مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

ترجمة نادرة ومهمة بقلم الزركلي

 لم يُعرف للزركلي ترجمة ذاتية بخطه سوى تلك التي نشرها في المجلد الأخير من كتاب الأعلام. ومن نعم الله على كاتب هذا المقال أن عنده سبع تراجم بخط الزركلي، ظفرت بها من طريفة بنت خيرالدين الزركلي رحمهما الله تعالى عام 2003 وهي تراجم مختصرة في أوراق متفرقة، وكتبت في أزمان مختلفة، ويشبه بعضها البعض في الأغلب، وتنفرد من بينها هذه الترجمة موضوع المقال. وقد كتب الزركلي هذه الترجمة النادرة والمهمة عام 1934، وهو عام الالتحاق بالملك عبدالعزيز والعمل في الدبلوماسية السعودية.
وتكمن أهمية هذه الترجمة من بين تلك التراجم في أنها تكشف عن جانب مهم في حياته لا يكاد يعرفه أحد، وهي علاقته بالوالي العثماني جمال باشا الملقب بـ(السفاح) (1872 - 1922م) ومدحه إياه بأربع قصائد، وانتدابه لتأليف كتاب في تراجم شعراء جمال باشا وما قالوا به من مديح.
وكان سبب هذا دعوة الزركلي للخدمة العسكرية في الجيش العثماني إبّان الحرب العالمية الأولى والتحاقه بها ستة أشهر ثم هربه منها وتهديده مع مَن توارى بالقتل، فلجأ الزركلي إلى إرضاء جمال باشا بأربع قصائد مديح، لأن الزركلي كما قلت لم يثبتها في ترجمته، واكتفى بقوله: إنه أساء للشعر بذلك المديح. ولم نعرف بعدُ أيّاً من تلك القصائد لأن الزركلي، لم يثبتها في ترجمته ولا في ديوانه، وأظن أنه لو بقي جمال باشا حيّاً حتى عام 1925 (وهو تاريخ نشر ديوان الزركلي) وبقي العثمانيون يحكمون البلاد العربية، لنشر تلك القصائد، فللضرورات أحكام قاسية أحياناً على الأديب.
 غير أني وجدت المؤرخ الأردني سليمان الموسى أثبت في كتابه (وجوه وملامح) ص84 مطلعاً لإحدى تلك القصائد نقلاً عن الأستاذ محمد الشريقي:
احنُوا الرؤوسَ وردّدوا النظراتِ
        هذا جمالُ مفرّجُ الكُرباتِ
 وهذا أوان نشر تلك الترجمة بقلمه، وسأثبتها بخطه أيضاً:خير الدين بن محمود بن محمد بن محمد بن علي بن فارس الزركلي. ولدت في بيروت من أبوين دمشقيين، وكان أبي يتعاطى التجارة فيها. وعاد أبي إلى دمشق ولي من العمر سبع سنين، فتعلمت في بعض مدارسها الابتدائية ولي من العمر (2). وخلف لي والدة وثلاث شقائق، فتعلمت البيع والشراء في بعض المحال التجارية، ثم افتتحت متجراً. عكفت على طلب العلم ليلاً، فقرأت على الشيخ جمال الدين القاسمي، والشيخ أبي الخير الميداني، والشيخ عبدالقادر بدران وغيرهم، وأتيت بأستاذ يعلّمني اللغة الفرنسية، وتبرعت مدة سنتين بدروس لمدرسة الشيخ كامل، ونشرت أبحاثاً مختلفة في الصحف وتوليت تحريرها وواصلتُ جريدة (الاتحاد العثماني) ثم (الإصلاح) للشيخ أحمد طبارة برسائل يومية، ودخلت حزب الائتلاف.
 وفي أواخر سنة 1912هاجرت بعائلتي إلى بيروت منقطعاً للدرس، فدخلت الكلية العلمانية أتعلم الفرنسية، وأعلَّم العربية والتاريخ والجغرافية، ودرست (انتسبت) فيها جمعية النهضة العربية (3) ونشبت الحرب العامة سنة 1914، فعدت إلى دمشق، ودُعيت لأكون من ضباط الاحتياط (كوجك ضابط) فامتنعت، وكانت (قرعتي العسكرية) تخوّلني ذلك، ولبثت بلا عمل إلى سنة 1916، فدُعيتُ إلى الجندية فدخلتها (جنديّاً) وظللت نحو ستة أشهر، ثم تواريت واشتدّ علي الطلب فتواريت مع مَن توارى بالقتل، فلجأت إلى إرضاء السفاح التركي أحمد جمال باشا، فأسأت إلى الشعر باستخدامه في مدحي له بأربع قصائد فأعفاني من الجندية، وانتدبني لتأليف كتاب في تراجم