مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

سجن الـ(يوتيوب) في عصر الحداثة السائلة

لقد سيطر الافتراضي على الواقعي! وبات العالم الواقعي محركاً من قبل العالم الافتراضي، ولنا مثال في ثورات ما سُمي بالربيع العربي. بل إن الافتراضي يتحكم حتى في علاقاتنا الاجتماعية، فضغط بسيط بالإصبع على زر الحذف في المواقع الاجتماعية يمكنه أن يلغي العلاقة على المستوى الواقعي. في زمن الحداثة السائلة (ما بعد الحداثة) انتقلنا من لُحْمة المجتمع إلى الصلات الافتراضية والحياة السائلة، حيث كل فرد في عالمه الخاص. وقد أصبح للإعلام البديل أهمية اجتماعية كبرى بشكل متزايد بالنسبة للجميع. إذ تستخدمه الشركات لتحسين علاقاتها مع عملائها، وأيضاً فشباب اليوم يستخدمونه لإنشاء مكان لأنفسهم في عالم الافتراضي قبل الواقعي. وهذا هو الحال بالنسبة لمنصة الـ(يوتيوب) YouTube.
1 - الحياة السائلة
يمثل الـ(يوتيوب) اليوم، المثال النموذجي لمفهوم الحياة السائلة كما تصورها زيغمونت باومان (1925-2017)، أو حياة ما بعد الحداثة، حيث أن الكل يتسارع إلى الاستهلاك السريع، وإلى أن يكون على دراية يومية بالجديد (آخر الفيديوهات، آخر الماركات، آخر الفضائح..)، فقيمة الفرد غدت تتمثل في كمية استهلاكه، والاستهلاك -هنا- يحضر على المستوى الحياتي: مادياً ومعلوماتياً. فأن تعرف آخر الإنجازات والفيديوهات -سواء اتفقنا على تفاهتها أو جودتها وأهمية محتواها من عدمه- يعني أنك امتلكت قيمة ومكانة في الجماعة السائلة! فالفرد أصبح منعزلاً بالمطلق عن الجماعة، لا ينتمي إليها إلا في حالة اللعب (علامة الوجود في العالم السائل)، فالكل يحضر إلى ملعب كرة القدم ليس من منطلق اللحمة الاجتماعية لكن من باب اللهو واللذة المشتركة التي تقدمها اللعبة، ولا يحضر إلا ليُبرز حضوره.
في زمن الحداثة السائلة لا حضور للعلاقات الصلبة أو المرنة، فالعلاقات تحيا في حالة ذائبة وغازية. فقد باتت أكثر تعقيداً من حيث القبض عليها وتكثيفها، وقد حلّ عصر الاستهلاك، حيث يتم الترويج للسعادة اللحظية، سعادة الحاضر، فالمستقبل يشكل قلقاً كبيراً، إنه الفزع الذي مازال يطاردنا! لكونه مرتبطاً بالموت، النهاية الحتمية، لهذا يجب أن نحيا اللحظة ولا نحيا إلا في اللحظة -حسب تعبير ألبير كامو. المستقبل عدم والعالم عدمي، إلا أنه عدم إيجابي، لا يجب أن يؤدي إلى الانتحار والزوال، لأننا لا نملك إلا حياة واحدة لنحياها. لهذا يعرف اليوتيوب نجاحاً باهراً، ويعد بديلاً عن السينما (الفضاء الجماعي)، لكونه فضاء فردياً بالمطلق، وهو حميمي أكثر مما يمكن أن نتخيل، لا نحتاج معه لإطفاء الأضواء، أو التنقل إليه. إنه يقدم اللحظة في سرعتها القصوى، مستعيناً بتحفيز اللذة ومطاردة السعادة، فيسقط الفرد في حالة الإدمان على المشاهدة بلا انقطاع، وعلى الرغبة في التنقل بين الفيديوهات من أجل رفع هرمون السعادة في كل لحظة. ولا يتعلق كل هذا بالمتلقي فقط، فحتى اليوتوبيون (واضعو فيديوهات اليوتيوب) يرغبون في الكسب السريع وفي إعلاء نسبة المشاهدة لديهم، أي كسب المزيد من اللايكات والمشاهدات، ما يقدم لهم ربحاً مالياً وراحة نفسية وسعادة سريعة الزوال، ما يحفز الرغبة لديهم في بث فيديوهات جديدة وأكثر إثارة، ففيه يتنافس المتنافسون!
