أدى الوجود الإسلامي في إسبانيا وصقلية، والتواصل الحضاري مع الدول المتعددة إلى انتشار الأساليب والمنتجات الإسلامية، ولم يشعر الأوروبيون بأن هذا الانتشار أجنبي ويهدد هويتهم، بل شعر المستعربون المسيحيون بأنهم ينتمون إلى الثقافة الإسلامية الإسبانية مثل المسلمين. لكن مع نشأة الحركة الصليبية وحملاتها ضد المسلمين، أصبحت هناك صورة مشوهة عن الإسلام والمسلمين في أذهان الأوروبيين ابتداء من القرن الثاني عشر. وهذا ما سنتطرق له هنا منطلقين من رؤية وليام مونتغمري وحديثه عن (الإسلام والوعي الذاتي في أوروبا).
الصورة المشوهة للإسلام
لقد أدت الحملات الصليبية حسب مونتغمري إلى زيادة اهتمام العلماء الأوروبيين بالإسلام كدين. فقد عرفت أوروبا أشياء عن الإسلام قبل ذلك عن طريق البيزنطيين والتواصل بين المسيحيين والمسلمين في إسبانيا، ولكن شاب هذه المعرفة معلومات مغلوطة حيث اعتُقِدَ أن المسلمين وثنيون يعبدون محمداً، أو أيضاً أن محمداً ساحر أو شيطان. يقول مونتغمري: (ليس من المستغرب أن أول من فهم حقيقة الإسلام كانوا هؤلاء الرجال الذين ذُكروا بوصفهم مترجمين. كرس بيدرو ألفونسو -اليهودي الذي اعتنق المسيحية- أحد حواراته للرد على الجدل المثار ضد الإسلام في بداية القرن الثاني عشر).
ويرى مونتغمري أن صورة الإسلام في القرون الوسطى تختلف عن صورته في العالم الحديث غير المتحيّز في أربع نقاط أساسية هي:
أ- الإسلام دين باطل.
ب- الإسلام دين انتشر بالعنف والسيف.
ج- الإسلام دين الانغماس في الملذات.
د- محمد هو المسيح الدجال.
وقد قام مونتغمري بالرد على هذه النقاط الأربع الخطيرة كالتالي:
أ- الإسلام دين باطل، محرّف متعمد للحقائق:
يرى مونتغمري أنه قد سيطرت المفاهيم التوراتية على رؤى الناس بخصوص الطبيعة والإنسان والرب في أوروبا خلال القرون الوسطى بطريقة يصعب معها إدراكهم بأنه قد يكون هناك أساليب بديلة للتعبير عن هذه الرؤى. ولما كانت تعاليم الإسلام تختلف عن تعاليم المسيحية، فلا بد من أن يكون الإسلام باطلاً. أي أنه تم الحكم على الإسلام بالبطلان من منطلق ديني بحكم اختلاف الديانتين، وبالتالي لا يمكن القبول أكاديمياً بتلك الصورة المشوهة عن الإسلام.
ب- الإسلام دين انتشر بالسيف:
إن الصورة الأوروبية عن الإسلام فيما يتعلق بهذه النقطة بعيدة كل البعد عن الحقيقة، فكما يذكر مونتغمري لم يُفرض على اليهود والمسيحيين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى الاختيار بين الإسلام والقتال، مؤكداً على أن اعتناق الإسلام كان نتيجة للدعوة أو الأنشطة الاجتماعية.
ج- الإسلام دين انغماس في الملذات:
لقد كان الإسلام بالنسبة إلى الأوروبيين في العصور الوسطى دين انغماس في الملذات خاصة الجنسية، فقد كان تعدد الزوجات الموضوع الأبرز الذي أسهم في خلق هذه الصورة. وهنا يرد مونتغمري قائلاً: (فالكتّاب الذين كان يُفترض بهم أن يعرفوا أن الحد الأقصى هو أربع زوجات، قالوا إنه سبع أو عشر زوجات، كانت بعض آيات القرآن تُترجم خطأ، لإعطائها إشارات جنسية ذميمة، على الرغم من أنها مقصودة في الآية). إذن يمكن القول إن محاولة رسم صورة مشوهة عن الإسلام هي محاولة غير بريئة، لذلك يتم اللجوء إلى الافتراء والكذب والتدليس، إلا أن الواقع يثبت غير ذلك.
