في ظل التردي اللغوي، يصبح من الضرورة بمكان تصميم اختبارات دقيقة تقيس مدى تمكن الناطقين بالعربية من إجادتها سواء أكانوا من أهلها أو من غير أهلها. لذا تسعى العديد من الجهات العلمية العربية إلى السير في هذا الإطار بوضع اختبارات ذات نتائج دقيقة صالحة للتطبيق، ومن ثم نيل الاعتمادات العلمية وتعميم التجربة لتحقيق أقصى درجات الإفادة منها، وذلك على غرار اختبار التوفل (Toefl) الذي يعد من أشهر الاختبارات العالمية، ويشهد تقدماً ملحوظاً في الاختبارات المعيارية لقياس الكفاءة اللغوية الإنجليزية القائمة على الحاسوب، إلى جانب اختبار Paper and Pencil Test الذي يعتمد على الورقة والقلم، وكلها تحدد مستوى الدارسين الأجانب الذين يرغبون في مواصلة الدراسة بالجامعات التي تستخدم اللغة الإنجليزية أو التواصل مع الدول الناطقة بها.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما سبب عدم وجود اختبار كفاءة في اللغة العربية حتى الآن؟ تشير الإجابة إلى العمل الفردي من جانب كل دولة عربية وعدم التنسيق فيما بين هذه الدول، ولا شك أن الصورة ليست قاتمة تماماً، فهناك محاولات قامت بها بعض الدول العربية مثل المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية، والمملكة الأردنية، والمملكة المغربية، والجمهورية العراقية إلى جانب مصر، كما أن هناك محاولة قامت بها إندونيسيا. وتصبح المسألة أكثر إلحاحاً خاصة فيما يتعلق بالناطقين بغير العربية من المسلمين، مما يحد من انتشار اللغة العربية في الدول الإسلامية، حيث ينتهي الأمر عند حد تعلم تلك اللغة دون وجود اختبار معياري موحد يتم الاعتماد عليه في التأكد من مدى قدرتهم على الانخراط في مجتمعاتهم.
هناك العديد من التوصيات التي صدرت عن بعض المؤتمرات العربية حول ضرورة إعداد اختبار عربي دولي موحد للكفاءة اللغوية، وهناك أيضاً رغبة صادقة من قبل جامعة الدول العربية ممثلة في إدارة الثقافة، وظهر ذلك جلياً خلال عقد المنتديات واللقاءات التشاورية بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية الذي يوافق يوم 18 ديسمبر سنوياً، ما يؤكد وجود الرغبة السياسية من جانب أصحاب الفخامة رؤساء وملوك الدول العربية. ربما يكون العائق هنا تمسك كل دولة بالاختبار الذي وضعته وترى أنه الأفضل على الإطلاق، وليس غريباً أن نرى أن معظم الدول العربية لم تشارك في هذا الأمر. مما يثير قضية مهمة: هل تقبل كافة الدول العربية تطبيق الاختبار العربي الموحد المقدم من بعض الدول؟
معايير الكفاءة اللغوية
الكفاءة لغوياً تعني: المساواة بين شيئين: كفاءة الزوج لزوجته في الحسب والنسب، وهي أيضاً القدرة على العمل وحسن التصرف فيه. واصطلاحاً عند علماء التربية هي القدرة المعرفية أو الوجدانية أو المهارية التي تصاغ في صورة أهداف سلوكية تحدد الأداء المطلوب من الفرد المتعلم. وهي أيضاً مدى إجادة المتعلم للمهارات اللغوية لغرض محدد وهي ذات مستويات متعددة. وتتمثل معايير الكفاءة اللغوية - المعيار: الحد الأدنى من الأداء المتوقع في الوظيفة الاتصالية للغة، تعلم اللغة بطريقة تكاملية، أثر تعلم الثقافة على دراسة اللغة.
