مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

نجمات تربعن على عرش الإبداع العالمي

السيرة هي البحث عن الحقيقة في حياة إنسان فذ، والكشف عن مواهبه من ظروف حياته التي عاشها والأحداث التي واجهها، والأثر الذي خلفه بعمله في محيطه ومجتمعه. وتعتبر السيرة أكثر نبضاً بالحياة من التاريخ، ففيها نلتمس كل ما نود معرفته عن طريق الأحداث. وهذه السطور تقدم ملامح من وجوه نساء رائدات، بهدف تسليط الأضواء على صراع المرأة عبر الأزمنة والتواريخ، وصراعها مع نفسها، ومع محيطها في سبيل إظهار طاقاتها وتحقيق طموحاتها. هذه الوجوه المشعة متألقة بألف لون من ألوان الفن والفكر والأدب، كانت في واقعها تطوي الضلوع على آلام عميقة، هي جزء من ضريبة النجاح والشهرة في بعض الأحيان أو ثمن الصراع القاسي لإرساء الجديد والمجهول. وهذه الوجوه تخضع في اختيارها لمعايير خاصة تبرز أهمية دور كل منها في دنيا الإبداع الأدبي الخلاق، وهي: فيرجينيا وولف، أجاثا كريستي، وبيرل باك، وسيمون دي بوفوار، وناتالي ساروت.

فرجينيا وولف.. سيدة الكلمات المضيئة
الكتابة عن سيدة الكلمات المضيئة عمل شاق، خصوصاً عندما تكون غايتها رسم وجه السيدة وشخصيتها، ذلك أن فيرجينيا وولف VIRGINIA Woolf زارت عالمنا مثلما تزوره النجوم الآتية من ألوف السنين الضوئية، ثم رحلت عنه مخلفة بعدها تساؤلات تتشظى مع مرور الزمن مثلما يتشظى النور على حد زجاج مكسور، ويبقى عطاؤها علامة مميزة على مفرق الأدب العالمي، بل إنه فجر عبقرية نسائية تزداد مع مرور الأيام تألقاً وبهاءً.
تذكر من أيام طفولتها أزهاراً قرمزية، وأزهاراً ليلكية فوق ثوب أسود، وتذكر فوح العطر من حضن أم. اعتبرها أهل زمانها من آلهة الإغريق لفرط ما وهبت من جمال وتوهج. وتذكر أيضاً سماع صدى الأمواج تتكسر فوق صخور الشاطئ القريب، وتعبر إليها من خلف النوافذ والأبواب الموصدة كأنها تنقل إلى سمعها أسرار عوالم خفية. كان اسمها أدلين فرجينيا ستيفن، طفلة حلوة رقيقة المشاعر وذكية وتعيش بطمأنينة وسلام في وسط عائلي سعيد يؤمن لها الترف الذي تعيشه عائلات الطبقة المتوسطة العليا، وهي بطبعها تتجاوز طبقتها وتميل إلى الأرستقراطية التي مارستها في حياتها، وفي كتابتها.

بروست وتأثير تيار الوعي
كانت ولادة فرجينيا وولف في الخامس والعشرين من يناير عام 1882م قبل مولد زميلها الأيرلندي جيمس جويس الذي ولد بعدها في الثاني من فبراير عام 1882م، وهي من أسرة عريقة في الأدب، فوالدها (سير ليزلي ستيفن) أديب وفيلسوف ومحرر في مجلة كورنهيل، وأمها ابنة الكاتب القصصي الشهير (ثاكري) مؤلف رواية سوق الغرور.. وهكذا نشأت فرجينيا في جو أدبي ثقافي هيأ لها المناخ لتنمية موهبتها، قرأت في مكتبة والدها للكاتب الفرنسي مارسيل بروست، وتأثرت بأسلوبه (تيار الوعي) وبفكرته عن النفس المستمرة الحركة والمتعددة، واقتبست منه طريقته في تبسيط وضغط القصة، وتوسيع إدراك الفرد وانطباعاته وعدم الاهتمام بتصوير الشخصيات من الخارج، وربما وجدت صدى لتركيزه عما يجري داخل العقل من تداعي المعاني التي تأتي عن طريق الحواس، ولاقت روحها الشاعرية تجاوباً لأسلوبه الممتلئ بالإيحاءات والرموز والانسياب.
