حين أُجبر أبي وإخوتي الأربعة ليشاركوا في الحرب لم أكن أعي حينها ما هو الوطن، فالبسطاء أمثالنا لا يتعدى وطنهم سقف الحجرة التي ينامون ويأكلون بها ويتشاركون أسرتها وأغطيتها، وقد نقضي حاجتنا بها في بعض الأحيان. تربط أمي خرقة على معدتها كلما اشتد بها الجوع وتأمرني وشقيقتي فاطمة أن نقلدها، نفعل ولكن هذا لا يكفي فمعدتي تصرخ طوال الليل طلباً للطعام.
منذ سنوات رحل رجال القرية للحرب بينما تولى الصبية الصعود لقمة الجبل وإحضار بعض المؤن من الجنود هناك، ورغم أنهم في حرب مع جنودنا إلا أنهم من الكرم بكثير حيث لم يكونوا يتركوننا نعود خالي الوفاض، ففي كل مرة نحمل معنا الطحين والأرز والسكر وبعض قوارير الزيت مقابل أن نقوم بتنظيف ثكناتهم العسكرية وغسيل ملابسهم وأحذيتهم، وحين نعود في آخر النهار نقتسم ما أحضرناه على أطراف القرية ويمضي كل منا مغتبطاً بما حصل عليه.
فاطمة تقف على الصخرة ذاتها في كل مرة ترقب وصولي وتجري لتحمل معي ما أحصل عليه رغم صغر سنها وضعف بنيتها.
ترفع أمي كفيها للسماء حين تودعني وفي كل مرة تخبرني أن دعوات الأمهات تذهب للسماء على أجنحة الملائكة فتستجاب سريعاً.
يزرع الجنود الطريق الى الجبل بالألغام وكنا نتساءل لماذا لا يزرعوا القمح بدلاً من الديناميت؟
أصبحت مهمتي ورفاقي صعبة وشاقة للصعود وإحضار الطعام، كل صبي بيننا يتخير موضعاً سليماً لقدمه قبل أن يلحقها بالأخرى، وفي كل مرة أهم بنقل قدميّ أشعر بألم يسري فيهما وأتخيلهما يطيران فوق رأسي وأنا باق دون قدمين.
اليوم سمعت في القرية أن الحرب انتهت وأن البلدين سيوقعان هدنة لسنوات كثيرة، وربما عادا صديقين، أهذا يعني أن الحرب راحلة حقاً! وهل ستحمل معها الجوع والخوف والبرد؟
تنتظر أمي قدوم أبي وإخوتي مع باقي نساء القرية وقد خضبن كفوفهن وارتدين ملابس بيضاء، وزيّنّ شعورهن بالنباتات العطرية. تدنو الشمس للمغيب.. نرقب وصول رجالنا من الحرب، وحين بدت لنا رؤوسهم قادمة من بعيد، تتحرك ببطء، بدوا وكأنهم غرباء يسيرون دون هدف. تقفز فاطمة من أعلى الصخرة وهي تشير بأصابعها الصغيرة نحوهم، ولم تكد تضع قدميها أرضاً حتى علا صوت كاد يصم الآذان، تنتشر أطراف أقدام صغيرة فوق الرؤوس اختلطت بنشيج القادمين بنصف جثث.