مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

المعاجم في ثقافتنا العربية

تتغلغل جذور (الصناعة المُعجمية) عمقاً في تاريخ الثقافة الإنسانية. فلقد كانت المعاجم وستظل مفاتيح كنوز اللغة الباهرة، ومنابع الثقافة المتدفقة، ومدخل بحر معارفها الهادرة. وهي خير سند لمن يريد التبحر في ثقافة لغته الأم، واكتساب لغة أخرى. فكيف تستعيد هذه (الصناعة) رونقها وألقها وزخمها العريق؟.
 عندما يسلك طلاب العلم والترجمة والثقافة، طريق تعلمهم ودراستهم يسارعون للحصول على أمهات المعاجم، والقواميس اللغوية. ومن ثم، تباعاً، يحصلون على مصنفاتها الفرعية الأكثر تشعباً وتخصصاً. ولمَ لا.. فلا لغة ولا ثقافة، ولا علم ولا تعليم، ولا درس ولا تدريس، ولا تدقيق مصطلحي وبحثي دون هذه المعاجم ذات الصلة. فهي معاني الكلمات، ودلالات المصطلحات، وتفسير المفاهيم، وشرح التعبيرات.
وتُعنى المعاجم اللغوية بمفردات لغة فتشرحها وتوضح معانيها وتضع لها ما يقابلها من مفردات لغة أخرى. أما المعاجم المتخصصة فتهتم ببحث معاني المصطلحات المستخدمة في مجالات معينة. ويكون البحث من منظور لغة واحدة أو لغتين أو أكثر. ومنذ القرن الثاني الهجري وحتى أيامنا هذه.. عرفت اللغة العربية الكثير من أنواع المعاجم، وظهرت مناهج عديدة لطرق تبويبها.
المعاجم في ثقافتنا العربية
تغلغلت جذور صناعة المعاجم والقواميس على اختلاف أحجامها وأنواعها وتخصصاتها في بستان ثقافتنا العربية الإسلامية. وتعددت المعاجم العربية وتنوعت خلال العصور لحراسة العربية من أن يقتحم حرمها دخيل لا ترضى عنه، وصيانتها من الضعف والضياع. فمن المعاجم (أحادية اللغة) (عربي/عربي) ما يصنف المفردات في أبواب بعدد حروف الهجاء حسب المخارج الصوتية لحروفها الأصلية كمعجم (العين) للخليل بن أحمد الفراهيدي، و(تهذيب اللغة) لمحمد بن أحمد بن الأزهر الهروي. ويعد (الخليل) إمام المعجميين عامة، فهو من أوائل مَن شق طريق التأليف المعجمي. فقام بترتيب المواد حسب مخارج الحروف وقسّم المعجم إلى كتب، وفرّع الكتب إلى أبواب بحسب الأبنية، وحشد الكلمات في الأبواب، وقلّب الكلمة إلى مختلف الصيغ التي تأتي منها.
ووفق الترتيب الهجائي النطقي تنقسم المعاجم إلى أبواب بعدد حروف الهجاء وتسلسلها. ثم يتم ترتيب الكلمات في الأبواب وفقاً للحرف الأول منها، دون النظر للأصلي أو المزيد فيها. وهكذا ترد الكلمة في المعجم حسب نطقها أو لفظها. ومن أشهر هذه المعاجم: معجم (المنجد في اللغة) لعلي بن الحسن الهنائي، ومعجم (الرائد) لجبران مسعود، ومعجم (لاروس: المعجم العربي الحديث) لخليل الجر. وهناك ترتيب ألفبائي للأواخر- أو (القوافي) حيث تصنف المفردات في أبواب وفق تسلسل حروف الهجاء العربية. ثم يتم ترتيب الكلمات فيها بحسب أواخر حروفها الأصلية. ومن أشهرها: معجم (تاج اللغة وصحاح العربية) (اشتهر باسم الصحاح) لإسماعيل بن حماد الجوهري، و(لسان العرب) لابن منظور الأفريقي المصري، و(القاموس المحيط) لمحمد بن يعقوب الفيروزآبادي.
ومن المعاجم ما يصنف وفق الترتيب الهجائي الجذري إلى أبواب بعدد حروف الهجاء وحسب تسلسلها المألوف، ويخصص لكل حرف منها باب. ثم يتم ترتيب الألفاظ في الأبواب وفقاً لأوائل أصولها بعد إرجاعها إلى جذورها. وأشهر المعاجم التي تأخذ بهذا الترتيب: معجم (أساس البلاغة) لجار الله محمود بن عمر الزمخشري، ومعجم (المصباح المنير) لأحمد بن محمد الفيومي، و(المعجم الوسيط) الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، و(المعجم العربي الأساسي) الصادر عن المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة.