وكانت فرجينيا تعيش في أسرة تتكون من عدد كبير من الأطفال، بدءاً من (لورا) المصابة بالجنون ابنة زوجة أبيها التي توفيت وهي تضع مولودها الثاني عام 1875م، إلى إخوتها الثلاثة من زوج أمها السابق، ثم ثلاثة إخوة آخرون أنجبتهم أمها بعد زواجها من أبيها وهي في الأربعين، وهم: فانيسا، ثوسبي، ثم فرجينيا، وأخيراً أخوها أدريان، وارتبطت بأختها فانيسا في علاقة خاصة.
قضت فرجينيا أسعد أيام حياتها في مدينة سانت إيفز الساحلية، وكان بيتهم يعج بكبار الضيوف من الكُتاب والشعراء والساسة، لذا ورثت النزعة الأدبية عن أبيها، مثلما ورثت عن أمها جمالاً رقيقاً أثيرياً ظلت منفصلة عنه بفكرها ووجدانها، مفضلة أن تبرز من خلال الذكاء والإبداع، لا الجمال الجسدي المورّث، والواقع أن علاقتها بجمالها ظلت غريبة معقدة وغامضة، وحاول كتاب سيرتها أن يجدوا لها شتى التفسيرات، لكن الأثر الأهم هو ما خلفه رفضها أنوثتها وجمالها على أدبها منذ المراحل الأولى.
لكن الرياح تأتى بما لا تشتهي السفن حقاً، فالسعادة لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما أصابت الأسرة كوارث الجنون والمرض، فقد أصيب ابن عمها في حادث أثر على قواه العقلية، وأُصيب أبوها بأزمة مرضية حادة منذ عام 1888م حتى 1891م ولازم الفراش، ثم ما لبثت أمها أن توفيت عام 1895م، وفرجينيا ما تزال صبية في الثالثة عشرة من عمرها، كما أصيب أبوها بالسرطان وتوفي عام 1904م، مما تسبب في إصابتها بانهيار عصبي، فحزنت لرحيل الأب حزناً هستيرياً، وحاولت الانتحار للمرة الأولى في حياتها بإلقاء نفسها من نافذة غير مرتفعة، وأصيبت بهذيان طوال عام 1904م.

الهروب إلى الكتابة
اكتشفت فرجينيا أن لا مهرب أمامها سوى الكتابة، تماماً مثلما كانت المطالعة الملجأ الذي يحميها من أذى مجتمع ضاقت ذرعاً بتفاهاته، وهكذا انكبت على الكتابة وراحت تمرن قلمها في إعداد المقالات النقدية أولاً، ثم جربت كتابة الرواية، وظلت أعمالها الأولى عادية، لكن قلمها ميال للمشاكسة والرفض للأساليب المألوفة وما تفرضه المؤسسات على الفرد، فنشرت مقالات نقدية هاجمت أدباء راسخين، لكنهم في نظرها سطحيون يرددون ما سبق أن ردده أسلافهم عبر السنين الماضية، جلست تكتب روايتها (إلى المنارة) مما خفف عنها بعض حزنها، في أثناء الكتابة كانت تبلغ أوج النشوة والسعادة. وفي جامعة كمبردج انطلقت في دروب الفن وتوطيد أواصر الصداقة مع شباب يمثلون الحياة الجديدة، وفي عام 1912م تزوجت من ليونارد وولف، وكان رجل فكر وأدب وعاشا معاً، وظل زوجها بمثابة الملاك الساهر على حراستها، ولم يكن لطموحها حدود، واندفاعها فوق خطوط المغامرات الكبرى في اللذات الإنسانية وكل ما ترتبط به في وجودها من عناصر وكيانات، ولم تكن كتابتها خيالية، بل إنها رصدت الواقع الخارجي المنظور مثلما أدخلت القارئ إلى دهاليز العقل الباطني وراحت تخترقه إلى أقصى مداه. أقبلت بحماسة على إلقاء المحاضرات في جامعة كمبردج عام 1928م، وهي في أوج مراحل نضجها، ونشرت محاضراتها في كتاب لا يزال مرجعاً في شرح أوضاع المرأة، سمته: (غرفة من أجلها)، ورفضت درجة الدكتوراه الفخرية التي قدمتها إليها جامعة كمبردج ومن جامعات أخرى حتى لا تناقض نفسها الثائرة على المؤسسات، وفي عام 1915م دخلت مصحة نفسية واشتدت نزعتها الانتحارية مما اضطرها إلى ترك لندن التي تحبها إلى ريتشموند التي تحبها.