 2 - العولمة الافتراضية
وبلمحة خاطفة يمكن أن نلاحظ أن أغلب الكلمات التي تتداول في اليوتيوب من قبيل: مثير، الفضيحة، الجنس، شاهد قبل الحذف.. فالإغراء هو المتحكم في سوق الاستهلاك، وهو عينه الذي يتحكم في عالم اليوتيوب. أنت لا تدخل لليوتيوب من أجل التثقيف وأخذ المعلومة الثقافية، بل من أجل إشباع الرغبة وإسعاد الذات. فما بعد الحداثة أو الحداثة السائلة تعادي الخلود وتنتصر للآني والفوري، لهذا لا ينتج رواد اليوتيوب إلا فيديوهات سريعة التداول والزوال. قد يبلغ عدد مشاهدات فيديو معين ملايين المشاهدات لكن لمدة لا تتجاوز أسابيع قليلة، ثم يختفي تناقله بين المشاهدين، الأمر شبيه بالإشاعة وآثارها. الكل يبحث عن الكم الكبير من المشاهدات في أسرع وقت ممكن، وإن كلفه الأمر فضح نفس أو نشر إشاعات عن نفسه.
إننا إذن في سيلان عالمي، حيث الفضاء التي نحيا فيه هو ترحال في عالم الاستهلاك، عالم الجيب والاستغناء السريع. لا شيء يدوم، إنه عصر الزوال والانفلات والصلات (الاجتماعية) العابرة، وكل شيء يمكن استبداله بشيء أكثر إثارة وإغراء بعد استهلاكه. الكل يتلهف إلى ما وراء اللحظة وتخطي ما هو متاح، كما يخبرنا باومان. لهذا تغلب على اليوتيوب فيديوهات من قبيل: الجزء الأول من الفضيحة ويتبع في الجزء القادم.. لقد أدرك اليوتوبيون قوة ما وراء اللحظة، لهذا يفكرون في اللحظة القادمة، نيتهم إثارة المتلقي، وضمان الربح في اللحظة التالية.
3 - أخلاق اليوتيوب
لا مفهوم للأخلاق في سحابة اليوتيوب، فالأخلاق عينها سائلة، أي مرتبطة بالسرعة والنسبية المطلقة. كما أنها (أي الأخلاق) متعلقة بالاستهلاك وراهنيته. فقد أحدث اليوتيوب صدمة كبرى في العالم، وشكل الملمح الافتراضي للعولمة، فإن كانت هذه الأخيرة تساهم في رواج البشر وانتقالهم بين الجغرافيات، وانتقال السلع بلا جمركة وبسرعة أكبر، فاليوتيوب ساهم في كسر الحدود بين الناس، ناقلاً المعلومة (مهما كانت مصداقيتها) بلا قيود، لهذا تجد الإشاعة في هذه المنصة مكاناً رحباً للتنقل، فالأخلاق في عصر الاستهلاك صارت فاقدة للثبات والصلابة.
لقد تغيرت القيم والهويات، وهي ذاتها باتت خاضعة لسيولة الحداثة وسوق الاستهلاك. فالقيم تخضع لعملية القلب المستمر. ولا يوجد هوية ثابتة وقيم صلبة، فالحواجز فقدت أهميتها في ظل تدفق رأس المال، ولم يعد العالم خاضعاً لسلطة الهُوية المسيطرة، كما كانت تفرضه أوروبا على القادمين إليها. بل إن الهويات تذوب في بعضها البعض وفي سوق المال والاستهلاك والموضة، هذه الأخيرة التي لا تتقدم بل تتغير، على حد تعبير رولان بارت. فمفهوم التطور أو التقدم بالمعنى الأخلاقي قد زال واندثر، كل شيء خاضع لسلطة التغير الذي لا يتوقف.