 أما المعاجم الموضوعة وفق الترتيب الدلالي فتنقسم إلى أبواب معنونة، ويأتي تحت كل باب العائلة الدلالية للكلمة عنوان هذا الباب. ففي معجم (الألفاظ الكتابية) لعبدالرحمن بن عيسى الهمذاني، نجد تحت (باب الزلة والخطأ): (يقال في الخطأ: كان ذلك من فلان زلة، وهفوة، وعثرة، وسقطة، وفلتة، ونبوة، وفرطة، وكبوة...). ومن أشهر هذه المعاجم بجانب معجم (الألفاظ الكتابية) معجم (فقه اللغة وسر العربية) للثعالبي، و(نجعة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد) لإبراهيم اليازجي.
 ومن أئمة اللغة والأدب (أبي عُبيد القاسم بن سلام)، ويتبنى بناء المعجم على المعاني والموضوعات، وذلك بعقد أبواب وفصول للمسميات التي تتشابه في المعنى أو تتقارب، وكانت طريقته من أولى المراحل التي بدأ فيها التأليف اللغوي، وبدأ كتباً صغيرة، كل كتاب يؤلّف في موضوع، مثل كتاب الخيل، وكتاب اللبن، وكتاب العسل، وكتاب الحشرات. وجمع أشتات هذه الموضوعات والمعاني في كتاب كبير، يضم أكثر من ثلاثين كتاباً مثل: خلق الإنسان، والنساء، واللباس، والطعام والشراب، ... ومجموع ما تضم هذه الكتب الثلاثون سبعة عشر ألف حرف وأكثر. كما أشرقت بواكير المعاجم (المتخصصة) حيث وضع (ياقوت الحموي) معجميه الشهيران (معجم البلدان) و(معجم الأدباء).
المعاجم ثنائية اللغة (عربي/إنجليزي)
وتكمن وظيفة المعاجم ثنائية اللغة أو متعددة اللغة في تحقيق التواصل مع جماعات لغوية أخرى في العالم. لذا ففي بدايات عصر النهضة العربية الحديثة ظهرت قواميس ثنائية اللغة (عربي/إنجليزي). ففي القاهرة ظهر عام 1911 قاموس الدكتور (خليل سعادة)، ثم أعقبه عام 1931 في القاهرة أيضاً قاموس الأستاذ (إلياس إنطون إلياس). ثم ظهر قاموس (النهضة) للأستاذ إسماعيل مظهر عام 1957، ثم (المورد) لمنير البعلبكي عام 1967، ثم توالت القواميس والمعاجم المتخصصة في حقول الطب والهندسة والطيران والأدب وغيرها.
كما نشط أهل اللغة الإنجليزية في وضع معاجم وقواميس ضخمة للغتهم الأم (أحادية اللغة) تضم ألوفاً من الكلمات والمصطلحات والعبارات المختلفة، ثم اختصروها على شكل قواميس صغيرة ليسهل حملها والتعامل معها. ولعل قاموس العلامة الأمريكي (نوح وبستر) (وضعه في بدايات تأسيس الولايات المتحدة في محاولة للبحث عن هوية تميزه عن أسلافه الذين تركهم للتو في أوروبا)، وقاموس (أكسفورد) البريطاني هما الأشهر في هذا الصدد.
حوسبة المعاجم
 ليس من المفيد اليوم الاقتصار على المعاجم الورقية الموضوعة على طريقة المناهج التقليدية، لأن تقنيات التخزين ومعالجة المعلومات التي توفرها الآلة تمكن من بناء معاجم آلية أكثر استيعاباً لأكبر قدر من المعلومات، وفي أسرع وقت ممكن، وبأقل ما يمكن من الكلفة وفق ضوابط لسانية وحاسوبية صارمة.
ويقوم الحاسوب بدور رئيس في المعجمية الحديثة، خصوصاً فيما يتعلق بحفظ مراحل التطور التاريخي لمعاني المفردات، فباستخدام الحاسوب يمكن حفظ المعلومات عن كل كلمة، ومقاطع من النصوص التي كانت تستخدم فيها في حقب زمنية مختلفة. وإذا ما تم تكريس هذه التقنية في اللغة العربية، فبإمكاننا تتبع مراحل تغيير معاني المفردات العربية عبر مراحل تاريخية عديدة، ومعرفة تردد كل مفردة، وتغيير الدلالات في النطق. مما سيوفر معلومات دقيقة عن التغيرات التي تحدث على كل جذر واشتقاقاته، مع حفظ سجل شامل للغة.