نهاية مفجعة لآلهة الإغريق
إن فرجينيا وولف تعد مع جيمس جويس طليعة كتاب زمانها المجددين، بل إنها وراء خلق رواية حديثة ولغة لم يسبق أن كتبها أحد من قبل، مع العلم أنها لم تكن معجبة بجويس ولا بأدبه ولم تتأثر به، بل تصادف أن لجأت مثله إلى استخدام تيار الوعي، وكانت من جهتها تجري تجارب في الذات الواعية وفي اللاوعي لتعرف إلى أي مدى يمكن أن تسبر أغوار النفس البشرية، كذلك لعبت بنجاح لعبة الزمن، فربطت الحاضر بالماضي السحيق من خلال تجربة الفرد، وليس سهلاً على القارئ أن يفهمها ما لم يدخل إلى دائرتها ويسير مع التيار، كذلك تبقى شخصياتها منفصلة عن الواقع وكأنها مخلوقات عالم جديد ترتدي وجوهاً غير واضحة المعالم، لكنها تلازم القارئ ثم لا تلبث أن تصبح بعضاً من ذاته. اتبعت في أعمالها الأولى أسلوباً تقليدياً، ثم راحت تخرج من هذا النمط خصوصاً في روايتي (مسز دالاوي) و(إلى المنارة)، حيث برزت بوضوح مهارتها التقنية واستخدمت فيها الشعر والصورة وقيود الزمن، وكان التاريخ هاجسها في كتاب (أورلاندو) الذي نشر عام 1928م، لكنها عادت إلى الرواية عام 1931م مع ظهور روايتها (الأمواج) التي سجلت تيار الوعي، وآخر أعمالها التي لم تضع عليها اللمسات الأخيرة روايتها (بين الفصول) التي صدرت بعد وفاتها، وبالطبع لها أعمال أخرى بينها المذكرات وخمسة أجزاء تحوى دراساتها النقدية. لقد نشرت فرجينيا أكثر من ثلاثين كتاباً موزعة على النحو التالي: تسع روايات، أربع مجموعات قصصية، خمسة عشر مجلداً من المقالات الأدبية والعامة، وكتابان يعالجان قضايا المرأة.. بالإضافة إلى يومياتها. وفي صباح يوم الجمعة 28 مارس عام 1941م، خرجت فرجينيا وولف كعادتها إلى حديقة المنزل، وفي حجرتها هناك سطرت رسالتين: واحدة لزوجها، والأخرى لأختها فانيسا.. تؤكد فيها أنها عادت تسمع هذه الأصوات المزعجة وأنها على ثقة من استحالة شفائها، ثم تسللت خارج المنزل إلى شاطئ النهر (أوز) القريب من سكنها ولما لاحظ زوجها ليونارد غيابها هرع إلى الحديقة، ثم إلى ضفة النهر فوجد عكازها ملقى على الأعشاب، وأبلغ الشرطة.. وبعد انقضاء شهر وبينما كان الأولاد يلعبون على ضفة النهر لفت انتباههم جسم غريب لفظته المياه، وكانت جثتها وفي داخل جيوب معطفها كمية من الحجارة وعثر ليونارد على رسالة مكتوب فيها:
(أحس بأني على حافة الجنون.. حاولت، لكني لم أستطع الاستمرار، أدين لك بكل اللحظات السعيدة في حياتي، كنت مثال الزوج الرائع.. لن أقوى على إفساد حياتك بعد اليوم).

أجاثا كريستي.. ملكة الجريمة
اسمها غني عن التعريف، ليس في بلد معين أو بقعة معينة من بقاع الأرض، بل إن ظل قصصها امتد فغطى مساحة شاسعة من حجم العالم، وطافت رواياتها المئة بين شعوب الأرض قاطبة، كما تُرجمت إلى العديد من اللغات التي تنطق بها تلك الشعوب. أجاثا كريستي، هي التي أدخلت الجريمة إلى الصالونات الأرستقراطية، ورابع امرأة مترجمة في العالم، والمرأة التي كانت تطل بقصصها في كل موسم، مثلما تطل براعم الزهر في الريح ومثلما تتفتح الفاكهة في فصل الصيف.
