في مجمل حديثهم عن تلك المكانة الخاصة، التي تحظى بها أغلفة الكتب، أكد نفر من أصحاب دور النشر، على ذلك الدور الرئيسي، الذي يلعبه غلاف الكتاب، سواءً في الترويج، أو في حجم الانطباعات الخاصة، التي تدُل على ما يحويه الكتاب من (مضامين وأفكار)، ومنهم من شبه غلاف الكتاب، بأنه عبارة عن (قصة حب)، تبدأ في الغالب من النظرة الأولى، وهي يمكن أن تكون عابرة، أو يمكن أن تمتد إلى فترات بعيدة، وهناك من أكد على أن غلاف الكتاب، ليس مجرد (عتبة) لا دلالة لها، لكنه نص آخر، ينبغي أن يُقرأ النص الإبداعي على ضوئه، وعلى العكس فيمكن أن يُصبح غلاف الكتاب، سبباً رئيسياً في تنحية القارئ عنه أو النفور منه!
على غرار الصناعات الحرفية
في أولى فترات العمر الإنساني، كان يندُر للغاية ظهور الكتب، كما كانت عملية نسخه، تتم في شهور، أو ربما في سنوات أحياناً، ويعود تاريخ تصميم أغلفة الكتب على نفس شكلها الحالي، إلى بداية القرن التاسع عشرالميلادي، وفي تلك الفترة، كانت أغلفة الكتب، تُصنع عادة من الورق الصلب والمقوى، وذلك لحفظ ما بداخله من مواد، وعلى غرار الصناعات الحرفية، كانت مواد صُنع الأغلفة، تتداخل فيها خيوط من الفضة أو الذهب في العديد من الأحيان، أو من الجلود المطعمة بالأحجار الكريمة، وهي صناعات اتسمت بالرُقي والفن الإبداعي، والحرفية في آن واحد، وكان هناك فنيون وعمال مطابع وصُناع كتب، يقومون بإعداد نسخ معينة من المخطوطات أو المؤلفات، لتقديمها إلى الحكام أو عِلية القوم والأثرياء، على اعتبار أنها مقتنيات وتحف نادرة.
ولكن في الوقت الحالي بالذات، تبين أن صناعة أغلفة الكتب، عبارة عن سلسلة متكاملة، وصناعة غلاف الكتاب هي بالأساس، تحويل الجملة اللغوية لعنوانه، إلى جملة بصرية، حيث إن الجملة البصرية، تؤدي في كثير من الأحيان إلى تعميق الجملة اللغوية، وهي تأتي قوية وضعيفة، حسب حساسية المصمم وتعاطيه الفنون البصرية، بدءاً باللوحة التشكيلية، انتهاءً ببعض العلوم المساعدة على تعميم بعض الأفكار الفنية، مثل علم الألوان والأشكال وثقافتهما، لكن الكتب الروائية أو الأدبية، دوماً ما يُستخدم فيها ألوان هادئة وبالأخص اللون الزهري، تداخُلاً مع اللون العاجي والسماوي، مع الابتعاد عن الخطوط الحادة، بجانب استخدام الخطوط الهادئة، للتعبير عن ما تحويه الرواية وعن البعد الأدبي للكتاب، وعن الكتب العلمية، فدوماً ما يكون لها أسلوب مختلف عن غيرها، حيث يجب أن تحتوي أغلفتها على رموز وصور معبرة عن محتواها العلمي، ويُفضل فيها استخدام الخلفية الداكنة للأزرق أو الرمادي، مع خطوط سوداء من الرسومات.
ولكن الكتاب الديني، يكون ذا رونق مختلف، لاعتماده على الزخارف في شكله الرئيسي، وذلك نظراً لضخامته، مع اختيار صيغة الألوان الذهبية والنحاسية والفضية، مما تعطي مهابة ملحوظة للكتاب، ومع مرور العقود تطورت تلك الصناعة سريعاً، وفي منطقة وسط أوروبا بالذات، جرى استخدام أغلى الأنواع من الأقمشة، مثل (الكتان الطبيعي والحرير الخالص)، واللذين يتم معالجتهما بأسلوب خاص، حيث أمكن الرسم عليهما، وتجليد الكتب بهما، وذلك العمل قد يقوم به مصمم أو حرفي متخصص، والذي يقوم بقراءة الكتاب في البداية، ثم يقوم بمناقشته مع المؤلف شخصياً، أو مع صاحب دار النشر، وهو ما يظهر نتائجه، على العمل نفسه ليظهر الكتاب بشكل جذاب، حسب نوعيته وحسب توجهاته، وخير مثال ما يظهر على المطبوعات الفكرية، والتي دوماً ما تكون ألوانها، أقرب إلى الأسود مع تدرجاته.