4 - الزمن السائل
مجتمع اليوتيوب هو مجتمع الذاكرة القصيرة، أي مجتمع النسيان. أو بالأحرى هو مجتمع الإشاعة بكل ما تحمله من سرعة الانتشار والزوال. يخضع اليوتيوب لقانون الإشاعة من حيث أنها نتاج ضرب الغموض في الأهمية، ويمكن تصنيف غالبية الفيديوهات التي يتناقلها رواده إلى ثلاثة أصناف، هي ذاتها تصنيفات الإشاعة: الزاحفة والعنيفة والغائصة. حيث أن الأولى يتداولها المشاهدون بهدوء فيما بينهم، وتتعلق بما هو اقتصادي وسياسي واجتماعي، تعتمد على التغذية المستمرة. بينما الثانية (العنيفة) فتسعى إلى الانتشار بأسرع ما يمكن، كالنار في الهشيم، وبلوغ العدد الأكبر من المشاهدين في أقصر مدة، مستندة على إثارة العواطف والحواس. بينما الغائصة فهي تلك الإشاعة الظاهرة الغابرة، حيث تغطس تحت السطح بعد ظهورها أول مرة، وتنتظر الوقت المناسب للعودة. كل هذه الأمور تعيش في الزمن السائل، أي زمن اللايقين، حيث تغيب الحقيقة وينمحي المعنى ويتلاشى. فقد تفتت المؤسسات التي تضمن الحفاظ على العادات والسلوك، الذي صار مشابهاً للموضة في خضوعه للتغيير المستمر، وأضحى نتاجاً لعملية الاستهلاك بلا غرض نهائي.
لا معنى للتخطيط على المستوى البعيد، في عصر السيولة والذوبان، فالأمور خاضعة للآنية والمدة القصيرة، لهذا أغلب الفيديوهات والأكثر مشاهدة على اليوتيوب هي ذات مدة قصيرة لا تتجاوز ثلاث إلى عشر دقائق. فالمتلقي (الإصبع الصغير على حد تعبير مشيل سير) صار مهووساً بزر الضغط والتنقل السريع Zapping.
5 - الخوف الأبدي
إننا نعيش في زمن غير مستقر، متغير على الدوام وبلا توقف، خاضع لقانون تخطي الحدود. ما يجعل الحياة في مجتمع السيولة (المابعد) يفزع من نهاية الصلاحية، فيبحث عن الجديد وإعادة التدوير. فأضحى الإنسان المعاصر أكثر عرضة للضغط والتوتر، بل إنه مصاب بالخوف المرضي والفزع الأبدي. حيث يغيب الاطمئنان لما يملكه الفرد، الذي يسعى إلى الإشباع الفوري بالقدر الذي يمكنه. وهذا السعي هو الذي يلعب على وتره اليوتيوب، إذ يقدم كل أنواع الفيديوهات بمختلف مدتها الزمنية، أي كل أنواع المتعة التي يبحث عنها الأفراد بمختلف هوياتهم وأعمارهم.. فيتحقق ما يقول عنه باومان بأنه فزع العلاقات الاجتماعية المتولد عن النزعة الفردانية، حيث ينعدم التواصل ويصير سطحياً. فالمستهلكون وإن يلتقوا في الفضاءات العمومية (يمكن اعتبار اليوتيوب فضاء عمومياً) فهم لا يحققون أي تفاعل وتواصل اجتماعي فيما بينهم.