شعرائه وما قالوا به فعكفت على الاشتغال بما سبق لي البدء به من جمع التراجم لكتاب (الأعلام) ومطلتُ جمالاً في الكتاب الذي أراده متظاهراً بالعمل في إنجازه (4). ولما دخل العرب والبريطانيون دمشق أصدرتُ مع إبراهيم حلمي العمر جريدة (لسان العرب) ثم مع يوسف حيدر جريدة (المفيد) فاستمرت إلى يوم دخل الفرنسيون دمشق -وقد تعطلت قبل دمشق مدة شهرين على أثر احتراق مطبعتها- وبعد وقعة ميسلون برحتُ دمشق إلى حيفا ثم إلى مصر، فدعاني الملك حسين إلى مكة، فمكثتُ في ضيافته نحو أربعة أشهر، وانتدبني هو وابنه الأمير زيد لتسهيل دخول ابنه الأمير عبدالله بلاد شرقي الأردن، فعدت يصحبني يوسف ياسين فمررت بمصر والقدس، ودخلت عمان، وقد أصدرت المحكمة العسكرية في دمشق حكمها عليّ مع جماعة من الوطنيين بالإعدام، فأقمتُ في خيمة بظاهر عمان نحو شهرين، واشتركت في إنشاء حكومتها بعد أن دخلها عبدالله، ثم أبلغتني حكومة دمشق أن الجمهورية الإفرنسية أصدرت قراراً بتأجيل تنفيذ الحكم الصادر بإعدامي، فاهتبلت الفرصة ودخلت دمشق ونقلت منها عائلتي إلى عمّان وفي نحو سنتين كان عملي فيها مفتشاً للمعارف ثم رئيساً لديوان رئاسة الحكومة، وقد ودوّنتُ بعض مشاهداتي في الحجاز وشرقي الأردن في كتابين مطبوعين، أحدهما (ما رأيت وما سمعت) والثاني (عامان في عمان) وانتقلت إلى مصر سنة 1923 فأنشأتُ المطبعة العربية ومكتبتها، ونشرتُ كتباً كثيرة، قديمة وحديثة. فلما شبّت الثورة الاستقلالية في سورية (سنة 1924) قرأت في صحف دمشق أن السلطة الإفرنسية أبطلت قرارها الصادر بتأجيل تنفيذ الحكم فيّ، وأعادت الحجز على ما أملك في سورية. وفي سنة 1928 حذّرني طبيبان من عاقبة انهماكي في عمل الطباعة وكانت قد ساءت صحتي، فاضطررت إلى بيع المطبعة. وفي سنة 1931 اشتركت في إصدار جريدة (الحياة) بالقدس، فنقلتُ إليها عائلتي، ثم احتجبت الجريدة لأسباب لا يد لي فيها، فاعتزلت في بيت لحم، ودعيت للعمل في الحكومة العربية لوكالتها ثم لمفوضيتها بمصر.
 كتبي المطبوعة: الأعلام، عامان في عمان، الديوان، ومجدولين والشاعر، الأناشيد الوطنية.
كتبي التي لم تطبع: مستدرك الأعلام، الجزء الثاني من عامان في عمان، الجزء الثاني من الديوان، صفحة مجهولة من تاريخ سورية في العهد الفيصلي، يوميات الثورة الاستقلالية في سورية، معجم ما ليس في المعاجم، الأمثال.
 نسبتي: الزركلي، بكسر الزاي والراء وسكون الكاف، لفظ محرّف عن (أزرقي) وقد أصبح عندي بحكم اليقين أن العشائر الكردية التي لا تزال في كردستان، وقد هاجر أحد جدودي منها إلى سورية من زمن طويل، كلها عربية الأصل من الأزارقة الذين قاتلهم المهلّب، وأجلاهم من العراق فلجأوا إلى بلاد الكرد، وفي تواريخ الكرد ما يؤيد ذلك.
 وبعد، فهذه ترجمة مهمة تنشر لأول مرة، تضيء طريقاً في سيرة الزركلي لمن رام التوسع فيها.
-----------------------
(1) علمت أنه نشرها في جريدة الشرق العربي، ولم أستطع الاطلاع عليها.
ووجدنا الزركلي يعتذر عن هذه القصائد بقصيدة (الضرورة) من ثلاثة أبيات في ديوانه (ص49) وإن لم يشر إلى ذلك:
مدحتُكم وبودّي لو هجوتُكمُ
لو أُطلق الحكمُ لي في منطقي ويدي
حكمتُمُ فظلمتمْ فاتخذتُ فمي
والشِّعـرَ دِرعاً أقي من شرَّكم جسدي
ضرورةٌ أحوجتْني لامتداحِكُمُ
وللضرورةِ حكمٌ غيرُ مُطَّردِ
(2) ولم يذكر شيئاً.
(3) هكذا بخطه.
(4) اطلع عليه أستاذنا إبراهيم شبوح، الذي قال لي إني رأيت خط جمال باشا عليه وكتب: يطبع على نفقتنا.

ذو صلة