نماذج اختبار الكفاءة اللغوية العربية
ونيابة عن العرب قدمت الأمم المتحدة عام 2006 امتحان الكفاءة في اللغة العربية مكوناً من جزأين، يقيس الجزء الأول مهارات الإنشاء من خلال كتابة ما بين 200 : 250 كلمة في أحد الموضوعات خصص له خمسون دقيقة وحددت له عشرون درجة، واختص الجزء الثاني بقياس مهارات كل من: فهم اللغة المسموعة من خلال الاستماع إلى جمل وحوارات قصيرة وأخبار متنوعة لمدة 40 دقيقة، وفهم اللغة المكتوبة ويشمل نصين طويلين يعقبهما أسئلة لمدة ساعة، والمفردات من حيث المترادفات والأضداد وإكمال جملة، والقواعد النحوية، وسلامة الجملة كتابياً لمدة 25 دقيقة. ومن الجدير بالذكر والاهتمام أن وزارة المعارف الإسرائيلية قدمت عام 2010م اختباراً في الكفاءة العربية يهدف إلى قياس كفاءة اللغة العربية للمتقدمين للعمل بالتعليم في المدارس العربية ويضم أسئلة حول: فهم المقروء من خلال نص مطول لأديب عربي يعقبه 18 سؤالاً (اختيار من متعدد - سبعة أسئلة مقالية - أسئلة حول المعرفة اللغوية وتدور حول تشكيل أواخر الكلمات في النص المعروض، والتعرف على جذر الكلمة والإعراب والمصدر والوزن، وأسئلة حول التعبير الكتابي من خلال كتابة موضوع في ثلاثين سطراً مع مراعاة تجنب المقدمة الطويلة، وصحة الأسلوب واللغة، وسلامة عرض الأفكار والإملاء واستعمال علامات الترقيم ووضوح الخط.
النموذج السعودي
شهد عام 2012م قيام المركز الوطني للقياس والتقويم بوزارة التعليم العالي بالمملكة العربية السعودية بتدشين اختبار اللغة العربية المقنن لغير الناطقين بها، صمم وفق المعايير والأسس العالمية، ويتكون من مهارات: فهم المقروءة، الكتابة وفهم المسموع، وتوزع الاختبار على ستة أقسام بواقع 25 دقيقة لكل منها، ورغم أنه لم يشمل كل مهارات اللغة العربية وفروعها إلا أنه يمثل جهداً طيباً يمكن البناء عليه. ومن جانب آخر فهناك تصور شامل من قبل مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية في مجال اختبار الكفاءة في اللغة العربية، يهدف إلى: التعريف بالجهود العربية التي بذلت في مسار تصميم الاختبارات، والتواصل بين المعنيين من كل أنحاء الوطن العربي للتكامل والإفادة والتنسيق، وربط جهات تعليم اللغة العربية بالجهات التي تقدم خدمة اختبار الكفاءة وتحقيق الفائدة المرجوة منها، والتنبيه على أهمية هذا الحقل المعرفي، والوصول إلى معايير لاعتماد الاختبارات النوعية على مستوى المؤسسات العربية. وأشار المركز إلى حق كل دولة عربية في ترشيح متحدث واحد عن كل مشروع من مشروعات اختبارات الكفاءة، وتقديم عرض تعريفي بها سواء أكان المشروع منجزاً أم في طور الإنجاز، على أن تكون هناك ثلاثة محاور رئيسة: أولها: اختبارات كفاءة اللغة العربية للناطقين بها للمتخصصين في علومها ولغير المتخصصين بها، ثانيها: اختبارات كفاءة اللغة العربية للناطقين بغيرها، ثالثها التوصيات. وأكد المركز أن المخرجات المتوقعة تتمثل في استفادة الجهات الحكومية العربية من هذه الاختبارات وفوائدها في تحقيق الهوية اللغوية والأمن القومي، وإصدار توصيات تثري التجارب العربية وتسهم في إنجاحها.
النموذج المصري
أعد مركز الشيخ زايد لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها بجامعة الأزهر اختباراً لقياس الكفاءة العامة في اللغة العربية لخريجي المركز تمهيداً لإلحاقهم بكليات الجامعة، من خلال كتب سلسلة الأزهر المبنية على وثيقة معيارية محكمة، شملت أسس لغوية (اللغة كحديث ومجموعة من العادات، وارتباطها بالاكتساب واعتماد المدخل اللغوي الاجتماعي، والاهتمام بنطق الأصوات)، وأسس ثقافية، المواقف اليومية، الحياة العائلية العربية، معارف عن بعض العواصم والأماكن العربية والإسلامية، النقود، الأعياد والشهور، شخصيات إسلامية، القيم، العبادات)، وأسس تربوية (مهارات الاستماع والتحدث والقراءة والكتابة، معايير علوم اللغة). ويتكون الاختبار من أربعة أجزاء: اختبار الاستماع من حيث قياس جانب الفهم، واختبار القراءة الذي يقيس الثروة اللغوية وفهم المقروء، واختبار الكتابة من خلال مقال في حدود مئتي كلمة، واختبارات القواعد.