ولقد توسعت المعاجم من العالم الورقي التقليدي إلى عالم الأجهزة الإلكترونية. حيث ظهرت أجهزة صغيرة وذات قدرات تخزينية هائلة تضم ألوف المفردات والمصطلحات والتعبيرات. وكذا في عالم الإنترنت حيث لا يكاد اليوم يخلو موقع من المواقع المرجعية المعتبرة من قاموس أحادي أو ثنائي اللغة. وظهرت برامج إلكترونية (وتتطور دوماً) تقوم بالترجمة الآلية المباشرة من لغة لأخرى.
التعامل مع المعاجم وتعزيز اكتساب لغة ثانية
يُعد المعجم عنصراً فاعلاً في إثراء الخلفية اللغوية والمعلوماتية لطالب اللغة، فالقاموس بحر هادر من العلوم والمعارف التي قد يضن الوقت والجهد في توضيحها كلها للطالب أثناء الدرس. فبعض القواميس يحوى معلومات نادرة عن منشأ الكلمة والتغيرات التي طرأت عليها، وطريقة تصويتها وتهجئتها ومعانيها واستخدامها. وهناك ما يضم بين دفتيه معلومات عن المفردة كونها حديثة مستعملة أو قديمة متروكة أو نادرة الاستخدام.. إلخ. كما ويذيل بعض أصحاب القواميس أسفارهم بملخصات نحوية. كما أن التعود (اليومي) على استعمال القاموس ينمي الشعور بالاستقلالية، وحب البحث (الذاتي) عن المعرفة وهذا أرقى أنواع التعلم وأرسخها، ولو لم يكن للقاموس إلا هذه الفضيلة لكفاه فخراً!.
 وحديثاً لا يغفل مصممو الكتب الجديدة في مجال تعلم/اكتساب اللغة الثانية (بشقيها العام والمتخصص) عن الدور الحقيقي الذي يلعبه القاموس في تدعيم اكتساب/تعلم اللغة. وكذلك استثمار الوقت والجهد بما يسرع من تلك العملية ويطيل فترة احتباسها. ولقد تطور دور المعلم من مصدر وحيد للمعلومة إلى مشجع للطالب على استخدام قاموسه المناسب والمشاركة في البحث عن الحقيقة المطلوبة بنفسه. وبخاصة عن المفردات الجديدة. ويجب اختيار القاموس المناسب لمستوى المتلقي واختصاصه (لغة عامة- لغة متخصصة كالطب والهندسة والحاسوب…إلخ)، وحجم القاموس ونوعيته (كتاب، آلة صغيرة، موقع في الإنترنت…إلخ). ويبدأ متعلم اللغة بالقواميس ثنائية اللغة خلال المرحلة التأسيسية لمعرفة المقابل، وحينما يتقدم به التحصيل وتزداد حصيلته اللغوية من المفردات والمعاني المقابلة يستبدل ذلك القاموس بآخر أحادي اللغة (فرنسي/ فرنسي، أو إنجليزي/إنجليزي) ليزداد تحصيله من اللغة المنشود تعلمها/اكتسابها. ومن المعلوم أن المعجم الفرنسي (Le Petit Robert) يحتوي على 47.000 مدخل، بينما يتوافر (Le Petit Larousse) على 70.500 مدخل معجمي.
ومن الواضح أن المفردات التي يحويها القاموس بين دفتيه هي في الغالب مفردات (جامدة) مفرغة في الحقيقة من (الدلالة) بمعناها الحقيقي: الارتباط ما بين موجودات الواقع والتصويت، إذ لا يتضح معنىً لها، على الأقل بالنسبة لدارس اللغة كلغة ثانية/أجنبية إلا من خلال وضعها في جملة تكون من الناحية النحوية ودلالات النص (صحيحة مقبولة) (حسب فهم المتحدث بتلك اللغة كلغة أم). وعليه فإن مستخدم القاموس ينبغي أن يحذر من النقل التلقائي لموجودات القاموس ما لم يتأكد من فهم دلالات تلك المفردة.
كما أن (المقابل العربي) مهما كان دقيقاً قد لا يكفي لتوضيح المراد أو لحصره في الحدود التي رسمتها له المعاجم وهذا يعني أن المستعين بالقاموس يلزمه في الواقع أن يحذر من النقل التلقائي للمفردة من القاموس دون أن يمحص معناها الحقيقي حتى لا يقع ضحية لسوء الفهم.
