إن الحرب الدائرة رحاها جزء منها تجاري وجزء دفاعي-إلكتروني. وأصداء الصراع المدوية تزداد ضجيجاً بينما تناور الدول (والشركات على حد سواء) لأجل حماية أصول التقنية المتقدمة الخاصة بها. أعلن رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي (Shinzo Abe) مؤخراً أن اليابان ستشدد ضوابط التصدير للتقنيات المتقدمة استجابةً للقيود التجارية الأمريكية الجديدة التي تستهدف الصين، بحسب ما أفادت صحيفة يوميوري شينبون اليومية.
وتنطلق المصالح في عالم المال والأعمال والمصالح الجيوسياسية من سلسلة ردود الأفعال المتعاقبة هذه، رغم أن غالبية الخبراء الاقتصاديين الغربيين يميلون إلى التحيز للسوق الحرة. ويرى الساسة القضية على نحو متزايد سبباً داعياً لحماية المصالح القومية، وإقامة جدران نارية افتراضية.
ومن بين أكثر الحالات التي راقبناها عن كثب، وأثارت مخاوف الأمن القومي في الولايات المتحدة، والعديد من دول الاتحاد الأوروبي بعد ذلك؛ كانت حالة شركة هاواوي، ففي عام 2012، حذرت لجنة تابعة للكونجرس الأمريكي من أن شركة الاتصالات الصينية العملاقة، بالإضافة إلى شركة ZTE، وهي شركة صينية رائدة أخرى، يمكن أن تشكل تهديداً أمنياً حيث يمكن تطويع معدات البنية التحتية لعتادها وأجهزتها المحمولة للتجسس لصالح الحكومة الصينية. وقد أنكرت الشركتان جميع الادعاءات، ولكن في عام 2018، مررت الولايات المتحدة مشروع قانون يحظر على الهيئات الحكومية التعامل مع شركتي هاواوي وZTE والعديد من الشركات الصينية الأخرى بسبب المخاوف الأمنية.
وأفاد مسؤولون أمريكيون بأن الصين بوسعها مطالبة شركات التصنيع الصينية بصنع ثغرات خفية للتجسس داخل أجهزتها. وشملت المواجهة المستمرة أيضاً عملية اعتقال معقدة في كندا لمنغ وانزو (Meng Wanzhou) رئيسة القسم المالي لشركة هاواوي وابنة مؤسس الشركة. غير أن الأسئلة الأهم تتجاوز أي قضية فردية؛ حيث تتساءل الدول: كيف (وإلى أي مدى) يتعين عليها حماية التقنية الحساسة التي تتجاوز حدودها؟ إليكم طبيعة القضية في خمس دول حول العالم:
الصين
الرهانات: في بحر جيل واحد فقط لا غير، تحول الاقتصاد الصيني من صناعة الأحذية الرياضية إلى المنافسة على أحدث الابتكارات التكنولوجية. وصرحت جانين داو (Jeanine Daou)، خبيرة الضرائب في شركة برايس ووتر هاوس كوبرز (PwC) في مقابلة شخصية لها أجرتها لها صحيفة (نيكي آجيان ريفيو) (Nikkei Asian Review) قائلة: (يبدو أن الصين (...) تعكف على تنفيذ إستراتيجية طويلة الأجل تقر بميزتها التنافسية في قطاع التصنيع، وتتجه في الوقت ذاته نحو الهيمنة على القيمة الحقيقية في سلسلة الإمداد الحديثة، ألا وهي الملكية الفكرية).
التدابير الأمنية الراهنة:
- يجوز لشركات التجارة المُرخصة من الدولة تصدير المواد العسكرية حصراً، ومن الممكن للشركات المالكة لرخصة مراقبة الصادرات تصدير أصناف مزدوجة الاستخدام فقط.
- وفقاً للبروتوكولات الجديدة، يجوز أن تكون الأصناف المُصنعة في الخارج عرضة للرقابة الصينية على الصادرات إذا كان محتوى تلك الأصناف من أصل صيني. ومع ذلك، فالبروتوكولات ذاتها تسري بالفعل في الولايات المتحدة، ويبدو أن الصين تقتدي بنموذج طيب.
