مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

حفريات في مفهوم الوثيقة التاريخية.. مقاربات وتصورات

نسعى من خلال هذه الورقة البحثية إلى القيام باستكشاف نظري لمفهوم الوثيقة التاريخية بتشعباته وأبعاده المتعددة. وهذا الاستكشاف هو خلاصة قراءات وأفكار مستقاة من مراجع أو أدبيات تناولت بالدراسة والتحليل إشكالية مفهوم الوثيقة التاريخية. أما الأسئلة التي ستؤطر هذه الورقة فهي تندرج ضمن العلاقة التي تربط بين مفهوم الوثيقة التاريخية من جهة، ومكانة التاريخ كحقل معرفي له موضوعه ومنهجيته من جهة أخرى. ذلك أننا سنتطرق إلى التطور الحاصل بالنسبة لمفهوم الوثيقة التاريخية وذلك في ارتباط تام بالتجديد المستمر الذي عرفته المعرفة التاريخية وخصوصاً ذلك التحول الحاصل عند بداية القرن العشرين عندما أصبح التاريخ علماً اجتماعياً.
1 - المدرسة الوقائعية المنهجية: ثنائية الوثيقة/ المضمون الوقائعي
سادت المدرسة الوثائقية بفرنسا طوال القرن التاسع عشر وكان مرجعها الأساسي بفرنسا هو المجلة التاريخية La revue historique التي تأسست سنة 1876 على يد المؤرخ غابريال مونود Gabriel Monod، وكتاب (المدخل للدراسات التاريخية) لصاحبيه شارل فيكتور لانجلوا Charles-Victor Langlois وشارل سينوبوس Charles Seignobos سنة 1898 وهو عبارة عن دليل في البحث التاريخي أو خطاب في المنهج.
دعت هذه المدرسة إلى اعتماد البحث العلمي في التاريخ، متجنبة أي تأمل فلسفي، وهادفة الموضوعية المطلقة في مجال التاريخ، وقد اعتقدت أن بإمكانها الوصول إلى أهدافها بتطبيق تقنيات دقيقة تتعلق بجمع المصادر، ونقد الوثائق، وتنظيم خطوات المهنة على قواعد منهجية أضحت تشكل ثوابت ودليلاً في مهنة المؤرخ وطريقة في العمل التاريخي ولاسيما بعد صدور كتاب (المدخل للدراسات التاريخية) الذي أضحى خطاباً عالمياً في المنهج التاريخي. ويعود الفضل لكل من لانجلوا وسينيوبوس في التعبير عن وجهة نظر المدرسة المنهجية من زاوية نقل طرائقها وأساليب اشتغالها في حقل التاريخ إلى نوع من دليل عمل بالنسبة للباحثين طلاباً ومؤرخين وأكاديميين.
ينطلق المؤلفان من موقف غير مبال وأحياناً محتقر لميثولوجيا التاريخ كما هو حال التاريخ مع Bossuet، كذلك غير مبال بفلاسفة التاريخ أمثال هيجل Hegel أو كونت Auguste Comte، وأيضاً للتاريخ والأدب كما مارسه Michelet. كما عملا على نقد مفهوم العناية الإلهية التي استخدمت في تفسير الوقائع. صحيح أن المؤرخين لم يعودوا يلجأون إلى هذه الفكرة اليوم. ولكن الاتجاه لتفسير الوقائع التاريخية بأسباب تجاوزية متعالية Transcendantes استمر في النظريات الحديثة حيث بدأت الميتافيزيقا تتخفى تحت أشكال علمية. إن مؤرخي القرن التاسع عشر تأثروا بالثقافة الفلسفية التي أدخلوها -بغير وعي منهم- بصيغ ميتافيزيقية في بناء التاريخ.
حسب لانجلوا وسينيوبس فالتاريخ ليس إلا وضعية عمل بالوثائق Mise en œuvre de documents وهما بذلك يستعيران من ليوبولد فون رانكه Léopold von Ranke نظرية الانعكاس Théorie du reflet ويطرحان اختباء المؤرخ خلف النصوص، أي خلف الوثائق.
أول فصل في كتابهما بعنوان (في البحث عن الوثائق) يعرفان علم التاريخ انطلاقاً من أهمية الوثيقة التي يتركها السلف وفي ذلك يقولان: التاريخ يصنع من الوثائق والوثائق هي الآثار التي خلفتها أفكار السلف وأفعالهم، (…) وبفقدان الوثائق صار تاريخ عصور متطاولة من ماضي الإنسانية مجهولاً أبداً إذ لا بديل عن الوثائق، وحيث لا وثائق فلا تاريخ.
