يبحث البسيكوتاريخ في الدَّوافع السِّيكولوجية التي قد تكون وراء الأحداث التَّاريخِيَّة، وهو توجُّهٌ في البحث اعتمد التَّوفيق بين رؤى التَّحليل النَّفسي ومنهجِيَّة البحث في العلوم الاجتماعية لفهم الأسباب الخفيَّة لسلوك الأفراد والجماعات والدُّول والأمم.
لم يُعِرْ باحثو العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيّة في الماضي أيَّ أهمِّيةٍ تُذكر للجانب النَّفسي في التَّاريخ، ويبدو أنَّ (فقهاء التَّاريخ) اقتصرت جهودهم في السَّابق على تتبع الحياة الاجتماعية والسياسية دون الاشتغال على ما أسماه الأستاذ في جامعة هارفارد غوردن أولبورت وأحد مؤسسي علم نفس الشخصية بـ(الشخص الملموس)، إذ يتعين أن تنبع تحليلات البسيكوتاريخ ليس فقط من القوانين العامة بل ومن المفهومات السيكولوجية التي تنبع من حيوات كما عيشت فعلاً، ومن ممارسات اجتماعية كما مورست فعلاً، ولذا لا يجب أن تنطلق تساؤلاتنا فقط من مدى قدرتنا كباحثين على تبين الواقع، ولكن من التساؤل حول مدى قدرة الفاعلين الاجتماعيِّين على تبيُّن الواقع الذي يخبرونه كما هو. ويتعيَّن على المشتغلين بعلم النَّفس السِّياسي وكذا علم النَّفس التَّاريخي، أن يتدبَّروا على نحو جديٍّ التجليَّات الأيديوغرافية (دراسة الحقائق والعمليات العلمية الخاصة بمعزل عن القوانين العامة) للوجود الاجتماعي، والتَّعامل مع النَّاس ومع السِّياَّسات باعتبارها نواتج لنشاطات اجتماعية وممارسات اجتماعيَّة.
إن عدداً كبيراً من الباحثين المعاصرين استحضروا العامل النَّفسي ووظَّفوه في أبحاثهم، وركَّزوا على خُصوصيات مرحلة الطُّفولة المبكرة وطرق التَّربية خلالها، وعلى تأثيرات الأبوين في حياة الأفراد وطبيعة الصَّدمات النَّفسية التي تعرَّضوا لها، وعلاقة نشأتهم بسلوكياتهم المستقبلية خلال مرحلة تحمُّلهم المسؤوليات العامة في المجالين السِّياسي والعسكري والاجتماعي. وقد تَمَّ تسليط الضَّوء بالخصوص على الأفعال التَّدميرية في التَّاريخ مثل جرائم الحرب والإبادات الجماعية والتَّطهير العرقي والأوهام المجموعاتية والإكراه، ونشوة الانتصارات والأمجاد القومية.