أغلفة أجهزت على كُتبها!
في العالم الغربي، يتجاوز غلاف الكتاب معناه، على اعتباره مجرد واجهة أولية، حيث تعدى ذلك، إلى ثقافة باتت تُقام لها أنشطة ومسابقات، تضم أفضل الأغلفة وغيرها، لأن أهم تصميم لأفضل الأغلفة، هو جعله ملفتاً للنظر، عند القيام بوضعه بجانب غيره من الكتب الأخرى، على الأرفف تمهيداً لعرضه للبيع، فمن أولى مهام الغلاف، أن يجذب إليه قارئاً جديداً وغير متمرس أو متردداً، حتى يقترب منه ثم يهم بإمساكه ليتأمله، حتى في حالة عدم معرفته بالكتاب أو بمؤلفه، أي أن مهمة الغلاف، تقديم تلك الخطوة الأولى من الجذب، ثم يتبعها عقب ذلك، تولي الكتاب تقديم نفسه وما يحويه من نصوص، وقد تكون تلك الخطوة خادعة أحياناً، لكنها أمر ضروري، قد تكون ملازمة لحالتي (العرض والتسويق).
ومن الملاحظ أن كثيراً من الكتب، باتت عرضة لسوء ترويجها، والكثير من أشهر الكُتاب، قد يفشلون في الوصول، إلى من يجهلوا كتاباتهم، ذلك لأن كتبهم، لم تجد طريقة العرض المؤثرة، بجانب غيرها من الكتب الأكثر إبهاراً، علماً بأن غلاف عرض الكتاب لا يملك سوى ثوانٍ قد لا تصل إلى دقيقة، مثلها مثل كافة الإعلانات التجارية، وعلى الرغم من تلك الثواني المعدودة، لكنها هي التي تتولى، مهام شرح محتويات الكتاب، وإقناع القارئ بما يحويه، مما يجعل تصميم الغلاف أكثر تعقيداً، وهناك نوع من تصاميم الأغلفة، قد تُجهز على الكتب قبل قراءتها، وتلك الأنواع من التصاميم (القاتلة) هي التي تعتمد دوماً، على نوعيات من اللوحات الفنية المعروفة أو المبهمة، اعتقاداً من المصمم نفسه، أن القارئ لديه مُتسع من الوقت، لكي يرى الغلاف، ويتأمل ألوانه، محاولاً فهم وإدراك اللوحة.
وهو ما أكده تقرير تم نشره على موقع (فيلب سناك) وموسوم بـ (ثورة تصميم أغلفة الكتب) والذي أظهر صراحةً، حجم الفروقات في تصاميم أغلفة كتب الأدب الخالدة، كما عرض التقرير الفروق والأثر البصري، والذي كان يخص أول تصميم لرواية (1984)، وهي من أشهر مؤلفات الكاتب البريطاني الشهير (جورج أورويل) والمنشورة في عام 1950م، وكانت بغلاف قد تم كتابته بخط اليد، مما يوحي بانطباع قديم، وكتبت عليه الأرقام بالكلمات على خلفية ذات لون أخضر داكن، بينما أتى تصميم النسخة الجديدة لنفس الكتاب، والذي قد حقق نجاحاً كبيراً، على مستوى الناشرين، والجوائز المخصصة بأغلفة الكتب، إذ تم رسم صورة لشخصية بعيون متعددة وملامح أكثر إثارة، مما أوضح ما أراد أورويل الحديث عنه في الرواية نفسها، ولكن بفضول أكثر وبشكل أكثر كثافة.
ترجمة بصرية.. ومعالجة تشكيلية
في المنطقة العربية وبالأخص في (مصر)، تُعد فترة الستينات من القرن العشرين، هي الانطلاقة الحقيقية لتصميم أغلفة الكتب والمؤلفات، وقد اعتمد المصممون فيها، على القراءة الواسعة والمتأنية للكتاب نفسه، ثم البدء بعد ذلك في ترجمته بصرياً، تضيف للنص ما يمكن أن يكون خفياً على القارئ، وقد اعتمدوا في ذلك، على معالجة سطح الكتاب معالجة تشكيلية، وظهرت كتب عديدة لأدباء تلك الفترة، مثل (يوسف السباعي ونجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس) وغيرهم، عكست أغلفتها ما تحويه كتاباتهم وإبداعاتهم، ومن أهم فناني تصميم أغلفة الكتب في نفس الفترة، كان (محي الدين اللباد وجمال قطب) وهما قد استلهما أفكار أغلفة كتبهما، من تلك الرموز البصرية، التي توافرت في حياة الشعب المصري اليومية، كما اعتُبر الخط هو (البطل) الأول في تصاميم أغلفة الكتب.