تخرجت القصة البوليسية على يديها من المعهد البريطاني، وراحت تطوف العالم من بغداد إلى القاهرة إلى جزر الكاريبي.. إلى كل بلاد الناس الذين احترمتهم وبادلوها التقدير وأحبتهم مثلما أحبت الحياة وأخلصت لهم إخلاصها لأبطال قصصها. ولدت أجاثا ماري كلاديسا ميلر في الخامس عشر من أيلول عام 1890م، أي في أواخر الحقبة الفيكتورية، في مدينة (ثوركي) بمقاطعة ديفونشير بإنجلترا، كان أبوها فريدريك ميلر أمريكياً من أهالي مدينة نيويورك يعيش مع زوجته وولديه مادج ومونتي، وجاءت أجاثا آخر العنقود، إنما بعد مرور عشر سنين على ولادة الأصغر في العائلة. لم يكن والدها يشغل مركزاً مرموقاً، وكان رجلاً هادئاً وثرياً يعيش من قيمة إيجار أملاكه، وكانت أجاثا في الخامسة من عمرها حين بدأ أبوها يواجه ضائقة مالية، فانتقل مع العائلة إلى جنوب فرنسا بعدما أجر الأملاك. نشأت طفلة عادية لا تستطيع التعبير عن أفكارها بسهولة، ولم تذهب إلى مدرسة، فتولت أمها مسؤولية تعليمها في البيت، وبدأت تتعرف إلى عالم جديد ولغة جديدة وحضارة تختلف عن حضارة بلادها، لكنها لم تستطع تكوين صداقات جديدة مما أجبرها على قضاء أوقات فراغها في التأمل ومناجاة الطبيعة الساحرة. وما أن أتمت العاشرة من عمرها حتى فجعت بموت أبيها، مرضت أجاثا ولزمت الفراش لفترة فنصحتها أمها بكتابة قصة للتخلص من تعبها وضيقها، وأحضرت لها الأوراق والأقلام فأحبت الكتابة ولم تتخلّ عن القلم حتى وفاتها.. ونصحتها شقيقتها الكبرى مادج بقراءة قصص كونان دويل وجول فيرن.. وغيرهما.
ولما بلغت السادسة عشرة، قررت أمها أن ترسلها إلى فرنسا لتُضيف إلى معارفها التي اكتسبتها في البيت علوماً وفنوناً جديدة، ولم تكتف بقراءة الآداب، بل تعلمت الموسيقى وأغرمت بها ودرست أصول الغناء، ومنعها خجلها من الاستمرار في هذا المجال، وبعد أن عادت بعد عامين إلى بلادها كانت جاهزة لمواجهة الحياة كأي فتاة من جيلها. كانت أجاثا تهوى السفر والترحال، وكان أول عهدها بالسفر إلى باريس، وربما استوحت من تلك الرحلة موضوع أول رواية كتبتها وعنوانها: (ثلوج فوق الصحراء).. آنذاك أخذ نجم أختها مادج في الصعود، فقد كانت الأكبر والأجمل وذات موهبة أدبية مدهشة، أحست أجاثا بالغيرة فبدأت تبحث لنفسها عن مكان متميز في عالم الإبداع، فراحت تكتب بعض القصص القصيرة وتبعث بها إلى المجلات، وكم عادت إليها هذه القصص تحمل اعتذارات مُحبِطة.. وفكرت في أن تجرب حظها في كتابة الرواية، فكتبت رواية خيالية تدور أحداثها في القاهرة، بعد أن صحبتها أمها في شتاء 1908م إلى مصر للسياحة، حيث رأت لأول مرة نهر النيل والآثار الفرعونية الخالدة والسماء الصافية فعشقت مصر وكتبت العديد من القصص كانت مصر مسرح أحداثها، وكتبت قصة أثناء إقامتها في فندق شبرد بمصر أرسلتها إلى مجلة إنجليزية ولما عادت إلى بلادها فوجئت بقصتها منشورة، وتقاضت عنها أجراً قيمته (جنيه إسترليني) هاجمتها شقيقتها مادج بشدة وطالبتها بالتخلي عن الخيال لتغوص في الواقع.. لأنها الأخت الكبرى احترمت رأيها وبدأت معها قراءة الروايات البوليسية، ووقعت وقتذاك في حب (ريجي لويس) وخطبها وفجأة تركها مسافراً إلى هونج كونج فأخذت تكتب إليه عدة رسائل تبثه فيها حبها وأشواقها ولوعة الفراق، لكنها فوجئت به يشجعها على أن تنساه فتركته، وتعرفت إلى شاب وسيم في سلاح الطيران الملكي اسمه أرشيبلد كريستي، وهو الذي حملت اسمه حتى نهاية حياتها وتزوجها في عام 1914.

