مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

فتنة الرواية

هي في المقام الأول، فتنة الحكاية، ذلك أن منظومة الأفكار التي تشكل وعينا ونظرتنا إلى العالم ما وضح منه وما خفي، ما وقع لنا ولسوانا، وما حدث في الواقع أو في منطقة الخيال الفسيحة؛ كلها تستند في المقام الأول على الحكاية، لكي نبرر وجودنا. فنحن نبتدع لنا حكاية ما، كي نفسر ما يحدث لنا، أو حتى كي نتفكر في القيم التي نسير عليها، أو الجمال والقبح اللذين يتناوبان مسيرة الحياة، لذا فإن ملجأنا هو الحكاية، حتى أن لا وجود لنا خارج الحكاية، ولا نجاح خارج سطوة الحكاية. من قلب هذه الأهمية المترعة بالمتعة والتي تفتح الأبواب على مصاريعها لعالم فانتازي مجدول باقتدار مع طوب الواقع الصلب؛ من قلب هذه الفتنة جاءت فتنة الرواية.
الرواية ابنة عصرية للحكاية التي عرفها البشر منذ فجر التاريخ، لذلك لا تجد لتلك الروايات التي تجنح للغة وسيلةً وهدفاً متناسية أمر الحكاية أو مهمشة دورها؛ لا تجد لمثل تلك الروايات قبولاً، قد تدخل في مجال الفلسفة أو اللعب اللغوي أو التجريب الحر أكثر من قدرتها على إقامة بنيان روائي. حتى حين تجد بعض الروائيين يتحلون ببراعة مذهلة في رسم الشخصيات، لكنهم يفلتون الحكاية؛ ستكون -قارئاً ومحللاً- ملزماً باكتشاف حكاية ما وراء هذه الشخوص، وإلا انعدمت المتعة وضاع جزء مهم جداً في الوصول إلى غاية.
لكن الأمر ينطوي على خطورة عالية، ذلك أن الحكايات منتشرة كالهواء والماء. وصيادو الحكايات لديهم افتتان بما يحصل لكتاب الرواية من اهتمام وعناية في عصرنا الراهن على الأقل، هكذا ستصطدم كل يوم بمن يعتقدون أن حكاياتهم تستحق أن تكتب، وإذا كانت كل الحكايات تستحق أن تكتب مهما بدت عابرة، فليس كل من حمل القلم يحق له كتابة تلك الحكايات، ذلك أن اللغة وعاء الحكاية ولا يجدر التعامل معها باستهانة، فلسنا نثرثر ولكننا ندخل عالم الفن العالي المقام والذي يتطلب احتراماً وافياً للغة. تتطلب العناصر الأخرى ذات الاهتمام والعناية، اللغة، الأسلوب، بناء الشخصيات، معمار الشكل الروائي، المعرفة التي يتحلى بها الكاتب، ثم موهبته وقدرته الفذة على مزج المعايير بصورة دقيقة لصناعة فاكهة الرواية الحقيقية. أي خلل في واحد من تلك العناصر سيقود حتماً إلى ضعف في النص.
الخلل واقع بالتأكيد، حتى مع أعظم كتاب الرواية، لأن الكمال لم يكن ولن يكون، ولكننا نسعى إليه بشغف متأكدين من عدم الوصول إليه، بما يشبه الرغبة العارمة لدى البشر في الخلود رغم يقينهم أن الخلود لن يتسنى لنا. في الرواية لا يبرر الخلل في كل نص الرضا بالنصوص الضعيفة، تلك التي لغتها معتلة وخيالها سقيم، وحكايتها مملة ومعرفتها ناقصة. هي معادلة صعبة، يفلح الكاتب الجيد في تحقيق نسبة من نجاحها، ويفشل أنصاف الكتاب والمدعون في إنجازها تماماً، يحدث هذا كثيراً حولنا، وإلا ماذا يمكن وصف هذا السيل الجارف من الأعمال الروائية التي تقذف بها المطابع يومياً؟ تلك التي تخرب ذائقتنا وتفسد منطقنا وقدرتنا على الحكم السديد بما يتسنى لها من مراجعات نقدية إخوانية مادحة أو منتفعة حيث لا يصلح المديح.
أخطر ما تسببه تلك الظاهرة النقدية العرجاء لا يتمثل في ترويج العادي والسيئ على أنه النموذج، مما يدفع بالمزيد من المغامرين الطامحين إلى رؤية أسمائهم على أغلفة الكتب، وصورهم في الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي؛ الخطورة الحقيقية هي خلق جو عام من الصمت المتآمر، وأكثر، من التصفيق المجاني، أحياناً بسبب البهرجة الاحتفالية، وأحياناً لاعتبارات الصداقة التي تحتم الصمت عن تواضع المنتج لصالح الكاتب الصديق الطيب، وأحياناً أخرى لتفادي الوقوف في مرمى نيران الساحة الثقافية حيث يكثر التراشق بالاتهامات أقلها الحسد والغيرة، كل هذه العوامل مجتمعة تتسبب في تراجع الحركة النقدية من جهة، واستمرار المنتج السيئ نموذجاً يحتذى.
المعضلة الأهم في تقديري هي التراجع المعرفي لكتاب الرواية، أحياناً يتمكن نص واحد يتيم من اختراق الشرط المعرفي مقدماً مثلاً تجربة حياتية صادقة وحارة، تجعل منه نصاً ناجحاً، ولكن تلك الحالة سريعة الأفول إذا لم ترفد بالعمق الثقافي والمعرفي والقدرة على تحليل العالم وإيجاد وجهة نظر في كل تفاصيله الصغيرة والكبيرة، إذ يستحيل إنتاج مشروع روائي يستند إلى ضربة الحظ الخاطفة، ولا بد من تلك العناصر للروائي، لن ينقذه معرفته بحكاية ما يكتبها دون الإلمام بالعناصر الأخرى، كما لن يستطيع ناشر ذكي ترويج سلعة منقوصة إلا لفترة وجيزة، ولن يتمكن صحفي بسيط الأدوات أو ناقد منتفع من إقناع الناس أن الإلياذة كتبت مجدداً، مهما قيل فيها من مدائح وما حققته من انتشار تجاري أو إعلامي.
ربما بات مهماً الإفلات من فتنة أن تكون روائياً إلى تحقيق فتنة الرواية الحقيقية، وربما بات مهماً جداً أن يرحم أرتال الكتاب جذوع الشجر التي صارت ورقاً تهدر فوقه أحبار وأفكار ومشاعر وأوقات القراء.

ذو صلة