجتنا وبعض العادات القديمة وأصبحت بلا قصد تؤمنين بمعتقدات بلدك الجديدة إلا أنني متأكده أنك دائماً تفتقدين لأرض بلادك الأبية، صدقيني أرضك تشتاق لك كثيراً، أنت لم تسمعي بكاءها عندما غادرت كبكاء أم انتزع منها صغيرها، هي تشتاق لك لقطعة من روحها تريدك بشدة وتحبك لا تنسي أن لحم أكتافك من خيرها وبذرتك من أرضها ودماءك من ترابها، لقد تشرب جسدك هواءها، أعلم كم تحبين بلدك الأولى وكم ترغبين بالعودة، أذكر مرة قلت لي إن تلك الجنسية التي حصلت عليها كنتم بحاجتها حقاً فلم يعد أحد في تلك البلاد يرغب بمواطن غريب ضاقت عليكم الحياة ولم تجدوا المساند سوى هي، قلت إنها كانت الوسيلة الوحيدة وقلت أيضاً إنك بقيت لأسبوع تبكين بعدما حصلت عليها، تأثرت حقاً أنا في كل حرف تلفظت به وآمنت كما آمنت به، لا بأس حقاً بتغيرك أو بتغير معتقداتك وأهدافك وكلماتك المهم أنك ابنة أرضي في النهاية وابنة خالتي العزيزة من البداية، سيبقى أملي دائماً باللقاء بك إذا لم يكن في هذه الحياة فلا بد أن يكون في الحياة الثانية.