على عرش الرواية البوليسية
وقد تحولت معظم روايات أجاثا كريستي وقصصها القصيرة إلى أفلام سينمائية وتمثيليات تلفزيونية وأعمال إذاعية ومسرحية، وأشهرها مسرحية (المصيدة) التي عُرضت لأول مرة في 25 نوفمبر 1952، وظلت معروضة لأكثر من ربع قرن تغير خلالها المخرجون والممثلون وأجيال المتفرجين، وتعاقد معها بعد ذلك رجال السينما على تحويل المسرحية إلى فيلم سينمائي. وفي عام 1950 احتفلت أجاثا بظهور روايتها الخمسين، وأرسل إليها رئيس وزراء إنجلترا رسالة قال فيها:
(أجد نفسي دائماً مسحوراً مبهوراً بروايات أجاثا كريستي التي تدل على ذكاء خارق ومقدره مذهلة على الاحتفاظ بسر اللغز حتى نهاية كل رواية، كما أن لها قدرة عظيمة على كتابة لغة جميلة سليمة بسيطة واضحة).
وتوجها النقاد في جميع أنحاء العالم ملكة للجريمة، وأصبحت شهرتها بأنها المرأة التي ربحت الملايين من جرائم القتل، وبذلك تربعت على عرش الرواية البوليسية ذات المستوى الإنساني الرفيع، وقد واصلت الكتابة حتى تجاوز عدد رواياتها المئة، أما قصصها القصيرة فهي تقدر بالمئات. وقد بيع من كتبها حتى العام الماضي أكثر من خمسمئة مليون نسخة، وهذا رقم قياسي لم يُحققه أي كاتب، ولا شكسبير نفسه. وبدأت أجاثا تكتب مذكراتها عندما بلغت الخمسين من عمرها حتى أتمت عامها الخامس والسبعين.

كاتبة عائلية خلدتها الجريمة
ومجرمو روايات أجاثا كريستي أشخاص عاديون، غير أن ظروفاً أحاطت بهم فنزعت القناع الحضاري عن الوحوش القابعة في أعماق كل إنسان.. وقد وصفها صلاح طنطاوي في كتابه الممتع (رحلة حب، رحلة رعب) الذي ألفه عنها بقوله: (يمكن اعتبارها كاتبة عائلية، أي ليس في رواياتها ما يخجل الآباء أن يطلع عليه الأبناء، فليس في رواياتها -على تعددها- مشهد جنسي واحد، ليس بين عشرات القتلة الذين كتبت عنهم قاتل أو قاتلة بسبب الجنس). نعم، لم تكتب أجاثا كريستي رواياتها ذات الجرائم الغامضة باعتبارها رياضة ذهنية، فكل رواية هي لغز غريب غامض، وفي كل فصل من فصولها لمحة من حل اللغز، لهذا يستمر الغموض حتى تكشف الكاتبة بنفسها الحل الحقيقي للغز، فيستعيد القارئ ما مر به من لمحات، وينتابه شعور مزدوج، شعور بالأسف من غفلته، وشعور بالاستمتاع والراحة لأن كل لمحة من اللمحات التي غابت عنه كانت لها وظيفتها التي أدت إلى حل اللغز، وقد يتصور القارئ بعد قراءة مجموعة من رواياتها أنه أصبح قادراً على حل ألغاز رواياتها الأخرى، لكن رواياتها تتحداه لأن كلاً منها عمل مستقل قائم بنفسه رغم أن المنهج واحد في جميع الروايات. ومضمون روايات أجاثا كريستي أن الشر -وليس الجريمة فقط- لا يفيد، وأن الشرير رغم دهائه ليس إنساناً ذكياً وإلا لاختار الخير، لأن أرباح الخير في رواياتها أعظم ألف مرة من أرباح الشر، بل إن الشر يخسر دائماً، ودلالة خسارته هي كشفه في نهاية روايتها، وقد تُرجمت لأجاثا كريستي كثير من رواياتها إلى اللغة العربية، والكثير من المسرحيات والتمثيليات، وكانت تؤمن أن الكاتب لا يجوز له أن يتوقف عن الكتابة أبداً حتى رحيلها في الثاني عشر من كانون الثاني عام 1976م عن ست وثمانين سنة.
وقد نجح متحف (مدام توسو) في لندن في صنع تمثال لأجاثا كريستي لوضعه بين تماثيل الخالدين في إحدى قاعاته، وذلك أثناء حياتها، وبعد ربع قرن من وفاتها أقيم لها معرض بالمتحف البريطاني في لندن بعنوان (أجاثا كريستي والآثار.. لغز بلاد النهرين) يقدم لزواره رحلتها إلى الشرق الأوسط.