د- محمد بوصفه المسيح الدجال:
يذكر مونتغمري أنه لم يكتف بعض الطلاب الأوروبيين ممن درسوا الإسلام بالقول إن القرآن يحتوي على الكثير من الباطل، وإن محمداً لم يكن نبياً، معتبرين الإسلام مجرد هرطقة مسيحية وأن المسلمين وثنيين، وهذا الحكم، هو حكم جاهز، لأنه ما دام الإسلام يخالف المسيحية في العقيدة والتشريع، فمن الطبيعي أن يلجأ الكتّاب إلى رسم صورة مشوهة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بغية النيل من الإسلام وفي الوقت نفسه الدفاع عن الديانة المسيحية، تفادياً لاعتناق اتباعها الدين الإسلامي، وإلا فلدينا الكثير من الدراسات الغربية التي تعتبر نبي الإسلام أعظم شخصية عرفها تاريخ البشرية.
أهمية التقارب مع الإسلام بالنسبة إلى أوروبا
بعد تلك الصورة المشوهة عن الإسلام، فما تبقى الآن هو تقدير أهمية تقارب العالم المسيحي - الغرب مع الإسلام.
حسب مونتغمري، يحيط الشعور بالنقص الذي عاناه الأوروبيون عند مواجهتهم مع حضارة المسلمين بعدة جوانب. كانت التقنيات في العالم الإسلامي متطورة أكثر من أوروبا، ونَعِم الأثرياء المسلمون بحياة مرفهة أكثر من الأوروبيين، ولكن تعد هذه أسباباً ثانوية. والصحيح يقول مونتغمري: (كان يُخشى من المسلمين عسكرياً في الماضي، ولكن أثبت الفرسان النورمان أنهم مثل المسلمين في قوتهم، إلا أن ما قض مضاجعهم هو امتداد الحكم الإسلامي. شاع اعتقاد في القرن الثاني عشر أن العالم ينقسم إلى ثلاثة أجزاء: آسيا وأفريقيا وأوروبا، وأن آسيا كانت مسلِمة بالكامل في الأغلب). وبهذا شعر المسيحيون أنهم الطبقة المحرومة، فكان الحل هو اللجوء إلى الدين في محاولة لإثبات أنفسهم.
ورغم كل هذا وغيره من المد والجزر في العلاقات المسيحية الإسلامية يرى مونتغمري أنه إذا أخذنا في الحسبان جميع جوانب المواجهة بين الإسلام والمسيحية في العصور الوسطى فسنجد أن تأثير الإسلام في العالم المسيحي الغربي أكبر مما يُعتقد، فالإسلام لم يشارك الغرب منتجاته وتقنياته واختراعاته فحسب، ولم يحفّز أوروبا فكرياً في مجالات العلوم والفلسفة فقط، بل حفّزها لتشكيل صورة لنفسها. وبسبب وقوف أوروبا ضد الإسلام، قللت من شأن التأثير الإسلامي، وبالغت في اعتمادها على تراث الإغريق والرومان. وقد علق مونتغمري قائلاً: (لذلك، مهمتنا نحن أوروبيو اليوم -حيث إننا ننتقل إلى عصر العالم الواحد- تصحيح الاعتقادات الخاطئة، والاعتراف بفضل العالمين العربي والإسلامي).
هكذا نصل في الأخير إلى خلاصة مفادها أن العلاقة بين الإسلام والمسيحية هي علاقة عرفت مداً وجزراً، وفي الوقت نفسه عرفت تلك العلاقة هجوماً غير مبرر على الدين الإسلامي ونبيه محمد عليه الصلاة والسلام، وقد استطاع مونتغمري بيان كشف خلفيات رسم تلك الصورة المشوهة.