مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

خروج

عندما ارتديت ملابسك، أخذت تضع في جيبك وبترتيب تعودت عليه: علبة السجائر، الولاعة، القلم الأسود الناشف، محفظة النقود المليئة حتى بدت وكأنها امرأة حامل، وهي تحتوي البطاقات والفواتير والصور، أرشيف كامل تضمه بين جناحيها، هذه المحفظة الجلدية السوداء المعمرة، الأوراق تدخل وتخرج منها دون تضجر، كل شيء ورقي وبلاستيكي، يخرج من هذه المحفظة، ويدخل إليها بسلاسة، باستثناء النقود، حالما تدخل إليها تخرج بسرعة البرق! بعد أن أتممت طقوس الجيب اليومية، حشرت الحذاء اللامع الأسود في رجليك. كحيت ثلاث مرات، وأنت تنزل على درج العمارة، الكحة إنذار، اعتدت إطلاقه، حتى لا تقع عيناك ولو بطريق الخطأ على امرأة سافرة، ذلك بالنسبة لك كارثة، رغم حبك للنساء، كل النساء، الجميلات والقبيحات، النحيفات والبدينات، النساء بكافة الألوان والأشكال شريكاتك، وأنت تسدل البطانية على جسدك كل مساء، لا تنام دون أن تستحضر النساء، أشكالاً وألواناً من النساء، لكن ولا واحدة منهن التقيت بها وجهاً لوجه، جسداً لجسد، أضغاث أحلام! قلت لنفسك وأنت تشعر بأن الصمت كان عاماً، إضاءة الدرج كانت محايدة، الجدران تخلصت من الرطوبة الخانقة. الجدران مرتاحة بشوش وأنت تضع يدك عليها، أثناء نزولك من الدور الأول حتى بسطة الدرج، حيث من هناك، وكأنك تذكرت شيئاً، أسرعت في خطواتك. طوال حياتك كنت مثل فيل هندي باهظ ثقيل، لكن شعارك كان دائماً: كافة المهمات سوف يتم تحقيقها في الوقت المناسب، لا تستعجل!
لكنك الآن أسرعت الخطو، خطوتك صارت حادة باترة، وقد وجدت وأنت تقف أمام باب البناية الأبيض المتآكل كثير التعرجات الطولية والعرضية والهرمية؛ أن الشمس قد انتهت من بسط جسدها المشع على الشارع الذي لا يزيد طوله عن نصف كيلومتر، وثلاثين متراً عرضاً، هذا الشارع البائس من وجهة نظرك يستضيف منذ زمن قصير عشرات المباني، على واجهاتها محلات للعقار والفول والفلافل والأدوات المنزلية، ومحلات للخياطة، خياطة الملابس فقط، لا أكثر ولا أقل، لا فوق ولا تحت، كان حريصاً على الوضوح وضمان سلامة النية، ذلك ما قلته أو حددته أو فكرت به، عن صاحب العمارة، التي تضم محل الخياطة، قل له ضاحكاً: لماذا يا مواطن إذاً كتبت على المحل (خياطة العاصمة!) لماذا لم تكتب خياطة أم سليم أو أم سليمان: خياطة سريعة وبأرخص الأسعار؟! لكن كل هذه التفاهات تجاوزتها عندما تجاهل صاحب العمارة السؤال! لتقف مجدداً عند محلات تقدم خدمات الطبابة، ومن ذلك الصيدليات والمستوصفات العشر، التي عددتها: صيدلية، صيدلية، مستوصفاً، مستوصفاً، حتى تثبت الحس التوعوي للمواطنين، صحيح أنهم يقدمون من هذه المنافذ، منشطات لعطلة نهاية الأسبوع، مكبرات ومصغرات للصدر، ولبقية الأعضاء، التي تقدم خدمات لوجستية، باردة وباترة وقوية أو هادئة، من غرائز تسكن السادة والسيدات، ويوجهونها في وقتها أو عند الحاجة. وترفد كافة هذه المستحدثات، كما لاحظت، وأنت تقف على الناصية، محلات لأدوات المكياج والصبغات، والحفائظ للأطفال والنساء، حتى النساء لهن حفائظ، غير الغرف المغلقة، والمنازل المصفحة، والمطابخ والحمامات العابقة بروائح متضاربة، لا تميز زنخها من طزازتها، لا توجد بناية واحدة، في هذه المساحة الضيقة، ليس بها محلات، إلا البناية التي تسكنها أنت، وحدها خلت من المحلات التجارية، قال لك صاحب البناية، وهو يجلس أمامها، واضعاً رجلاً على رجل، وعكازه الأسود تحت رجله:
- أنا رجل قنوع! بعدين إذا كنت غير قادر، على جمع الإيجار منكم، وأنتم من خيار خلق الله، فكيف أستطيع جمع الإيجار من هؤلاء الملاعين، الذين يمصون جيوبكم وعافيتكم، بدأب يحسدون عليه؟
ضحكت، في الوقت الذي كنت تمد رجلك، من ظهر الرصيف، إلى باطن الأرض الرخوة، دون أن ترد عليه، ولا مرة واحدة رددت عليه. هذا رجل، جعلك تؤمن منذ سكنت عمارته، أنه شخص يجب أن تأخذ منه، وأنت مغمض العينين. لم ترد عليه أبداً! ذلك ما قررته وارتحت له!
مددت خطواتك بهدوء دون هدف، رأيت في مدخل جانبي مجموعة من القطط، كانت تتقافز في شتى الاتجاهات، حتى استقرت في زاوية، زاوية هادئة، لم تكن هناك أرجل عابرة، أو عيون مراقبة. كنت الوحيد الشاهد على ما يقومون به علناً، القطط والكلاب والفئران، تقوم بكل ما يعن لها، علناً، إلا أنت كنت تأخذ كافة احتياطاتك، حتى هذه الاحتياطات، كثيراً ما تكون وقتاً مهدراً بلا فائدة. ضحكت، بقيت في مكانك، في لحظات كان فريق القطط، قد توزع باتجاه أبواب العمارات، كانت مرتاحة هادئة كأنها قلاب رمى حمولته! أمة تمارس مهامها في الضوء، تركت الاحتياطات لك.

ذو صلة