بيرل باك.. أعطتها (الأرض الطيبة) جائزة نوبل
وإذا ذكرنا أديبات القرن العشرين، نجد اسمها في الطليعة، إنها بيرل.س. باك، المبدعة الأمريكية المعروفة التي وهبت ذاتها للحرف، حُملت بتأثيره غرباً، وغمست قلمها بتراب الشرق العريق.
وُلدت في السادس والعشرين من يونيو عام 1892 م في بلدة (هلسبورو) بولاية فرجينيا الغربية، وغادرت أمريكا إلى الصين مع والديها حيث عاشوا في مدينة (تشين كيانج) على ضفاف نهر (يانج تسي) وتعلمت تقاليد الشعب الصيني والسحر البوذي والتاوي. ومن سيرة حياتها نجدها تقول:
(عشت في الصين طفولة متوحدة.. نشأت في بلدة (تشين كيانج) في منزل محاط بالتلال والأودية المزروعة، عند سفح التلة كان هناك معبد ورجل عجوز، وكان العجوز يطاردني بعصاه فأشعر بالخوف والطمأنينة في آن.. من هذا الكاهن تعلمت الصينية، واهتمت أمي بتعليمي الإنجليزية).
في شنغهاي تابعت بيرل باك دراستها الثانوية، ثم عادت إلى أمريكا ودخلت كلية (راندولف ماكون) للبنات، حيث حصلت منها على البكالوريوس والماجستير عام 1914 م، وفي عام 1917 م تزوجت جون لوسي باك خبير زراعي، وانتقلت معه إلى شمالي الصين لمدة خمس سنوات، ومن جديد عادت إلى أمريكا إلى جامعة كورنيل، ومنها إلى جامعة نانكينج الصينية.
في تلك الأثناء كانت بيرل تسجل أولى محاولاتها الأدبية، ثم راحت تراسل المجلات الأمريكية وتزودها بقصص ومقالات عن الحياه في الصين، وكان أول نتاجها (ريح الشرق وريح الغرب). وفوجئت بزوجها لا يكترث بما تكتب ولا يحاول فهمه، وكانت ثمرة زواجهما ابنة متخلفة عقلياً، فحزنت حزناً بالغاً صورته في قصتها، (الطفلة التي لم تكبر) عام 1950م وتبنت طفلة أخرى.
وأصدرت بيرل باك كتابين قبل أن تنشر الرواية الأهم والتي بنت عليها شهرتها وهي (الأرض الطيبة) عام 1931 م التي نجحت وكتبت لها الشهرة والنجاح الأدبي، واستحقت عنها جائزة (بوليتزر)، أهم الجوائز الأدبية الأمريكية، وحصلت على ميدالية وليم دين هويلز الذهبية، لكن جاء التقدير الأكبر حين مُنحت بيرل باك جائزة نوبل للآداب عام 1938م عن ثلاثيتها التي حملت عناوين (الأرض الطيبة، البيت المنقسم، والبنون)، ونُشرت تحت عنوان (بيت من تراب)، وجاء في حيثيات الفوز: (من أجل وصفها الرائع والفني لحياة الفلاح الصيني).
وفى مقدمة الثلاثية كتبت بيرل باك تقول: لم تكن هناك حبكة ولا عقدة روائية.. كان أمامي رجل وامرأة وأولادهما، وكنت أعرف علاقتهم الأصلية بالأرض، هؤلاء الناس الطيبون مهمون ليس في الصين وحدها وإنما في العالم كله، وقد أعطيتهم أسماء صينية إذ لم أكن أعرف سواهم، وهم يمثلون ملايين الفلاحين.. إن الناس الذين قرؤوا الرواية تجاوزوا كون الأبطال صينيين، وصاروا يعرفون فيهم الطيبة والأصالة. وبحصولها على (نوبل) تابع العالم كله كتاباتها في عدة لغات، وأصبحت رائدة حركة أدبية، إذ كانت أول مَنْ بنى جسراً يصل الغرب بالشرق الأقصى عن طريق الفكر والكلمة المُحبة.. كانت الجسر الإنساني الذي ربط حضارتي الشرق والغرب بلغة بسيطة أنيقة، كما ترجمت حبها للناس وللحضارة الصينية فقدر الغرب والآسيويون قيمتها وعطاءها.