الوثائق إذن تحمل الوقائع التاريخية وعمل المؤرخ استدلالي ينطلق من معطى الوثيقة ليصل إلى حقيقة الواقعة. وحسب المؤلفين دائماً فإن الوقائع لا يمكن معرفتها تجريبياً إلا بطريقتين: إما مباشرة إذا لوحظت وهي تحدث، أو بطريقة غير مباشرة بدراسة الآثار التي تتركها، والنوع الثاني من الوقائع هي الوقائع التاريخية لأنها لا تدرك مباشرة إلا وفقاً لآثارها. ولهذا فإن المعرفة التاريخية هي بطبيعتها معرفة غير مباشرة، ولهذا السبب ينبغي للتاريخ ومن وجهة نظر المدرسة الوضعانية Ecole Positiviste أن يختلف كمنهج اختلافاً أساسياً عن منهج سائر العلوم التي تعتمد على الملاحظة المباشرة. وعلم التاريخ في نظرهم أيضاً مهما قيل فيه فإنه ليس علم ملاحظة.
(الوقائع الماضية لا نعرفها إلا من خلال ما بقي لنا من آثار عنها. صحيح أن المؤرخ يلاحظ هذه الآثار، وتسمى الوثائق ويلاحظها مباشرة، ولكنه ليس لديه بعد ذلك ما يلاحظه، بل ابتداء من هذه النقطة يسلك مسلك الاستدلال، محاولاً أن يستنتج الوقائع من الآثار الباقية على أصح وجه ممكن. فالوثيقة هي نقطة الابتداء والواقعة هي نقطة الوصول. وبين نقطة الابتداء ونقطة الوصول ينبغي المرور بسلسلة مركبة من الاستدلالات المرتبطة بعضها ببعض، فيما فرص الخطأ عديدة، وأقل خطأ سواء ارتكب في البداية أو الوسط أو في نهاية العمل، يمكن أن يفسد كل النتائج).
ومن هذا يتبين أن المنهج التاريخي، أو منهج الملاحظة غير المباشرة أدنى مرتبة من منهج الملاحظة المباشرة، لكن ليس أمام المؤرخ هنا خيار، فهذا المنهج التاريخي هو وحده الموجود للوصول إلى الحقائق الماضية. والتحليل المفصل للاستدلالات التي تقود إلى المشاهدة المادية للوثائق إلى معرفة الوقائع، هو جزء من الأجزاء الرئيسة في المنهج التاريخي. إنه ميدان النقد للوثائق بقسميه الداخلي Critique interne والخارجي Critique externe كما هو شائع في عرف المؤرخين.
على ضوء ما سبق يبدو واضحاً أن الدعوة التي أطلقتها المدرسة المنهجية/الوثائقية على لسان لانجلو وسينوبوس، كانت تحمل محاولة تجاوز لما آلت إليه الفلسفة الوضعية في فلسفتها التطورية وفي شقها التاريخي الذي سمي بالنزعة (التاريخية) وإن كانت في أساسها ومنطلقها جزءاً منها. لكن هل حققت هذه الدعوة على مستوى الممارسة (البحث التاريخي) توجهاتها الفعلية؟
لقد كان هم هذه المدرسة هو الوصول إلى معرفة الحوادث وكيفية حدوثها ومن أجل ذلك عملت على تأسيس النقد والتمحيص الدقيق للوثائق المكتوبة، فكان عمل هذه المدرسة إحياء الأحداث التاريخية من جديد، بغض النظر عن محيط الأشخاص والوقائع وهكذا سقطت ودون أن تدري في التاريخ الحدثي، وفي خلفيات التاريخ الوثائقي التي تؤدي إلى انحياز واضح لإستراتيجيات الدول القائمة وبالتالي إلى كتابة تاريخ جد رسمي. وفي هذا الإطار يلاحظ غي بورده Guy Bourdé وهرفه مارتن Hervé Martin: (أن النص التاريخي الذي تقدمه هذه الكتب كما في الكتب التي تستلهمها متشبع بالحدث، وبالتاريخ السياسي، ومقطع إلى محطات يفصل بينها تغير حكومات أو أنظمة كما تترابط الأحداث عبر سببية خطية Causalité Unilinéaire، أما الوقائع فهي سياسات وتركيبات وزارية ومناظرات برلمانية وانتخابات تشريعية).