الخلاصة: من المقرر أن تسن الصين الآن قانوناً جديداً للرقابة على الصادرات بعد مشروع القانون الأول الصادر عام 2017. وسيحظر القانون الجديد نقل الأصناف الخاضعة للرقابة من الصين إلى أي بلد أجنبي أو منطقة أجنبية، بما في ذلك هونغ كونغ وماكاو وتايوان. ويوحي تحليل مشروع القانون بأن القانون الجديد سيعزز سلطة الحكومة فيما يتعلق بتنظيم تصدير الأصناف العسكرية والنووية والبيولوجية والكيميائية والأصناف مزدوجة الاستخدام.
الولايات المتحدة
الرهانات: اصطدمت الطموحات التقنية للصين بنزعة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحمائية. فعندما وضع مكتب الصناعة والأمن التابع لوزارة التجارة الأمريكية قائمةً بـ(التقنيات الناشئة)؛ أورد التقنيات المتعلقة بالقطاعات المحددة في إستراتيجية (صنع في الصين 2025). فضلاً عن ذلك، في فبراير، وصف ترامب إمكانات الذكاء الاصطناعي بأنها (ذات أهمية بالغة للحفاظ على الأمن الاقتصادي والقومي)، وأطلق مبادرة الذكاء الاصطناعي الأمريكي. ورغم ذلك، فالشركات المُطَوِّرَة المستقرة في الأراضي الأمريكية في مجالات الروبوتات والتكنولوجية الحيوية والذكاء الاصطناعي هي شركات خاصة متعددة الجنسيات قوية تستفيد من التجارة العالمية الحرة.
التدابير الأمنية الأساسية:
- تقيد وزارة التجارة الأمريكية الإفصاح عن التقنيات الحساسة خارج حدود الولايات المتحدة أو بمعرفة أشخاص غير أمريكيين، بما في ذلك الإفصاح عنها داخل الشركات.
- تم التوقيع على قانون إصلاح الرقابة على الصادرات الجديد بغية فرض ضوابط تصديرية على التقنيات الناشئة مثل التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الملاحة وتحديد المواقع والتوقيت وتكنولوجيا المعالجات الدقيقة والتكنولوجيا الحوسبية المتقدمة وتكنولوجيا تحليلات البيانات والروبوتات.. وغير ذلك الكثير من التقنيات.
الخلاصة: تحذر مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار (ITIF) في تقرير حديث لها الحكومة الأمريكية من أن القيود الجديدة ستضر بمصالح الدولة. علاوة على ذلك، فمن الممكن أيضاً أن تُبطئ تلك القيود عمليات تطوير المنتجات وتحد من قدرة الشركات الأمريكية على استقطاب أصحاب المواهب على المستوى الدولي. ولقد قدرت مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار أيضاً الضرر، حيث صرحت بأن الشركات الأمريكية من الممكن أن تخسر ما بين 14,1 و56,3 مليار دولار أمريكي قيمة مبيعات الصادرات على مدار خمس سنوات، وتفقد فرصاً تصديرية تهدد ما بين 18 و74 ألف وظيفة.
سويسرا
الرهانات: لسويسرا مصلحة قوية، انطلاقاً من اقتصادها المعتمد على التصدير والتمويل وتاريخها الحيادي؛ في الحيلولة دون تدابير الحمائية التجارية والحد من السرقة السيبرانية. وحقيقة الأمر أن الحكومة السويسرية هي التي أشعلت فتيل نزاع العام المنصرم في منظمة التجارة العالمية ضد تدابير تعديل الواردات التي فرضتها الولايات المتحدة، وما زال النزاع محتدماً إلى الآن.
التدابير الأمنية الأساسية:
- تخضع ضوابط تصدير المنتجات الصناعية مزدوجة الاستخدام وسلع عسكرية محددة إلى تنظيم مجموعة من الاتفاقيات الدولية، مثل اتفاق واسينار (Wassenaar Arrangement).
- وفقاً لأحدث تقرير لمنظمة التجارة العالمية، ليس لدى سويسرا قانون لمكافحة الإغراق أو للتدابير التعويضية أو قانون للضمانات، ولم يسبق لها تطبيق مثل هذه التدابير قط.