وهناك فنانون أمثال (وليد طاهر) استخدموا أقل الخطوط المجردة، لمعالجة أصعب الأفكار الفلسفية، التي يتناولها النص، بعد ما بسط طاهر تلك الأفكار في خطوط قليلة، لكنها اتسمت في الوقت نفسه بعمق شديد، بجانب اعتماده على النقلات الحادة، بين المساحات اللونية، ذات التضاد اللوني الواضح للعيان مثل (البرتقالي والفوشيا)، مما هيأ القارئ لفكرة التنقل بين كافة الأماكن، التي قد يناقشها النص، ثم إدخال خطوط بسيطة، ذات لونين محايدين أكثر صراحة، وهما (الأبيض والأسود)، لإصدار عنوان الكتاب في منتصف التصميم، ويمكن أن يتوسط تصميم الغلاف شخصية مرسومة بخطوط مختزلة، لكنها تكون محاطة بمساحات لونية مربعة، مع التدريج في كل من المساحة واللون.
انسيابية أفكار.. وزيادة مبيعات
ظهر في غالبية تصاميم (حلمي التوني) كمثال، إحاطتها بإطارات سميكة، تُحدد الفكرة، مما تدفع القارئ للدخول سريعاً في مضمون الكتاب، بجانب أن أسلوبه الفني، ارتكز على دعائم تشكيلية بحتة ليُعالج مساحة سطح الغلاف معالجة تشكيلية، أظهرت غلاف الكتاب كلوحة متحفية، وعلى سبيل المثال، في غلاف كتاب (ثلاثية غرناطة) يظهر الغلاف تتصدره، صورة لفتاة أندلسية ذات ملامح عربية، لها عيون واسعة وشعر ليلي مجعد، بينما الملابس وتبرج الفتاة، على نمط الطراز الإسباني، والكتاب نفسه محاط باللون الأحمر الداكن، وهو الذي أظهر الفتاة، كأنها في سجن وفي إطار دموي يصعُب الفرار منه، واستطاع التوني أن يعبر بشكل انسيابي، عن أفكار ثقيلة مليئة بتفاصيل فلسفية عميقة، وذلك في الكتب التي اتسمت بالرصانة.
ثم ينقل الناظر إلى أغلفة الكتب الخفيفة، إلى عالم من البهجة المطرزة بزخارف شعبية، تقوم بإنعاش الروح حالة النظر إليها، وفي الوقت نفسه تظهر في رسوم التوني لأغلفة مجموعة كُتب التلوين للكبار والصغار، حيوية واسعة مليئة بألوان جذابة، ووحدات زخرفية متكررة، مستمدة من البيئة الشعبية المصرية، مثل كُتب (كان زمان)، وتأكيداً على ذلك، أوضح المصمم والفنان العالمي (ديريك مارفي)، في أحد عروضه المصورة عن الأسرار الخفية للأغلفة، والتي تجعل من الكُتب والمؤلفات، تحت قائمة الأكثر مبيعاً.
ومن خلال تلك العروض أوضح مارفي، أن العلاقة بين ما بداخل الكتاب من مضمون وبين تصميم غلافه، هي علاقة (توازن) في أساسها، فلا يمكن للغلاف الجيد، أن يقوم برفع كتاب ذي مستوى ضعيف، والعكس يكون صحيحاً، فلا بد من وجود غلاف جيد، يحوي في طياته محتوى جيداً، ومن خلال ذلك يحقق شهرة، ويصبح بين الكتب الأكثر مبيعاً، موضحاً أن من أهم مهام مصمم أغلفة الكتب، هي إثارة القارئ، ودفعه لأن يتصفح الكتاب أو المؤلف، وبخلاف ذلك، فقد يصبح التصميم خارج نطاق النجاح، وعلى حسب قول مارفي، فإن الغلاف يُعد (البوابة) التي يدخل منها القارئ إلى عالم النص، وهو التعبير البصري، الأشد إحكاماً، عن مضمون الكتاب عموماً، من خلال التأني فيه.