النموذج الإماراتي
شهد عام 2012م قيام وحدة المتطلبات الجامعية بجامعة العين بدولة الإمارات العربية المتحدة اختباراً هدفه قياس كفاءة أبناء العربية في التواصل باللغة العربية الفصيحة، يستهدف القائمين بوظائف أو أعمال تتطلب التمكن من اللغة العربية، وركز على المهارات وممارسة اللغة، ويدور حول الاستماع والقراءة والكتابة والأداء الشفوي، وينفذ بواسطة الحاسوب وكذلك ورقياً، وتم تقسيم مستوياته إلى تسع مستويات (ضعيف- محدود جداً- محدود- دون المتوسط- متوسط- مؤهل- جيد- جيد جداً- ممتاز). وسمي هذا الاختبار باختبار العين لسببين: نسبة إلى حرف العين، وهو أبرز أصوات العربية والحرف الأول من كلمة عربي، ونسبة أيضاً إلى مدينة العين، حيث صُمِم الاختبار.
المشروع الأردني
قدمت مؤسسة التنال العربي عام 2014م مشروعاً باسم شهادة الكفاءة الدولية في اللغة العربية، أودعت مناهجه في المكتبة الوطنية وهو اختبار لغوي تربوي معياري مقنن لقياس الكفاءة اللغوية، قائم على رؤية إستراتيجية متكاملة الأركان على غرار المناهج العالمية في مقاربة اللغات والإطار الأوروبي المرجعي المشترك للغات (Toefl - Toeflgre- ICDL)، وهو موَجَّه إلى الناطقين باللغة العربية وإلى الناطقين بغيرها. اعتمد على بنك أسئلة ومناهج وحقائب تدريبية وهي مرفوعة على الشبكة العنكبوتية، وجُرِّب الاختبار من قبل هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي -جامعات اليرموك والإسراء وعمان الأهلية- وتم إعداد مسودات تفاهم لتنفيذ الاختبار والإشراف عليه من جانب منظمات Person، ETS، Prometris للاختبارات العالمية، يشمل الاختبار البنية الأساسية للغة (الأصوات- المفردات- التراكيب- المصطلحات- وفهم المسموع والمقروء- الإملاء والترقيم والأخطاء الشائعة- الامتحان الإلكتروني). مدة الصلاحية أربع سنوات.
المشروع العراقي
تجربة العراق تجربة تكاد تكون فريدة على المستوى القومي، حيث لا يتم اعتماد الشهادات بالجامعة العليا (الدبلوم العالي- الماجستير- الدكتوراه) إلا بعد الحصول على شهادة اختبار الكفاءة اللغوية. هذا الاختبار وضعته كلية الآداب بجامعة بغداد، هدفه قياس الكفاءة اللغوية العربية للحاصلين على الشهادات الجامعية العليا، ويقوم على أربعة محاور (الاستماع- القراءة- الاختبار التحريري- الأداء الشفوي)، مدة الاختبار شهر من خلال دورة مكثفة بمعدل خمسة أيام أسبوعياً يحاضر فيها أساتذة كلية الآداب من أصحاب الخبرة الطويلة في مجال التعليم والتدريس. وتتناول الدورة: تنمية المهارات اللغوية في التحدث والإلقاء، تعلم القواعد النحوية، سلامة اللغة العربية في تحرير الكتب الإدارية والمخاطبات الرسمية والرسائل، معالجة أشهر الأخطاء، وبعد نهاية الدورة يجتاز الدارس اختبارين:
أولهما: اختبار شفوي: حيث يتحدث لمدة 15 دقيقة أمام لجنة الاختبار بلغة عربية فصحى في مجال تخصصه، وتلاوة 25 آية قرآنية كريمة مما يحفظ أو قراءة قصيدة جاهلية لغير المسلم، ومن يفشل في هذا الاختبار لا يشارك في الاختبار التحريري.
ثانيهما: اختبار تحريري: هدفه توصيف مستوى الدارس والكشف عن مهاراته اللغوية وبيان مقدرته في استيعابه النصوص القرآنية، والنصوص المعاصرة وكتابة نصوص إبداعية بلغة فصيحة، ولا تمنح شهادة الكفاءة إلا لمن يحصل على 70 % من الدرجات فما فوق في الاختبارين.
كلمة أخيرة
هذه التجارب العربية الخمس (السعودية- المصرية- الإماراتية- الأردنية- العراقية) تبشر بالخير، وتعد بداية حقيقية لبناء اختبار عربي موحد يتيح الحصول على شهادة الكفاءة الدولية في اللغة العربية للناطقين بها ولغير الناطقين بها، مما يتيح للعربية أن تنتصر داخل وطنها وتنتشر خارجه.