وفقاً لهذه الملاحظة نستنتج بأن لائحة الوقائع التاريخية (الظروف المادية، العادات المادية، والعادات الاقتصادية، النظم الاجتماعية…) التي تحتل أوجه النشاط البشري في الأزمنة التاريخية وكما رسمها كتاب (المدخل للدراسات التاريخية) لا تترجم جميعها على صعيد الممارسة التاريخية، فثمة انقطاع يلاحظ ما بين طموح دعوة المدرسة المنهجية/الوضعانية كما يشرحها كتاب لانجلو وسنيوبوس، وبين ما كتب في الإسطوغرافيا الفرنسية.
إن ما تشير إليه قائمة الوقائع لم تشغل اهتمامات مؤرخي المدرسة المنهجية بل ظلت جزءاً من اهتمامات علماء الاجتماع أو الاقتصاد، أو الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا. هذه الفراغات في البحث التاريخي، هي التي مهدت لظهور مدرسة فرنسية جديدة ستعرف باسم مجلتها (الحوليات) Les Annales، طرحت نفسها مشروعاً جديداً متجاوزاً للمدرسة المنهجية (المجلة التاريخية) سواء على مستوى المنهج أو على مستوى توسيع الحقول في التاريخ سواء في المكان أو الزمان، أو على مستوى انتشار العلائق المشتركة فيما بين العلوم الإنسانية.
2 - مدرسة التاريخ الجديد : تاريخ جديد ووثائق جديدة
حسب المدرسة الوضعية فالتاريخ لا يكتب إلا حيث توجد الوثائق المكتوبة، كما أن المؤرخ التقليدي في ممارساته متعود على أن يتجه مباشرة إلى النصوص والوثائق بهدف استحضار الماضي. هذا الاعتقاد السائد الذي ظل راسخاً لدى المدرسة الوثائقية سيصير بمثابة بناء عتيق ستتهاوى جدرانه، وبخاصة مع مدرسة التاريخ الجديد التي ستنعت المدرسة الوثائقية بمدرسة الحروب والعقود فلا معطى الوثيقة مقدس بذاته ولا الواقعة التي تشير إليها الوثيقة هي الحقيقة بذاتها.
لقد حاولت مدرسة التاريخ الجديد مع أحد أبرز مؤسسيها وهو لوسيان فيفر Lucien Febvre إبراز عقم التاريخ بأسلوب حدثي واعتماداً على الوثيقة المكتوبة. وفي هذا الصدد يقول لوسيان فيفر: (لاشك أن التاريخ يكتب اعتماداً على الوثائق المكتوبة إذا وجدت، لكن يمكن، بل يجب أن يكتب اعتماداً على كل ما يستطيع الباحث بمهارته وحذقه، أن يستنبطه من أي مصدر: من المفردات ومن الرموز، من المناظر الطبيعية، ومن تركيب الآجر، من أشكال المزارع ومن الأعشاب الطفيلية، من خسوفات القمر ومن مقارن الثيران، من فحوص العالم الجيولوجي للأحجار ومن تحليلات الكيميائي للسيوف الحديدية).
إلى جانب لوسيان فيفر، يقر مارك بلوك Bloch Marc أيضاً بأهمية الوثائق، وبأهمية التحقق والتبحر بمعطياتها ومقرراتها وجزئياتها. لكن ذلك لا يكفي لأنه لا يجب ألا يكتفي بالوثائق وحدها كمصادر للتاريخ، إن ركام الوثائق التي يمتلكها التاريخ ركام غير محدود. ولا يقتصر التاريخ على الوثائق المكتوبة: (إذ يمكن استكمال دراسة الحركات السكانية والهجرات، من خلال المقابر الأثرية في منطقة من المناطق أو حضارة من الحضارات. ثم عن المعتقدات والمشاعر والعواطف يمكن أن تنبئ عنها الصور والرسوم والتماثيل أكثر مما تنبئ عنها النصوص).
لا يدعو مارك بلوك هنا إلى اكتشاف مصادر جديدة للتاريخ فقط، بل يدعو إلى توسيع حقل التاريخ نحو اتجاهات مختلفة: باتجاه الأنثروبولوجيا التاريخية، دراسة الفلكلور والعادات ومظاهر السحر، ثم باتجاه مجال تاريخ العقليات كما فعل جاك لوغوف Jacques Le Goff وآخرون. كما درس حقول علم الاجتماع الديني في أزمنة تاريخية معينة، وإلى جانب كل هذا فإنه يدعو أيضاً إلى الاهتمام بأصل الكلمات وتطور استخدامها في التاريخ.