كان تركيزها في الرواية على الإنسان ونضاله في أي مكان في الدنيا، واجتهدت لكي تُعبر عن أفكارها بأسلوب سهل ولغة أنيقة سهلة. وبينما تنتشر شهرتها انتهت حياتها بالطلاق عام 1934م، وعادت إلى أمريكا وتفرغت للدراسة والتأليف وحصلت على (ماجستير فخرية) من جامعة (يال)، ثم تزوجت من ناشرها (ريتشارد والش)، وعاشت معه حتى وفاته عام 1960 م، وكونا معاً مؤسسة بيرل باك للتبني، ورصدت لها كل ثروتها البالغة سبعة ملايين دولار في عام 1973م. بعد رحيل زوجها ريتشارد والش انتقلت إلى بنسلفانيا في بيت هادئ تحيطه الطبيعة الخلابة التي تغنت بها، ولم تترك هذا البيت حتى رحلت عن الدنيا وهي في الحادية والثمانين في عام 1973 م. وتُقدر الدراسات والمراجع الأدبية مؤلفات بيرل باك بما يتجاوز الستين كتاباً يطغى عليها الطابع الروائي القصصي وما كتبته عن مجتمعي الصين وأمريكا. وتميزت بكتابة المقال الأدبي والاجتماعي بعمق وشمول، لكن تبقى (الأرض الطيبة) فعلاً بنياناً شاهقاً فوق الهامات البعيدة، ويبقى لها كرم العطاء الخير مادة وروحاً، إنها امرأة المذبح المشدود إلى عطر الشرق، في مسيره إلى البعيد من تربة أهليها، الأديبة التي لا يمر النسيان أبداً في جوار، اسمها، لأنها بيرل باك المُحبة.

ناتالي ساروت.. مبدعة الرواية السيكولوجية
وُلدت ناتالي ساروت عام 1902 م، ومهدت للرواية الجديدة منذ عام1947 م بعملها الروائي (صورة لرجل مجهول)، أما روايتها (القُبة السماوية- le planetanium) (آلة مصغرة تبين وضع الأجرام السماوية) عام 1959م. وفي أولى رواياتها التي كتبتها عام 1939م (الدوافع الخفية)، وأعادت صياغتها عام 1957م؛ حاولت التوغل في الكيان النفسي الخفي لنساء الطبقة البرجوازية الجديدة اللاتي انتقلن من الريف إلى الحياة في باريس، وتعمقت داخل الشخصيات من خلال شخصية واحدة يعكس عقلها ويكثف تفكيرها اتجاهات وسلوك الشخصيات الأخرى ككل، فهي ليست بحاجة إلى تشتيت انتباهها على كل شخصية بصفة خاصة، وتبلور الجوانب المتعددة لنفس العالم، وهي الجوانب التي تتمثل في الدوافع والاستجابات التي تشكل سلوك بطلاتها، وإلى جانب التحليل السيكولوجي في سردها تستعين أيضاً بالوصف الغنائي. وفي روايتها (صورة لرجل مجهول) تستمر ناتالي ساروت في اختبار كنه العلاقة العضوية بين المظاهر السطحية والحقائق الكامنة خلفها، والراوي الذي يتخفى وراء ضمير المتكلم فقط دون أن نعرف اسمه، يحاول في استماتة أن يتوغل خلف الدوافع الكامنة وراء سلوك الأب الفظ والجذاب في الوقت نفسه، وابنته التي تعيش معه في نفس الشقة ولكنها مصابة بحساسية زائدة تجاه الآخرين.. ولا تدعي ناتالي أن فنها الروائي قادر على تمزيق الأقنعة ولكنه مجرد محاولة لها حدودها التي لا تستطيع أن تتخطاها.
وفي عام 1953 م كتبت رواية (مارتيرو) وهي محاولة أخرى لاستكشاف آفاق جديدة للرواية السيكولوجية، وفي روايتها (القُبة السماوية) دعمت مكانتها الروائية العالمية.