- إن قائمة السلع الخاضعة لحظر الاستيراد محدودة نسبياً، وتشمل تلك القائمة الأنواع المهددة بالانقراض والأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية، ومواد سامة وكيميائية خطرة بيئياً محددة، وبطاريات زنك وكربون محددة و(فجأة!) البطاطس والطماطم الواردة من الدول غير الأوروبية.
الخلاصة: تعمل سويسرا على إنشاء معهد دولي للأمن السيبراني. والغاية منه تعزيز السلوك الإيجابي والمسؤول في الفضاء الإلكتروني، خصوصاً بالامتثال بقدر أكبر بالقوانين واللوائح الدولية.
روسيا
الرهانات: شهدت سوق تقنية المعلومات في روسيا نمواً ارتقى بها إلى مصاف الدول عالمياً، حيث تنوعت أنشطتها ما بين الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والواقع الافتراضي والطب البعادي -بحسب إدارة التجارة العالمية. وبدأ الاقتصاد الكلي لروسيا يتعافى من كساد طويل، والفضل في ذلك يرجع نوعاً ما إلى زيادة الطلب على خدمات تقنية المعلومات، حيث استطاع المبرمجون الروس المنافسة إلى حد كبير استناداً إلى التكاليف الأقل. وأسرع قطاعات روسيا نمواً هي الاستضافة والبرمجيات والصيانة والإدارة وتخصيص البرمجيات وخدمات أمن المعلومات. وفي عام 2007، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بأن تطوير الصناعات التي أمست جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد الإبداعي سيتكئ على المؤسسات الحكومية. وبتأسيس المؤسسات المناسبة وتحديد شبكة من التقنيات المتقدمة النامية؛ التزمت روسيا بإستراتيجية المنافسة على التقنيات المتقدمة في السوق الحرة.
التدابير الأمينة الحالية: لا تُذكر.
الخلاصة: تُعنى روسيا حالياً بمكافحة العقوبات المفروضة عليها بقدر أكبر من تقييد صادراتها. ورغم ذلك، فالدولة تراقب عن كثب التحركات الصينية والأمريكية في هذا الصدد، ولا شك أنها على أهبة الاستعداد للاستجابة.
المملكة المتحدة
الرهانات: (لو كنت تتاجر في أي سلع أو خدمات مع الاتحاد الأوروبي، فلا بد أن تتأهب لانسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي...). هذا هو التحذير الوارد نصاً على موقع الحكومة البريطانية الرسمي. والموعد النهائي للانسحاب هو الحادي والثلاثون من أكتوبر، واحتمالات عدم التوصل إلى اتفاق قائمة جداً.
التدابير الأمنية الأساسية:
- في عام 2018، جرى تعزيز نظم الجزاءات المفروضة بجزاءات إضافية على الأصناف ذات الاستخدام المزدوج (ويراد بها السلع التي لها استخدامات مدنية وعسكرية في آن واحد) المُصدّرَة إلى ماينمار، وفُرضت عقوبات جديدة على روسيا.
- اتخذت الحكومة الإنجليزية أيضاً تدابير لضمان سريان الضوابط التصديرية بعد مغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي. ومن بين هذه التدابير اللوائح المتعلقة بالأصناف ذات الاستخدام المزدوج والأسلحة النارية.. إلخ، ولوائح ضوابط التصدير التي تبنتها المملكة المتحدة بدايةً من عام 2019.
الخلاصة: في يوليو 2018، تقدمت رئيسة الوزراء تيريزا ماي بتقرير رسمي حول الأمن القومي والاستثمار، واقترحت فيه أنه ينبغي إخطار الحكومة بأي اتفاق تجاري، مهما كان حجمه، يفاقم من المخاوف الأمنية القومية المحتملة. وسيُناط بمكتب رئيس الوزراء البريطاني الحالي بوريس جونسون (Boris Johnson) أن يقرر مصير ذاك التقرير الرسمي. غير أن إقدامه على تحرير نظام الهجرة للطلاب الأجانب عَدَّه كثيرون أمارة على اقتصاد أكثر انفتاحاً حتى لو لم تجرِ الأمور على خير ما يرام بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي - بحسب ما أفادت صحيفة (فاينانشيال تايمز) البريطانية.