يمكن اعتبار التَّحليل النَّفسي التَّاريخي طريقة في البحث تتوخَّى الإجابة عن الأسئلة الخاصَّة بالدَّوافع التي تُحَرِّكُ الشَّخصية، وتسعى إلى تفسير السُّلوك البشري. وقد استخدمت عبارات علم النَّفس التَّاريخي والتاريخ النفسي والسيرة النفسية بكثافة خلال السَّبعينِات من القرن الماضي. ويعود أول استعمال لمصطلح التَّاريخ النَّفسي (البسيكوتاريخ) إلى الكاتب الرُّوسي مولداً والأمريكي جنسية، إسحاق أسيموف (Isaac Asimov 1920 -1992)، فهو أوَّل من وظَّفه في إحدى رواياته عن الخيال العلمي وكذا في سلسلته الشَّهيرة في مجال التنبُّؤ بتاريخ المستقبل. أما أول استخدامٍ للمصطلح في الحقل الأكاديمي فكان على يد المحلل النفسي الدنماركي-الألماني- إريك أريكسون ( Erik H. Erikson 1902 -1994)، الذي استقر في الولايات المتحدة الأمريكية بعد احتلال النازيين للعاصمة النمساوية فيينا، وذلك في كتابه الذي خصصه لفتى الإصلاح الشّاب مارتن لوثر (1958)، حيث دعا المؤلِف إلى ضرورة الاستئناس بنظام خاص للتاريخ النفسي قصد دراسة تأثير الطَّابع البشري في التاريخ. ومن الذين اهتمُّوا أيضاً بتوظيف نظريات التَّحليل النفسي في كتبهم عن الأنظمة الشمولية نجد المؤرخ الألماني فيلهلم رايش (Wilhelm Reich 1897-1957) في كتابه علم النفس الجماعي للفاشية. كما كتب أيضاً في ذات السِّياق عالم النفس والفيلسوف الشَّهير إريك فروم (Erich Fromm 1900- 1980) حول الدَّاوفع النَّفسية وراء الأيديولوجية السياسية، ودور العوامل السيكولوجية عامة باعتبارها قوى فاعلة في العملية الاجتماعية، وبالخصوص في كتابيه: الهروب من الحرية، وتشريح نزوع الإنسان إلى التَّدمير (1973). كما نشر ثيودور أدورنو (Théodore Adorno 1903- 1969) أحد رواد مدرسة فرانكفورت كتابه الشَّهير عن الشَّخصية الاستبدادية في الخمسينات من القرن الماضي، وهو كتاب يحمل ملامح من قضايا التاريخ النفسي. وقد اهتم أيضاً المفكر الاجتماعي الأمريكي لويد دي موس Lloyd de Mause أيضاً بمنهج التَّاريخ النفسي، فهو أحد أهمِّ رُوّاده في العالم، وقد قدَّم العديد من المُساهمات في هذا المجال، إذ أنشأ مجلة التَّاريخ النَّفسي، وحاز رئاسة الجمعية الدولية للعلماء النفسانيين في ديترويت بولاية ميشيغان. وقد أدمج التَّحليل النَّفسي في الدِّراسات السِّياسية التي كان يقدمها بجامعة كولومبيا. وقد قام بتدريس مادة التَّاريخ النَّفسي في جامعة سيتي في نيويورك ومركز نيويورك للتدريب النفسي، وهو عضو في جمعية التدريب النفسي، وحاضر على نطاق واسع في جامعات أوروبية وأمريكية، وحاول في مؤلفاته المختلفة تبيان نماذج من الصَّدمات لدى الشخصيات الفصامية، والنرجسية، والمازوشية، والعصابية، والاكتئابية. وكتب عن تاريخ الطفولة والحياة العاطفية للأمم وعن التاريخ النفسي الجديد، وقد سلط الضوء في كتابه جيمي كارتر والخيال الأمريكي: استكشافات نفسية على سيرة هذا الرئيس، كما كتب أيضاً عن ريغن أمريكا. وفي ألمانيا خصصت الجمعية الألمانية للبحوث النفسية والتاريخ النفسي (Gesellschaft FÜR Psychohistorie) جزءاً كبيراً من برامجها وأبحاثها لدراسة خلفيات وجذور التطورات التاريخية والمؤسسات الاجتماعية والأعراف الثقافية والقرارات السياسية، عبر إسقاط منظور التَّحليل النَّفسي على التَّاريخ والثَّقافة والسِّياسة، من خلال التَّركيز على مرحلة الطفولة والتعامل إلى حد كبير مع علم النفس السياسي وكذا التاريخي باعتبارهما ميدانين يسمحان بالتأويل والقراءات المتعددة، ولذا فلا بد أن يتلقى المؤرخون تدريباً تكميلياً في علم النفس أو حتى (مساراً) في العلاج النفسي لتطوير قدراتهم كما هو الحال بالنسبة لإريك إريكسون الذي تلقى تدريباً وخبرة في العلاج النفسي في فيينا على يد آنا ابنة سيغموند فرويد.