وروايات ناتالي ساروت تمثل محاولة فنية جادة لمساعدة الناس على تلمس الطريق الذي ربما أدى في النهاية إلى الاتصال المباشر والسليم بينهم، وهي تستخدم أسلوباً فنياً يناسب هذا المضمون المُعقد. وفي عام 1963 م كتبت رواية (الفاكهة الذهبية) ساخرة فيها من النقاد والمشتغلين بالأدب، فهي رواية بطلها روائي ألف رواية بنفس العنوان، لكن شخصياتها كانت هزيلة في هذه الرواية، ولم تصل إلى الإتقان والنضوج. ولا شك أن إنجاز ناتالي ساروت الروائي يؤكد أنه في مقدور الأدب أن يستفيد من العلم ومن اكتشافاته الحديثة. وبعد وفاة الروائي هنري جيمس لم تصل الرواية السيكولوجية إلى قمة ناضجة مثل تلك التي بلغتها على يدي الروائية الفرنسية ناتالي ساروت التي كانت من أهم زعماء المدرسة السلوكية.

سيمون دي بوفوار.. نسيج متفرد
سيمون دي بوفوار رائدة قادت المسيرة النسائية في طرق لم تسلكها من قبلها قدم بتلك الجرأة، إذ إنها ركبت الصعب كما يقولون، نعم هي نسيج وحدها، تظل النسخة الأصلية مهما حاولت كل نساء الأرض تقليدها، وتبقى صاحبة الصوت الأول والأقوى. كانت ولادتها في وسط عائلة متوسطة بباريس في التاسع من شهر كانون الثاني عام 1908 م، فالأب رجل قانون، والأم سيدة مجتمع لا تتمنى إلا أن ترى ابنتها متفوقة. حين تقدمت سيمون لامتحانات الفلسفة وجدت نفسها في ترتيب الناجحين في المركز الثاني، وكان المركز الأول من نصيب زميلها (جان بول سارتر)، كان لسارتر فيما بعد تأثيره الكبير عليها بأفكاره المتقدمة الحرة، وكانت لها الموهبة الفذة، وكانت مصادفة رائعة أن وُجدت في مرحلة ومناخ يتسم بالخصوبة الفكرية والأدبية والتحول السياسي، فشاركت فيها جميعاً بذكاء وإحساس مرهف. كانت سيمون ضد كل تصنيف، وضد تخصيص الرجل بالذكاء والمرأة بالحس المرهف، إذ كانت نظرتها إلى الاثنين نظرة إنسانية موضوعية. ومن خلال الواقع ونتيجة تجاربها ودراساتها وغوصها في تاريخ المرأة في الحاضر وفي التاريخ؛ قدمت كتابها الموسوعي عن المرأة (الجنس الآخر) عام 1949م، بعد أن غاصت في تجارب عميقة حزت أعماقها، وكتبت عنها فيما بعد قصصاً، وسجلت أحداثها روايات، ونعني الحرب العالمية الثانية وما خلفته من حصد للأرواح ودمار للعمران. تعرضت آنذاك للكثير من الهجوم والتهم وأحدث الكتاب ضجة كبرى في المجتمع كله، أطلقتها مدوية حين قالت (إن المرأة لم تنجح، لم تحصل على حق إلا ما شاءه لها الرجل) و(المرأة لم تمد يدها لتأخذ حقها، بل كانت تنتظر دائماً أن يُعطى لها).
وكتبت سيمون عن نضال المرأة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية مثلما كتبت عن المناضلة الجزائرية جميلة بو باشا (بو حريد)، وانسجمت كل مواقفها مع مواقف جان بول سارتر فواجها الأحداث، حتى أنها كتبت في عام 1964: (كان في حياتي نجاح أكيد، هو انسجامي مع سارتر طوال ثلاثين سنة)، ومات سارتر في 15 نيسان 1980 فلجأت إلى عزلة نفسية وخصصت وقتها كله للكتابة عنه، وانتقلت إلى شقة جديدة تطل على قبره!
كتبت سيمون دي بوفوار تسع روايات، ودراسات وسيرة ذاتية وأبحاثاً نُشرت في أهم المجلات الفكرية، وكانت من بين الكتاب الذين وقعوا بياناً ضد الحرب أعده الكاتبان: (رومان رولان أندريه جيد)، ووقعت بياناً حمل توقيع مئة وواحد وعشرين كاتباً من أهم كتاب أوروبا أعلنوا رفضهم استخدام السلاح ضد الشعب الجزائري، وفي مطلع الستينات ناضلت في لجنة العمل من أجل جميلة بو باشا المناضلة الجزائرية التي أصبحت بطلة كتابها.
وحصدت سيمون عدداً من الدكتوراه الفخرية من جامعات زارتها وحاضرت فيها، ومُنحت جائزة (جونكور) أكبر الجوائز الأدبية في فرنسا، وجائزة الدولة النمساوية للأدب الأوروبي.

ذو صلة