وإلى جانب فيفر وبلوك، ثار فرناند بروديل Fernand Braudel هو الآخر على التاريخ التقليدي الذي عودنا على الاهتمام أكثر بالأحداث وبتسلسلها الزمني بوصفها أحدثاً نابعة من إرادات واعية تحددها للوثائق المكتوبة فكأن غاية المؤرخ هي الوقوف على مغامرات الرجال العظام وإيراد سيرهم الذاتية وكأن ذلك هو الذي يفسر التاريخ. وبصيغة أخرى يؤكد بروديل أن الحدث في حد ذاته غير قابل للفهم ما لم يبحث له المؤرخ عن سياقه ضمن بنية أشمل تدخل في عين الاعتبار السياسي والمجتمعي والجغرافي، فإنه يظل عاجزاً عن الوقوف على معناه الحقيقي. ولم ينفرد بروديل وحده بالثورة على التاريخ التقليدي، فقد انخرط كذلك أحد كبار المؤرخين الفرنسيين، إنه إيمانويل لوروا لادوري Emmanuel Le Roy Ladurie في كتابه (موطن أو مجال المؤرخ) وهو حامل شعار (تاريخ بدون إنسان).
تأسيساً على ما سبق يتضح أن المدرسة التاريخية الحديثة قد دعت إلى إحداث تحولات كبرى في صناعة التاريخ، ويبقى أبرز هذه التحولات هي تلك التي شملت مفهوم الوثيقة، وهي أساس عمل المؤرخ بلا شك، إذ عملت على توسيع مجالها فلم تعد تقتصر على ما هو مكتوب فقط، وباتساع هذا المجال اتسع كذلك ميدان التاريخ إلى كل المجالات الأخرى. ذلك أن الأدوات الجديدة التي صارت بين يد المؤرخين مكنتهم بأن يتبنوا داخل حقل التاريخ طبقات رسوبية متباينة.
هذا التطور الحاصل على مستوى الوثيقة سيتبلور أكثر مع إبستيمولوجيين أمثال بول فاين Paul Veyne وهنري مارو Henri-Iréné Marrou، هذا الأخير يعرف الوثيقة (بأنها كل مصدر للأخبار يتمكن من خلاله فكر المؤرخ من استخلاص شيء من أجل معرفة الماضي البشري منظوراً إليه من خلال الإشكال المطروح وشيئاً فشيئاً تتسع الفكرة وتنتهي باحتواء نصوص وآثار وملاحظات من كل نظام). كما يعتبر بأن فكرة الوثيقة تتقدم مع تعميق فكرة التاريخ، ذلك أن الإدراك الضيق للشاهد في نظره يؤدي إلى تاريخ مجمل حدثي بحدة. أما بول فاين فهو يرى من حيث الجوهر أن التاريخ معرفة بواسطة الوثائق، ولكن السرد التاريخي يتجاوز كل الوثائق ويضع نفسه فيما وراء الوثائق. ويرجع ذلك إلى كون أي وثيقة لا تستطيع أن تكون هي بذاتها الحدث، فالوثيقة ليست محاكاة للحدث بل هي حكاية عنه. ونفس المعنى تقريباً نجده عند إدوارد كار Edward Carr إذ يرى (بأن الوثائق هي أشياء أساسية بالنسبة للمؤرخ، ولكن تجنب أن تجعلها معبوداً، فهي لا تشكل التاريخ بحد ذاتها إلا أنها تعطي في ذاتها جواباً غير جاهز عن السؤال المتعب ما هو التاريخ؟).
مجمل القول، إن كل ما تبقى من الماضي يمكن اعتباره كمؤشر يعبر عن شيء كان له وجود في الماضي، وهو ما جعل عبدالله العروي يطلق على الوثيقة اسم الشاهدة، ففي نظره لا وجود للوثيقة المجردة، كل ما يوجد هو وثيقة متميزة يستغلها الباحث ويبني على هذا الوضع نتائج بالكيفية التي يبني بها المؤرخ التاريخ.
على ضوء ما سبق نستنتج بأن إعطاء تعريف موحد للوثيقة، أمر صعب، وذلك بالنظر إلى تعدد أنواع الوثائق التاريخية واختلاف مفهومها وذلك بحسب الاتجاهات والتيارات التاريخية المعاصرة. ذلك أن علاقة المؤرخ بوثائقه ومصادره تعد من بين الإشكالات الإبستيمولوجية المتكررة لعلم التاريخ. وبحسب المعنى الذي استخدم من طرف المؤرخين، الوثيقة تأخذ مفهوماً يختلف حسب الاتجاهات والتيارات التاريخية المعاصرة سواء على مستوى المفهوم أو على صعيد المنهج المتبع في معالجتها.