قد يظن المرء أن كل شيء يسير على ما يرام مع هذه المنصة، وأنه معها لا يؤدي الأمر إلا إلى تطور جيد للمجتمع؛ ولكن قد لا يكون هذا هو الحال تماماً. في الواقع، إنّ وفرة المعلومات التي يتم تقديمها باستمرار تجعل الفرد أكثر تكاسلاً. فالمستهلكون لا يذهبون نحو المحتوى، فهم يميلون إلى السماح له بالوصول إليهم. من الواضح أن وجود الكثير من المعلومات في متناول اليد يوفر الكثير من الوقت، ولكنه ليس بالضرورة مفيداً في ظل سيادة اللايقن، وانتشار الشائعات، وغَلبة النزعة الاستهلاكية والبحث عن الربح السريع والدسم، فالمتلقي لا تهمه إلا المعلومة الدسمة والسريعة.
لقد بات الفرد منعزلاً بشكل متزايد، وصار خادماً للاقتصاد والرأسمالية، بل إنه سلعة مثله مثل باقي السلع التي يتم عرضها في المحلات الكبرى. يبيع اليوتيوب (المشاهدين) للمُشْهِرين، فأنت سلعة قابلة للبيع مع كل كبسة زر ومع كل مشاهدة. بل إن واضعي الفيديوهات أنفسهم لا سلطة لهم على الإشهار الذي يتخلل مقاطعهم المصورة.
ولأن زائري المنصة لا يبحثون إلا عن المعلومة الحالية والآنية لاكتساب (مكانة)، وعدم الوقوع في خانة (الجهل)، ما قد يشكل وقعاً كبيراً على مكانتهم بين أقرانهم، ما يخضعهم للفزع المستمر من فقدان هذه المكانة. لهذا لا يفتأ الزوار يَعُودون بلا انقطاع إلى المنصة، مُحَيّنِينَ خاصية option (المستجدات)، أو تفعيل خاصية استقبال المستجد على هواتفهم المحمولة الذكية. إنه هلع لا يمكن إدارته.
6 - المراقبة الذائبة
لا تنفصل وسائل التواصل الاجتماعي، بما فيها اليوتيوب، عن مآلات المراقبة السائلة، هذه المراقبة التي تذوب في كل المؤسسات والفضاءات الواقعية والافتراضية، وفي كل تفاصيلنا اليومية. بعد أحداث 11 أيلول 2001 بات العالم أكثر هلعاً وأكثر حيطة وحذراً من تنقل المعلومة عبر الإنترنيت، الذي ساهم في انتشار الأفكار المتطرفة، وقد كانت منصة اليوتيوب أرضاً خصبة لأصحاب الفكر الإرهابي، لم تستثنِ المراقبة أحداً. ومعها بات اليوتيوب خاضعاً لخورزميات المراقبة المشددة التي لا تفتأ على التطور بمدى توسع المنصة وشساعتها. فقد اتسعت دائرة (الخوف من الآخر)، الآخر الذي يفسره زيغمونت باومان على أنه ليس ذلك الغريب أو البعيد، بل إنه أحد المقربين والجيران وأفراد العائلة. هذا الخوف هو الذي سيولد إدمان المراقبة وهلوساتها، إذ بات الكل خطراً لا بد الاحتياط منه ومراقبته. فيغدو اليوتيوب سجناً شديد المراقبة، حيث الرواد والزوار هم السجناء الذي يدورون في غرف دائرية دونما أن يعلموا هل هم مراقبون أو لا. إنه سجن (البانوبتيكون)، حيث يراقب المواطنون بعضهم البعض (فوكو، المراقبة والعقاب)، وهم خاضعون للتجسس، فكم نصادف إعلانات لأغراض لم نبحث عنها لكننا وبين أنفسنا نريدها. إننا خاضعون لشاشات الرصد كما هو الحال في رواية جورج أورويل (1984)، إذ أن المواطنين مجبرون على فتح تلك الشاشات التي تظل تراقبهم بلا انقطاع، حتى في غرف نومهم.
إن اليوتيوب من حيث أنه بات جزءاً من (العصر السائل)، فهو منصة لا تنفصل عن التطور القائم على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، إلا أنه بشكل من الأشكال هو: (الأخ الأكبر الذي يراقبك)!

ذو صلة