نحو استعادة (الصناعة المعجمية) زخمها
 بالمقدار الذي انتشرتْ فيه المعاجم واتسعت واقتحمت الفضاء الإلكتروني، وأصبحت في متناول الجميع بكبسة زر واحدة، إلا أن (هجرانُ المُعجم) العزوف عنه هو سمة غالبة على سوق المعاجم التي كسدتْ وكسدَ معها اقتصاد العِلم والمعرفة في الوطن العربي. واختفى الوقت المخصص للقراءة، مما انعكس بالسلب على الكفاءة والمردودية العلمية والمعرفية واللغوية والثقافية. كما يوجد فهم مغلوطة رسخ في ذهن كثير من الطلبة وهو اعتبارهم المعجم وسيلة لشرح المفردات الصعبة وإيجاد مرادفات للمصطلحات الأجنبية فقط. والحقيقة خلاف ذلك، فالمعجم كِتابٌ للغة ومصدرٌ غنيّ للأدب والمثاقفة. فضلاٌ عن أن كثيراً من الكُتَّاب، خاصة في مجال الصحافة يكتفي بما اكتسبه من زادٍ مُعجمي متواضع، يتم تداوُلُه باستمرار، وتدويرُه في كلِّ مقالٍ جديد، مع تغذيتِه ببعض النُّتَفِ المعجمية المُكتسَبة من القراءة. فانمازَتْ بذلك الصحافة العربية بلُغتِها التقريرية الخالية من جمالية البلاغة والصّنعة والإتقان.
جمع المعلومات والمواد وإحصاؤها في ضوء المناهج التقليدية، يتطلب عدة أفراد لهم كفاءة علمية عالية، أو بالأحرى مؤسسات ومعاهد ترتكز على شخصيات مرموقة ومهمة. في مقابل ذلك، إن أهم ميزة في المعجم الحديث تتجلى في طابعه الجماعي، على سبيل المثال: المعجم الموسوعي الفرنسي، الذي ظهر سنة 1960، يضم حوالي 163.270 مادة معجمية، من بينها أكثر من 40.000 مفهوم اصطلاحي، واستغرق تحضيره سنوات عدة، وشارك في إعداده فريق علمي وثقافي رفيع المستوى أي ما يقارب 2000 فرد. فكيف نبني قاعدة بيانات معجمية للمفردات اللغوية (البسيطة والمركبة) موجهة لخدمة المعاجم الإلكترونية للغة العربية؟.
 يمكن الإشارة في هذا المضمار إلى بنوك المعلومات المصطلحية المنتشرة في مناطق مختلفة من العالم العربي (باسم) في المملكة العربية السعودية، و(مكانز) الشركة العالمية للإلكترونيات بالقاهرة، (المعربي) Lexar والذي تمت بلورته وتطويره فيما بعد بمعهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط. ولاشك أن التحديث المستمر للمعاجم العربية وتطويرها بما يجعلها سهلة مطواعة الاستخدام، ميسرة على الإفهام، مذللة الصعاب على الطلاب، مضيفة الجديد إلى القديم، والوافد إلى الأصيل ما يخدم لغتنا العربية ويفيدها أيما فائدة، في عصر التحديات الجسام.
 ولا شك أننا بحاجة إلى مؤسسة معجمية ومصطلحية ضخمة ونشطة لإنتاج معاجم متخصصة في العلوم والدراسات الأدبية وفي الثقافة والفن. وتضم أساتذة متخصصين في اللغة ومنفتحين على العلوم والمعارف المختلفة، ولهم دراية باللغات العالمية (لغات العلوم). كذلك، تقومُ على اعتماد التراث العلمي والمعرفي والثقافي العربي لإيجاد مرادفات عربية مناسبة ومعبرة، بدل تعريب الألفاظ الغربية. إن القدرة الاشتقاقية للغة العربية قدرةٌ جبارة جداً، بل ولا تضاهيها لغة أخرى على وجه الأرض، لذلك وجب تفعيل هذه القدرة لإغناء اللغة من داخلِها، وليس بتعريب مصطلحات غربية جاهزة وإقحامها في التداول اللغوي العلمي والمعرفي العربي عنوة. خصوصاً في الظروف الحالية، التي أصبح فيها العرب مستهلكين لكلِّ شيء، بما في ذلك اللغات والثقافات والأفكار الأخرى الوافدة علينا من جميع أصقاع العالم. وفي الختام: مُطالعة المعاجم والقواميس اللغوية تمنحُك زاداً مُعجمياً غزيراً ومتنوعاً. وإن تطور الصناعة المعجمية اليوم يضع الجميع أمام تحديات جديدة تجعلنا نفكر بعمق في البحث عن مزيد من الآليات التي يمكن إعمالها من أجل الاستثمار الأمثل لمعطيات هذه الصناعة العتيدة وتجلياتها الحديثة.

ذو صلة