انتعش التاريخ النفسي بالأساس في الولايات المُتَّحدة خلال مرحلة الستِّينات وما بعدها، وهو نوع من التَّحقيق في الأحداث التَّاريخية التي تدرس الينابيع النَّفسية العميقة لسلوك الأفراد، مثل القادة، أو بعض الجماعات، وكذا الأمم والحضارات بأكملها. وكما يشرح لنا المؤرِّخ بول هولوفيتز Paul H. Elovitz الأمر مُشبِّهاً ذلك التَّقصي، الذي يقوم به المُؤرِّخ اعتماداً على أدواته المختلفة، بعدسات التليسكوب، وعلم النَّفس هو أقوى تلك العدسات الموظَّفة.
استحضر المُؤرِّخون بشكل كبير العامل النَّفسي في دراسة السِّير التَّارِيخِيَّة. ومن أبرز البيوغرافِيَّات التَّاريخية النَّفْسِيَّة التي اشتهرت في هذا المجال، تلك التي خصَّصَتها الكاتبة الأمريكية فاون برودي Fawn Brodie (أصبحت لاحقاً أستاذة التاريخ بجامعة كاليفورنيا) لحياة توماس جيفرسون (Thomas Jefferson 1743 -1826) بعنوان فرعي: تاريخ حميم، وهو الكتاب الذي حقَّق أكثر المبيعات سنة 1974م، وفيه حاولت دمج الحياة العاطفيَّة والشَّخصِيَّة للرَّئيس الثالث للولايات المتحدة الأمريكية بقراراته العلنِيَّة، وقد استطاعت من خلال هذه البيوغرافية (أنسنته دون التقليل منه). تجلت مهارة الكاتبة في توظيفها التفاصيل الدقيقة التي استحضرتها عن طفولته وعلاقته مع الجارية الخُلاسِيَّة سالي همينجر (Sally Hemings 1773 -1835) أخت زوجته مارتا (Martha Jefferson 1748- 1782) من أبيها قبل توليه الرئاسة، وهي القضيَّة التي ظلت تلاحقه، فالإشاعات التي انتشرت بوجود أبناءٍ له منها، ظلَّ موضوعاً استأثر باهتمام الرَّأي العام لدرجة إخضاع بعض أبناء سالي السِّتَّة لاختبارات الحمض النووي بعد وفاة جيفرسون. وقد قدَّمت الكاتبة برودي لأول مرة في هذه السِّيرة المُثيرة للجدل أدِلَّة كثيرة بكون توماس جيفرسون كان والد أطفال سالي همينجز، التي هي ابنة الجارية بنتي همينجر (Betty Hemings1735 -1807) مـــن والد أبيض هو جون وايلز(John Wayles 1715- 1773) والد مارتا الزوجة الأولى للرئيس جيفرسون، والتي توفيت سنة 1782م. ومن المعلوم أنَّ جيفرسون أقام بعد وفاة زوجته رفقته ابنته وسالي في باريس حين كان سفيراً لبلاده بها، ومن الشَّائع خلال تلك الفترة إقامة علاقات حميمية مع الإماء بدل الزَّواج ثانية، وبعد أن انتخب جيفرسون رئيساً سنة 1800م تعرَّض للابتزاز بشأن ذلك من قبل عدد من الصَّحافيين، وبالرَّغم من نفي عدد من كُتَّابِ السِّير الذين اعتمدوا على مراسلاته ومواقفه في مذكراته لتلك العلاقة، باعتبار مواقفه المعادية للمزج بين البيض والسود، إلا أن البعض الآخر أكَّد صحّة المعلومات المُتعلِّقة بهذه العلاقة وما نتج عنها، خاصَّة الشَّبَهَ الكبير بينه وبين الأطفال الذين أنجبتهم سالي، والذين ظلَّ يحكمهم من النَّاحية الشَّرعية قانون الرِّق باعتبارهم عبيداً للسَّيِّد الرَّئيس.