ملاحظات ختامية
إن للوثائق بأكملها أهمية كبرى في البحث التاريخي، فهي تستخدم في الغالب كمناجم يستخرج منها التاريخ الخام ليس إلا. ويمكن القول بأن تصورات رواد اتجاه التاريخ الجديد وإسهاماتهم المنهجية، ستؤدي لا محالة إلى توسيع مفهوم الوثيقة التاريخية لتشمل كل ما يمكن للمؤرخ أن يستقي منه مادته التاريخية، كما أن تقنية استنطاقها في ظل هذا الاتجاه ستفرض معالجات جديدة على الخزان الوثائقي، جعلت معالجة المؤرخ لمخلفات الماضي البشري تخضع لأسئلته ولثقافته وبنيته الفكرية، هذا بالإضافة إلى توظيف مكتسبات بعض العلوم الإنسانية الأخرى (مثل الأنثروبولوجيا والسيميائيات واللسانيات...إلخ) كعلوم فرضت نفسها ولم يعد من الممكن تجاهلها.
إن الإقرار بهذه الأمور لا يعني أن النقد الوثائقي -كما تصورته المدرسة الوضعانية- لم يعد صالحاً بل على العكس من ذلك إن قوة المنهج النقدي تبقى غير قابلة للنقاش، ولكنها غير كافية. وعلى هذا الأساس فإن المؤرخ يحتاج في فهم ما يوجد بين ثنايا سطور الوثيقة التاريخية إلى مركبه العقلي وخياله ومنهجيته العلمية. إن مرحلة النقد الوثائقي وعلى الرغم من أهميتها في فهم الوثيقة، وفهم الحدث عبرها، ذلك أن النقد الوثائقي/ الوضعاني، ينطبق أكثر على الوثائق السياسية والديبلوماسية التي تترجم التاريخ الحدثي Histoire évènementielle والسردي وتاريخ المدة القصيرة أو التحولات الفردية السريعة، وهم المؤرخ في هذه الحالة هو تحقيق الأحداث فقط ومعرفة زمن حدوثها ووقوعها. ولعل هذا الأمر هو ما يتعارض مع الاتجاهات التاريخية المعاصرة التي تستعمل أنواعاً أخرى من الوثائق، وتتوخى الكشف ليس فقط عن التغيرات القصيرة بل ذات المدة الطويلة. وهذا ما يقتضي تعاملاً من نوع خاص مع الوثيقة التاريخية، فالنقد الوثائقي يكثر من الأسئلة على الوثائق ولا يدعها تتكلم من تلقاء نفسها. وبالتالي يرغمها بهذه الطريقة أو الكيفية على إعطاء معلومات قد لا تتوافر عليها. وبعبارة أخرى أكثر وضوحاً يتم التعسف عليها بالاستنتاجات، يضاف إلى ذلك أن التحليل النقدي للوثيقة لا يعني وجوداً قطعياً لحدث ما. بل فقط إمكانية الاعتماد عليها كشاهد، وهنا تطرح ضرورة فهم الوثيقة وهذا الأخير يتجاوز النقد الوثائقي ويعمل بذلك على توظيف واستغلال ثقافة المؤرخ وبنيته الفكرية.
 وفي الختام نردد ما قاله هنري مارو Irénée Marrou: (فمفهوم فكرة الوثيقة يعتمد على المؤرخ على بديهته وبراعته في استخدام أدواته في العمل ومعرفاته، ولكن قبل كل شيء على ما في ذاته، على ذكائه، نافذة عقله، وعلى ثقافته). ولهذا فالمعرفة التاريخية هي رهينة بالغنى الذاتي للمؤرخ وليس بغناه الوثائقي. إن الوثائق أو النصوص ليست من الأدوات الشفافة التي تساعد على الوصول إلى مضامين جامدة، بل هناك عدد من الدلالات التي لا تخاطب الباحث إلا إذا تبنى هذا الأخير قراءة تتعدى البحث عن وقائع معزولة. إن القراءة المتعددة للنصوص أو الوثائق لا تعني نبذ الاستعمال الوثائقي لها. بل تعني عدم الاقتصار على ذلك الاستعمال، لأن المؤرخ ربما ينخدع بمعطيات مشبوهة، وبين تفاهة الشكل وأولوية المضمون الذي يفترض عادة المنهج النقدي تأتي القراءة المتعددة لتجعل الشكل يتحول إلى مضمون إذا ما وظف المؤرخ أدوات ومفاهيم راكمتها العلوم الإنسانية والاجتماعية.

ذو صلة